يصبو هذا المقال إلي تأمل صورة روائية بعينها لي معها تاريخ.. يتعلق الأمر بقراءة جزئية، لكنها تطمح علي الرغم من جزئيتها إلي تنوير الرواية كلها من خلال تأمل حلقة فاصلة فيها، وستتجنب هذه القراءة الخوض التفصيلي في القضايا التجنيسية والتصنيفية لهذا العمل الذي يتراوح بين »السيرة« و»الكرامة« و»الرؤيا« و»الرواية« و»الأسطورة«.. وتكتفي بدلاً من ذلك برصد جانب من جوانب تكوينه الجمالي، ويمكن اعتبار هذه المحاولة وصفاً لتجربتي الشخصية في قراءة »سيرة الشيخ نورالدين« للأديب والباحث الأكاديمي أحمد شمس الدين الحجاجي، ونؤكد مرة أخري أنه علي الرغم من الطابع التحديثي لهذه المحاولة، تظل الصورة الكلية للرواية هي البوصلة الهادية للتحليل وغايته المقصودة، وفي سبيل تحقيق تلك الغاية دعنا في البداية نطلع علي الصورة الروائية المعنية بالنصر: »دخل الجميع لرؤيته.. كان وجهه الأسمر محمراً، سئل الشيخ: - بصيري جه؟ رد الحاج: - لا يا با. بعدها أخذ يتمتم بآيات من القرآن الكريم، أخذت التمتمة تعلو وتعلو وقد قوي صوت الشيخ وهو يردد لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الموت حق.. والبعث حق.. اللهم غفرانك.. شعر محمود أن هذا الصوت ليس صوت والده كأنه قادم من عليين ارتفع، ارتفع ثم توقف، وسقط الشيخ علي فراشه في إغماءة طويلة. حضر معظم أطباء الأقصر.. وأجمعوا علي أنهم لا يستطيعون شيئاً للشيخ فقد أصيب بجلطة في المخ.. إنه يقضي لحظاته النهائية ليرحل بعيداً إلي حيث أجداده.. كان يبدو علي الوجه معاناة، ظهرت التجاعيد وبرزت عظام الوجه ثم خفت الصوت تماماً في الساعة التاسعة والنصف مساء لتظهر ابتسامة واضحة علي الوجه ولتختفي التجاعيد ويكتسي الوجه بلحم الشباب ويبدو الشيخ في قمة وسامته جميلاً وحيّاً يعيش سلام صاحب اليقين. صرخ أبوالمجد مات الشيخ نورالدين.. الأمر لله..«. موضع هذه الصورة الروائية في الفصل الثامن عشر من »سيرة الشيخ نورالدين« ولابد أن ينتبه القارئ المتأمل إلي أن الفصل المذكور كان ميدان التغييرات الكبيرة، وتصفية عديد من الحسابات المعلقة في مدينة الأقصر في صعيد مصر، فضلاً عن حدث وفاة أبرز شخصية في الكتاب كله.. في تلك الفترة ظهر السمك اللذيذ بكثافة، ودلت الإرهاصات علي أن الموسم الفلاحي سيأتي طيباً، ومن الأحداث التي تم البت فيها خلال هذا الفصل الحسم في قرار زواج تريزا الميسورة من صليب الفقير، وكذا زواج حسن بن خليفة من ليلي بنت عمران بعد أخذ ورد طويلين، ومن أكبر المفاجآت التي عرفه الفضل عودة الأستاذ دياب إلي العمل والاستقرار في الأقصر بعد سنوات طويلة قضاها في القاهرة حتي ظن الجميع أنه قطع الصلة بجذوره إلي الأبد بتأثير زوجته المتصلبة، ولكن راوي الرواية شاء أن يكون التغيير شاملاً فجعل الزوجة العنيدة قوية الشخصية ترضخ لقرار زوجها الحاسم بالعودة إلي أهله في الأقصر، وجعلها تنتقل هي الأخري للتعليم هناك فتَحقّق بذلك الوفاق بين الخصمين اللدودين. رجل الأسرار بيد أن أكبر مظاهر التغيير في الفصل وفي الرواية برمتها يتجلي في مرض الشيخ نورالدين الحجاجي ثم وفاته، وشخصية نورالدين تمثل