وزير التعليم العالي يرأس اجتماع المجلس الأعلى للجامعات.. تفاصيل    الدكتور خالد عامر نقيباً لأطباء أسنان الشرقية    سعر الذهب بمنتصف التعاملات اليوم السبت.. «كم سجل عيار 21»    توريد 29 ألف طن قمح إلى مراكز التجميع في البحيرة    انطلاق معرض وتريكس للبنية التحتية ومعالجة المياه بمشاركة 400 شركة غدًا    صندوق النقد الدولي: تدفقات نقدية بنحو 600 مليون دولار لمصر من الطروحات الحكومية في الربع الأخير من 2023-2024    «القاهرة الإخبارية» تكشف تفاصيل الصفقة المصرية لوقف حرب غزة    رئيس حزب القوات اللبنانية عن عمليات حزب الله: لم تفد غزة بشيء    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    من هي «منقذة» الأهلي أمام مازيمبي في دوري أبطال إفريقيا؟    الزمالك يفاوض ثنائي جنوب أفريقيا رغم إيقاف القيد    بعد التتويج بلقبي الجونة للإسكواش.. فرج ونوران: هدفنا بطولة العالم    بالصور| "خليه يعفن".. غلق سوق أسماك بورفؤاد ببورسعيد بنسبة 100%    حملة لإزالة التعديات بأسواق مرسى مطروح قبل الموسم الصيفي    ال دارك ويب أداة قتل طفل شبرا الخيمة.. أكبر سوق إجرامي يستهدف المراهقين    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    رسالة قوية.. مها الصغير تحسم شائعة انفصالها عن أحمد السقا (فيديو)    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    تعليق سلوى محمد علي بعد جلستها المثيرة للجدل في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    موعد شم النسيم 2024: فرحة الربيع وتجديد الحياة    حكم واجبية الحج للمسلمين القادرين ومسألة الحج للمتوفين    «حياة كريمة» تنظم قافلة طبية وبيطرية بقرية نبتيت في الشرقية    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    جامعة القاهرة تناقش دور الملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة    مكتبة مصر العامة بالأقصر تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء.. صور    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة بسبب سوء الأحوال الجوية وتعطيل العمل غدًا    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    قوافل بالمحافظات.. استخراج 6964 بطاقة رقم قومي و17 ألف "مصدر مميكن"    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    8 معلومات عن مجلدات المفاهيم لطلاب الثانوية العامة 2024    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    بدء أعمال المؤتمر السادس لرؤساء البرلمانات والمجالس النيابية العربية    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    "السياحة": مد برنامج تحفيز الطيران حتى 29 أكتوبر 2024 مع إجراء بعض التعديلات -تفاصيل    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي جاردن سيتي الجديدة    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    وزير الري يشارك فى فعاليات "مؤتمر بغداد الدولى الرابع للمياه"    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي منصور: كتبت قصائد إيروتيكية ولن أنشرها لأنها إثم
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 06 - 2019

لا أعتقد أن علي منصور كان يسأل كثيراً - وهو طفل- عن الله. لا أعتقد أنه مر بالحيرة التي مررنا بها. فهو محظوظ -أقول محظوظ وأعرف كم سيؤلمه هذا- لأن والده مات قبل أن يبلغ الرابعة، إذ صوّر له خياله البريء، أن جبريل سينزل عليه، ويراضيه بالنبوة. لا أعتقد أن علي منصور كان سيتحمل ما تحمله النبي، إنه هش جداً، هش مثل قشة التبن التي كان ينزعها من حائط الطوب اللبن. لقد ألمح لي بذلك، إذ قال بخجلٍ وحزنٍ شديدين: »أنا ضعيف وجبان، كلما تحدثتُ في أمرٍ يخص الدين، وينتقدني أصحابي المثقفون، أنكمش علي ذاتي، وأبتعد»‬.
أحبُ أن أذكر أن علي منصور ولد في الأول من شهر جمادي الأولي عام1376 ه، وأنه يحب سورتي الأنعام والنحل، وأنه مفتون بمفردة (أفمن) التي ترددت في القرآن خمسة عشر مرة، مثلما في سورة الزمر، أية 22، (أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَي نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). أحبُ أن أذكر حكايات كثيرة عنه، خصوصاً حكايته مع زوجة أستاذه المسيحي، التي عرفت أنه -وهو الذي بالكاد أتم عامه العاشر- يتخلف عن موعد الدرس، لحرصه علي أداء الصلاة في موعدها، والتي أحبته، وعطفت عليه، لأنه يتيم، وفقير، والتي نادته في يوم وأخذته إلي غرفتها.
يقول: »‬كنتُ مأخوذا بالطبع، لكنها طمأنتني، وأمسكت بيدي ووضعتها علي رأس رضيعها المحموم، متوسلة أن أقرأ شيئاً من القرآن، فرحتُ أقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين».
