قبلت كلبها الصغير ذا الفروة البيضاء الناعمة بحنية بالغة تفوق في حنيتها قبلة الأم لرضيعها، و ألقت عليه بلحافها الناعم الدفيء الذي كانت مغطاة به و هي تلقي جسدها فوق سريرها في وضع مرتاح تماما، و كلبها يتقلب فوق ساقيها الناعمين اللذين انكشف بياضهما الثلجي من تحت ثوبها الحريري الأزرق، و كان الكلب يتنقل بين كل طرف من أطراف السرير بدلال مصدراً نباحاً خفيفاً، و كانت أصابعها تغوص في فروته الناعمة و هي تداعبه و تمطره بكلمات عطوفة جداً من قبيل "يا حبيبي.. يا روح قلبي.. يا جميل.. يا كوكو" و التي لو أن ذلك الطفل الذي كان يقبع تحت شباكها في البرد سمع منها كلمة واحدة، لكان قد قذف بعقب السيجارة الذي كان في يده و امتنع عن التحدث بكلماته البذيئة و أفعاله المؤذية و ارتمي في أحضان من يشمله بحنانه و عطفه. و ليس هناك حاجة لوصف حال طفل متشرد تغطي يديه قذارة سوداء و له أظافر طويلة اسود لونها مما التصق بها من قذارة، و له شعر أجعد اتخذت الحشرات منه مسكناً لها، بينما عيناه المنهكتان كانتا تنظران نظرة تبدو أنها حالمة و قاسية في نفس الوقت، و هو يجلس علي الرصيف في ليلة شتوية باردة لا يحميه من بردها القارس سوي قطعة خرقاء من الصوف، لم تكن تغطي إلا صدره المرتعش و جزء من رجليه المنكمشتين، و لا يقيه من الجوع سوي بقايا فضلات طعام تحصل عليها من القمامة. و كانت فرحته لا تضاهي لمجرد أن علبة صفيحية سقطت فوق رأسه، صحيح أنه تألم لأنها ارتطمت برأسه بقوة، إلا أن ألمها لم يكن أكثر قسوة من ألم الجوع في برد الشتاء، فقد كانت تلك العلبة الصفيحية بها كمية من الطعام تكفيه ليلته تلك، كانت الفتاة قد ألقت بها من الشباك لما رفض كلبها أن يأكل ما تبقي فيها من طعام للكلاب، و ظل الكلب يروح ذهاباً و إياباً مصدراً نباحه المتدلل حتي أتت له بطعام من نوع آخر، فكان يهز ذيله بابتهاج، و كلما هز ذيله ابتهجت الفتاة أكثر و أكثر و بقيت تضحك و هي تراه يتقلب أمامها في دلال، و كان الطفل يتقلب أيضاً تحت شباكها، لكن تقلبه لم يكن ابتهاجاً و انما ارتعاداً من البرد و خوفاً من الجوع. مرت الليلة و نام كلاهما، الكلب و الطفل، كلاهما علي حاله حتي صعدت شمس النهار في السماء، فقفز الكلب بنشاط و ظل يوقظ الفتاة حتي قامت هي أيضاً، و كان لها خادمة يبدو علي ملامحها أنها آسيوية، و كانت الخادمة تعرف موعد نزهة الكلب اليومية، من الساعة الثامنة صباحاً حتي التاسعة، و دون حتي أن تأمرها الفتاة، أخذت الكلب لنزهته اليومية و جعلت تطبطب علي ظهر الكلب أمام سيدتها و هي تبتسم ابتسامة كاذبة لها و للكلب، ثم خرجت إلي الشارع، و مرت بجوار ذلك الطفل المشرد الذي كان لايزال قابعاً علي حاله علي الرصيف و هو لايزال نائماً بينما جسده يرتعش من البرد و هو يتنفس من فمه المفتوح الذي تمر فوقه الذبابات و تستقر علي وجهه الحشرات الصغيرة، بينما العلبة الصفيحية تلك بقيت ملقاة جانبه و قد أصبحت فارغة بعد أن أكل الطفل ما قد رفضه الكلب. و لما التفت الكلب إلي تلك العلبة الصفيحية التي لم يغب عن ذهنه أنها طعامه، أصدر نباحاً مخيفاً بصوت عالٍ جداً لدرجة استغربتها الخادمة و جعلت تتشبث بالحبل المربوط فيه الطوق حتي لا ينفلت الكلب من يديها و لكن دون أن تجرؤ علي أن تشده، و راح