محور العمل كله، بها بدأ وبها انتهي.. هو رجل الولاية والبركة والكرامات والأعاجيب، وهو أيضاً رجل الأسرار كما اعترف بذلك ابنه محمود المنبهر بشخصية والده. »لقد مات نورالدين.. ما أكثر الناس الذين يعرفون نورالدين.. أما هو.. فإنه يتحول بالنسبة له إلي سر من الأسرار.. غير أن هذا السر مات مع صاحبه، اختفي إلي الأبد.. تحول إلي خيال لا وجود له.. لن يعود.. لن يتكرر«. تحدثنا الرواية عن المطاف الذي انتهي بالشيخ نورالدين في الأقصر، بعد أن أحب في القاهرة ودرس، وغامر في الصحراء، وصال وجال في نواحي بلدته، وفي كبره وجد نفسه محط احترام المنطقة كلها بسبب ما عُرف عنه من ورع واستقامة، بذلك أضحي الرجل ولي الناحية وسيدها، يبرم عقود الزواج، ويمنع حالات الطلاق، ويفض المنازعات، ويصلي بالناس، ويستشار في الملمات.. ولعل أكبر الملمات التي هددت مدينة الأقصر إعلان مصلحة الآثار أنها ستهدم الساحة وتزيل المقبرة القديمة في الغد بحثاً عن الآثار الفرعونية، بهذا الخبر المشئوم بدأت الرواية فأثار الأشجان، وأثار ذكريات الشيخ أيضاً.. ولقد توهمت من خلال الصفحات الأولي من الكتاب أن الراوي سينظر إلي سيرة الشيخ نورالدين انطلاقاً من ذلك الحدث الذي أعطاه الأهمية القصوي وجعله مفتتح العمل كله.. إلا أنني اكتشفت لاحقاً أن توهمي لم يكن في محله، حيث إن الراوي فسح المجال إثر ذلك لسرد وقائع أخري لها صلة بتطور حياة الشيخ ورصد بعض مظاهر تأثيره النفسي في ابنه محمود، وكنت أقول بوصفي قارئاً لهذا العمل المنساب كالنهر الوديع، لو اعتصر الراوي حدث الهدم واقترح علينا من خلاله حبكة سردية أخري، ولكنه اختار بدلاً من ذلك سبيلاً سيرياً آخر، وكانت له كل الحرية في اختياره. تدور وقائع الكتاب حول سيرة الشيخ نورالدين منذ الولادة إلي الوفاة وما بعدها، لكن الراوي لا يقدم تلك الوقائع بتسلسل تراتبي، وإنما عن طريق القفز، والرجوع إلي الوراء، والاستطراد وراء الذكريات، ورصد العلاقة المتأرجحة بين الأب المسيطر والابن المنبهر محمود.. في هذا السياق الجمالي وصف الراوي موت الشيخ في صفحة 208 حسب الصورة أعلاه، إلا أن أخبار نورالدين ووقائع حياته لم تنقطع بعد ذلك، بل امتدت إلي صفحة 341، أي إلي آخر الرواية، واعترف بأن هذا »الانزياح الجمالي« آثار انتباهي بحدة وظل يلازمني، بوصفه صورة كلية للرواية، بعد مرور خمس سنوات علي قراءتي الأولي لها.. إنه »انزياح جمالي« جعلني أتساءل وأنا أقرأ ما بعد صفحة 208: »كيف يمكنني أن أصدق مثل هذه الوقائع الحيوية والبطولية في حين كان الراوي قد أخبرني بأن صاحبها قد مات؟«. قد يقول قائل إن من حق الراوي أن يميت الشخصية الروائية متي شاء.. قد يفعل ذلك في بداية العمل، أو في وسطه، أو في خاتمته كما المعهود، وقد يضيف القائل: إن الذي يتحكم في اختيار الوقت المناسب لذلك طبيعة الحبكة الروائية ذاتها، ومقتضيات السرد، وترتيب النتائج علي الأسباب، وارتباط العلة بالمعلول، وسنرد من جانبنا بأن هذا القول صحيح بشقيه.. بيد أننا عندما نرجع إلي رواية »سيرة الشيخ نورالدين« نلفي سياقها الروائي لا يقتضي بالضرورة الحكم علي