يتعجب الكثيرون منه لأنه يتحدث دائماً عن الدين، ويظنون أنه أتي خطأً إلي الشعر. إنه توليفة مختلفة. يؤمن بالله والطبيعة والبشر. ويؤمن في آن بالفن والصيدلة والماركسية. وفي المرات التي رأيته فيها، لاحظتُ أن وجهه يحمل يقيناً غريباً، تقريباً لم ألتق بأحدٍ لديه هذا اليقين، وكان يذكرني هذا بمقولة نيتشه »‬لا الشك، إنما اليقين هو الذي يؤدي إلي الجنون».
استجمعتُ شجاعتي في أحد اللقاءات، وسألتهُ: ألم تشك يوماً في وجود الله؟، ورغم أنني توقعتُ أن إجابته ستكون بالنفي، إلا أنه فاجأني بأنه ألحد لنصف يوم فقط.
كان ذلك في شهر رمضان سنة 1977، إذ كان حينها منخرطاً في العمل السري، ويحتك بالماركسيين دون غيرهم. وفي يوم كان يجلس مع مجموعة منهم في مقهي زهرة البستان، وحين عرفوا أنه صائم، استهزأوا به، وأزعجه هذا جداً، لأنه كان يشعر في هذه الفترة بأن الدين يقيده، وحتي يثبت لهم أنه مثلهم، ماركسي بحق، فطر علي كوب من الشاي، فهللوا، وباركوا له، لكن بمجرد أن عاد للبيت، وعلي مائدة الفطور، شعر باحتقار شديد لنفسه، وظل داخله يصرخ »‬إزاي يا علي عملت كدا»، ولم ينته اليوم إلا وكان عائداً إلي يقينه.
شغلني أيضاً هل كتب قصائد إيروتيكية؟ شيء ما بداخلي كان يقول نعم، لكنني لم أكن شجاعة بما يكفي لأسأله، وطلبتُ منه أن نجري حواراً في أقرب وقت. لم يتحمس، وحاول أن يقنعني بأن ليس لديه شيء جديد ليقوله، حتي إنه أرسل لي عشرين حواراً أجراها معه زملاء أعزاء، كما أرسل شهاداته عن الشعر، وبالفعل ظللتُ أسبوعاً كاملاً لا أفعل شيئاً سوي أنني أقرأ لعلي منصور، وفي ساعة متأخرة من أحد الأيام هاتفتهُ قائلة: غداً نجري الحوار.
بدون مبالغة جلسنا نتحدث من الثانية ظهراً حتي الثامنة مساءً. لم أشعر بالملل. هو كذلك. لكنهُ بدا خائفاً، ومرتبكاً، وبحاجة شديدة للبكاء، حتي أنه كان يقول لي كلما انتبه إلي أنه أخذ راحته في الكلام: طبعاً مش كل الكلام دا هيتنشر!
- من أي شيء تخاف؟
من كل شيء. الآن مثلاً أنا خائف منكِ. خائف من الكلام الذي سأبوح به لكِ. خائف مما سوف تكتبينه. خائف ربما من السخرية، أو السباب. خائف جداً. وهذه طبيعتي. لقد عشت حياتي كلها في خوف. في خوف من الله. ومن الناس، والسلطة. ولا أعرف كيف استطعتُ أن أتحمل ذلك. لكنني أهون علي نفسي وأقول أنني ليس لي في ذلك حيلة. أبي مات مبكراً جداً، ولم أر وجه أمي سوي خائف ومهموم. ربما ورثت عنها هذا الوجه. فرغم أن الناس يقولون لي إن وجهي لم يغادر طفولته، إلا أنني أراه حاداً وغليظاً. أنا لم أفعل أشياء كثيرة بسبب الخوف، وللغرابة، فعلتُ أشياء -كان لا يجب أن أفعلها- بسبب الخوف أيضاً. وأعتقد أن انضمامي للعمل السري في بدايات مراهقتي عزز لديّ هذا الشعور. لأنه كان مفروضاً علينا ألا نبوح بما نفعله حتي لو لأمهاتنا، ولشدة إيماني بالماركسية وإخلاصي لها تمنيتُ أن لو كانت أمي هي الأخري قد ماتت مثل أبي حتي أستطيع أن أتحرك بحرية، وأغيب عن البيت كما أريد.