الكلب يهبش العلبة بجنون أفزع الطفل الذي قام من نومه مروعاً من صوت الكلب و حركاته الجنونية، و هو لايزال ينبح بصوت قوي جداً وصل إلي آذان الفتاة التي كانت لا تزال في سريرها، فاندفعت نحو مدخل العمارة و هي علي حالتها مرتدية سترة خفيفة و شالاً من الفرو ملفوفاً علي كتفيها وقاية من البرد، و هي تهرول نحو البوابة لتجد أن الكلب ينبح و قد قام الطفل المتشرد مذعوراً من نومه و أمسك بحجر يلوح به للكلب من أجل أن يبعده عنه، و علامات الشراسة الممتزجة بالخوف مرسومة علي وجه الطفل المتشرد ، فاندفعت الفتاة نحوه لتنقذ كلبها المسكين من حجرة الطفل الشرس،هكذا فكرت، و راحت فركلت الطفل بقدمها في قسوة بالغة تألم لها الطفل تألماً شديداً و جري بعيداً مرعوباً من أن تطاله يد الفتاة بالضرب أو تنهال علي وجهه الصفعات لمجرد أنه أغضب كلباً. ولم يكن في وسع الخادمة هي الأخري إلا أن تنهال علي الطفل بالشتائم لأنها لم تكن تجرؤ علي أن تشتم الكلب و قد طبطبت علي ظهره أمام سيدتها بابتسامة متصنعة، رغم أنها كانت متعاطفة مع الطفل المشرد و كان قلبها يتمزق من أجله، لأن حاله لم يكن يختلف كثيراً عن حالها في وقت من الأوقات حينما كانت لاتزال صغيرة تسكن الشوارع، و كانت الدموع محبوسة بين جفونها تخشي أن تظهرها أمام سيدتها و هي تري ذلك الطفل يجري وسط الطرق مهروعاً هارباً، من أي شئ لا يعرف؟! أو قد يكون هارباً من كل شئ، هارباً من قسوة البشر و جحود المجتمع و بخل الطبيعة، هارباً من العالم الذي أصبحت فيه قيمة الإنسان مهدرة إلي الدرجة التي أصبح فيها الكلب سيداً و الإنسان عبداً، هارباً من الحياة نفسها و قد تمني لو أنه خلق كلباً، و لكن هارباً إلي أين؟ لم يكن هو نفسه يعرف، إنما كان يجري في الطرقات بلا هدف و صراخ الألم محبوس في حنجرته و نظرة اللامصير تبرز من عينيه الجاحظتين في ذهول تام، بينما ترمقه نظرات المارة باشمئزاز و يبتعد عنه كل شخص لئلا يتأذي من اتساخ يديه أو ملابسه الملوثة بالشحم. كان يجري و يجري تتبعه نظرات الخادمة و الفتاة و الكلب من أول الشارع، حتي صدمته فجأة سيارة كانت تسير مسرعة في الاتجاه المعاكس، فطار جسده النحيل إلي أعلي ثم سقط علي الأرض و قد خرجت أحشاؤه و تحطمت عظامه اللينة، و انتشر الدم علي وجهه الصغير الذي كان لايزال يحمل ابتسامته الطفولية الحزينة، ليتحول إلي جثة هامدة ، بينما فر صاحب السيارة هارباً و جري بسيارته بسرعة أكبر و اختفي عن الأنظار في لحظات، تاركاً الطفل ملقاً علي الأرض غارقاً في دمائه، كما ظل سنواته ملقي علي الرصيف، بل ملقي علي ظهر الدنيا كلها، و لكنه هذة المرة كان قد فارق الحياة. و في أقل من دقائق تجمع الناس، بمن فيهم الفتاة و الكلب، و خادمتها التي كانت تبكي بدموع حارة لم تستطع أن تحبسها هذه المرة، فلم يعد حبسها يجدي نفعاً، تجمعوا في حلقة حول جسده الملقي علي الأسفلت في وسط الطرق، و كانوا يرددون كلمات كثيرة ذابت معانيها وسط هذا الزخم و الأصوات المتداخلة، و كانت تلك هي أول مرة يهتموا فيها لأمر الطفل المشرد، في حين أنه كان في وسعهم أن يشملوه بعطفهم و يهتمون بحاله قبل أن يموت، و لكنه قد مات، و قد تقرر أن يدفن جسده في المقابر العامة مع المشردين أمثاله، و كأنه حتي في الموت بقي مشرداً.