الشخصية الرئيسية بالموت قبل نهاية العمل بحوالي 133 صفحة. أنا أتحدث هنا عن السياق الروائي أي ما يسمي بالمحكي Recit وليس السياق الخارج عن الرواية، إن الشيخ نورالدين من منظور الحبكة الروائية توفي بحكم المرض وتقدمه في العمر وليس لسبب سردي له صلة بأحداث الرواية، والدليل اللغوي علي ذلك انصراف الراوي عن تحديد حدث روائي بعينه يمكن أن يكون سبب الوفاة.. يقول في صفحة 204: »انتقل خبر مرض الشيخ إلي الأهالي بسرعة وكأن الريح نقلته إليهم فأخذوا يتوافدون علي منزله.. والجميع في حيرة هل هي وعكة.. أم هي مرض خطير؟ إنهم لا يتصورونها النهاية«. والحق أن هذه الحيرة جعلتني أعيد قراءة الرواية أكثر من مرة من أجل تقييم صورة موت الشيخ بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، وفي هذا السياق بدا لي أن الكاتب قد تطلع إلي كتابة نمط من »السيرة الروائية« أكثر مما عمد إلي كتابة رواية بمفهومها الدرامي المحتد.. وبصيغة أخري يمكن القول إن جنس »السيرة« قد تحكم في رواية الأحداث وتلوينها.. وما من شك في أن مقتضيات جنس السيرة تُباين مقتضيات جنس الرواية التي يفترض فيها أن تقوم أساساً علي الصراع الدرامي، من دون أن يعني ذلك خروج هذه السيرة عن امبراطورية الجنس الروائي الشائع الذي تصفه مارت روبير بالجنس الإمبريالي القادر علي استيعاب سائر أجناس التعبير.. ففي السيرة تتحكم طبيعة الشخصية التي نتحدث عنها أكثر مما تتحكم الطبيعة الدرامية ذاتها.. انظر إلي سير العظماء حسبما صاغها ستيفان زيفايج، وسير الشخصيات المشهورة التي لها صلة ما بالأحداث المتحققة في الواقع الخارجي لتتأكد من طبيعة ذلك التحكم، ولا أريد في هذا المجال الخوض في مسألة صلة هذا العمل بمؤلفه الحقيقي.. كما لا أود البحث في حياة المؤلف وتشابه لقبه بلقب الحاج حجاجي أحد أبناء الشيخ، وإنما أتطلع إلي توكيد الصيغة الجمالية التي تحكمت خلالها »حياة الشخصية« في تكوين العمل وبلاغته أكثر مما تحكم الصراع.. صحيح أن في »سيرة الشيخ نورالدين« صراعاً نفسياً خفياً بين الأب وابنه محمود، ولكنه صراع لا يصل إلي درجة الاحتداد الدرامي. بالمفهوم الرحب للبلاغة وحتي لو افترضنا أن مقتضيات جنس السيرة هي التي تحكمت في العملية بدل المقتضيات الدرامية، يظل مع ذلك توقيت وفاة الشيخ نورالدين يمثل إشكالاً بلاغياً بالمفهوم الرحب للبلاغة.. أو ليست السيرة تفترض هي الأخري تحقق الموت في صفحاتها الأخيرة؟ قد يقول قائل مرة ثانية إن المؤلف تعمد كتابة سيرة بأسلوب ما بعد الحداثة الذي يصبو إلي »التكسير« و»التركيب« و»المفاجأة« و»الفوضي«.. بيد أن هذا القول مردود بدليل الطبيعة البلاغية التي كتبت بها هذه الرواية، أي بلاغة اللغة العربية الأصيلة التي تصبو إلي البيان المنساب علي الرغم من بعض الجمل القصيرة، والجمع بين الفصحي والعامية في الحوار، وهي أيضاً بلاغة التصوف، والمعجم الديني، والمقابلات، كما يتجلي كل ذلك في الصورة المعنية بالنظر، من حيث الجمع بين اللونين الأسمر والمحمّر، وبين علو التمتمة وخفوف الصوت، وبين الوجه ذي المعاناة والتجاعيد والعظام، والوجه المبتسم المكتسي بلحم الشباب، إضافة إلي المفردات والصيغ الدينية التي لا تخفي عن العيان، ولعل هذا النمط من البلاغة هو الذي حافظ علي الخصوصية الجمالية لهذه الرواية وجعلها تتجافي مع جماليات السرد ما بعد الحداثي.. إن مفهوم السيرة الذي اختاره المؤلف في كتابة عمله قد اقتضي ذلك البيان.. ومع ذلك يظل إشكال الموت قائماً. وقد يقول قائل مرة ثالثة إن الطابع الأسطوري الذي رسم بعض جوانب الرواية قد اقتضي موت الشخصية الرئيسية يُعيد مائتي صفحة من بداية الرواية وقبل نهايتها بأكثر من مائة وثلاثين صفحة.. وهذا القول مردود بدوره بالنظر إلي التكوين الدرامي للأساطير الإغريقية ذاتها.. ومن شأن ذلك النظر أن يجعلنا نستخلص أن التكوين الدرامي هو الذي يوقّت زمن الوفاة في العمل الإبداعي.. في تراجيديا »أوديب ملكاً« لسوفوكليس علي سبيل المثال نعلم موت لايوس في بداية المسرحية، ثم تتطور حبكة النص، وقبل النهاية نعرف أن أوديب هو قاتله.. وفي ميديا ليوربيديس تقتل الأم ولديها قبيل خاتمة التراجيديا مثلما تقتل غيرهما في وقت قريب من ذلك.. وفي إلكترا ليوروبيديس نفسه تُقتل الأم كليتمنسترا في خاتمة المسرحية التراجيدية.. كل هذه الأمثلة وغيرها يثبت تحكم الحبكة في توقيت الوفاة.. وخلال قراءتي مقال علي البطل عن رواية الحجاجي فطنت إلي أن هذا الناقد قد انتبه إلي عدم دقة توقيت الوفاة فيها فاقترح بدلاً من ذلك توقيتاً آخر يتوافق مع تأويلاته لهذا العمل.. يقول بكل وضوح: »لكننا في تتبعنا لتكوين صورة أركتايب »الأب- تم تحويلها إلي أسطورة- سوف نتجاوز عن الترتيب »الحكائي« لأحداث الرواية باحثين عن ترتيب آخر يعتمد علي »نمذجة« الأب، ثم محاولة إلباسه لبوس الشخصية الأسطوري«. وفي سبيل إعادة ترتيب المتن الحكائي جعل علي البطل صورة الأب تمر بالمراحل الثلاث الآتية: 1- من الطفولة المبكرة حتي حادث الوقوع في الفسقية.. 2- من الوقوع في الفسقية حتي فيضان النيل.. 3- من فيضان النيل حتي موت الأب.. إنجاز مهمة التأويل بذلك يعود موت الأب حسب هذا الاقتراح إلي نهاية الأحداث وليس إلي وسطها أو ثلثها الثاني.. بمعني آخر أن الناقد اضطر إلي إعادة ترتيب أحداث »السيرة« من أجل أن يساعده ذلك علي إنجاز مهمته التأويلية بطريقة تقنع القارئ، وحيث إن علي البطل كان معنياً في مقاله بدراسة تلك الوظيفة التأويلية أكثر مما كان معنياً بنقد الرواية وتشريح تكوينها، فقد غض الطرف عن التقويم البلاغي لتوقيت الوفاة وانصرف إلي معاينة مدي التطابق المحتمل بين معياره النقدي المستعار (الأركتايب/ الأسطورة) وبين صورة الأب في الرواية. كنت قد كتبت في يوميتي لنهار الاثنين 22/4/2002 »الحق أن الحكم علي هذه الرواية محير.. ففي صفحات منها كنت أشعر بانجذاب قوي إليها.. وفي صفحات أخري شعرت بتمطيط كأنه مقصود.. لكن في الحالتين معاً لم أشك قط في أني إزاء كاتب موهوب يكتب رواية حقيقية، ويستطيع أن يعطي عطاء حقيقياً في مجال هذا الجنس الأدبي إن هو تخصص فيه أو تفرغ له.. ولكن يبدو- في حدود علمي- أنه لم يفعل ذلك وإنما انساق مثلي وراء مسئوليات التدريس الجامعي وإغراءات النقد الأدبي«.