- كتبت نصاً عن أمك في ديوان (ثمة موسيقي تنزل السلالم) تقول فيه إن ظُفرها بعشر من هؤلاء النسوة في المدينة، وقلت لي إنك تراجعت أن تسمي ديوانك الثاني (وردة الكيمياء الجميلة) ب (لا تهجري الحزب يا منيرة)، حتي لا يعرف الناس اسمها، أليس هناك تناقض في علاقتك بها حين تقول لي الآن إنك كنت تتمني موتها؟
لا لا، كنت أتمني موتها من شدة الخوف عليها مما قد يصيبها من قهر جراء اعتقالي مثلاً أو تعذيبي، قلب الأم لا يحتمل، خاصة أمي، تلك القديسة التي تحملت ما لا تتحمله امرأة. ترملت في الثلاثين. وكان في رقبتها ثلاثة أطفال، وفي رحمها جنين لم يكتمل بعد. لازلتُ أتذكرها وهي تجلس أمام الفرن لساعات تخبز للناس خبزهم لقاء أرغفة معدودات، لازلتُ أتذكرها وهي تجلس في صحن الدار، بكامل أنوثتها، تمشط شعرها فرحانة بعد أن حممتنا جميعاً. لازلتُ أتذكرها حين أتي المخبر ليقبض علينا، لأن جارتنا اشتكتنا بسبب شقاوة أخي الكبير. لازلتُ أتذكر ذعرها من أن يحتجزونا، وصوتها وهي تقول »‬لا يا سعادة البيه أنا اللي زعلتها مش ابني». أمي واجهت ظروف الشقاء الصعب، رفضت الزواج، وأصرت علي تعليمنا، وحاولت قدر استطاعتها ألا تجعلنا ننام دون عشاء، وألا نرتدي طيلة الوقت ملابس بالية. كما حاولت أن تروضني، فلم يكن سهلاً عليها أن تري ابنها يفعل أشياء مريبة ويغيب بالساعات، فالعمل السري يحوّلك إلي إنسان غامض، وغريب، ويجعلك تمشي وأنت تلتفت إلي ورائك. العمل السري أبعدني عن أمي وقربني منها في آن، لأنه جعلني أدرك كم أحبها، وكم أكره السلطة.
- إلي متي ظللت في الشيوعية؟
إلي اليوم.
- هذه مفاجأة، ظننتُ أنكَ تركتها بعدما سربت الإلحاد إلي قلبك، الشيوعية لا تناسب رجلاً مثلك!
الفقر والظلم والحياة البائسة التي عشتها هي التي جعلتني أنتمي لليسار. يقول أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج علي الناس شاهراً سيفه) وتقول الماركسية لكل حسب حاجته ومن كل حسب طاقته. لهذا الماركسية والدين كانوا عندي واحداً. كلاهما منحاز للفقراء والمظلومين. ولما صادفت في الماركسية مقولة (الدين أفيون الشعوب)، واكتشفتُ أنها ضد الدين منهجاً وفلسفة، وأن كل ماركسي مُلحد بالضرورة، قررتُ أن أؤسس نظرية جديدة وأسميها »‬المنصورية»، وهي ماركسية مسلمة. وبالمناسبة ليست الماركسية التي سربت الإلحاد لقلبي، إنما الماركسيون بشرحهم للمادية الجدلية والصراع ونظرية النشوء والارتقاء ودارون، ولرسمهم صورة معينة للماركسي، الذي كان من العيب مثلاً أن يكون رومانسياً، وهذا وضعني في ورطة كبيرة، لأنني حين أحببتُ زميلتي في الجامعة، كتبتُ فيها قصيدة، وأردتُ أن أنشرها، فأرسلتها لمجلة صباح الخير باسم علي محمد علي، خوفا من أن يتهمني الرفاق الماركسين حين يرونها منشورة بأنني ما زلت برجوازياً صغيراً، لكنني حزنت جداً حين نشرت بالفعل ومعها مديح من فؤاد حداد وبدون (علي منصور).
-كيف استطعت أن تكون شاعراً وسياسياً وصيدلانياً في نفس الوقت، كيف استطعت أن تخلص للشخصيات الثلاث، الشخصيات اللاتي لا يجتمعن في جلسة واحدة؟
عشتُ ممزقاً بين الشاعر والسياسي والصيدلاني، للحد الذي كدتُ فيه أجن، لسنوات طويلة وحتي اليوم لا أتحدث عن كوني شاعراً أو سياسياً بين الأقارب والجيران وزملاء العمل، إذ حرصتُ علي أن أكون أمامهم صيدلي جاد، وحاد، لأنهم إذا عرفوا مثلاً أنني شاعر، ربما يسخرون من الشعر، خصوصاً أن ما أكتبه قصيدة نثر، وأنا لا أحب أن أضع الشعر في هذا الموقف أبداً، ومن كان يكتشف منهم هذا بالصدفة، كان يتعجب مني، ويعتقد أنني شخصيتان، ولا يعرفون أنني ثلاث، وربما أربع، فالشخص المتدين الذي بداخلي ظل في صراع أيضاً معي، إذ يريد أن يكون هو المهيمن، لكنني لم أكن مخلصاً لأي منهم، لا أستطيع مثلاً أن أقول أنني شاعر عظيم، أو سياسي فاعل، أو عالم أكاديمي، أو رجل صالح جليل، أنا فقط علي منصور، شخص ظن في يوم، وهو طفل، أنه سيكون نبياً.
-أليس اختيارك لأن تكون شاعراً فيه إصرار علي النبوة؟
ربما ، فقد كنتُ طفلاً بائساً، غنياً في آن بالخيالات وأحلام اليقظة، وأعتقد أن هذا ما دفعني لكتابة الشعر مبكراً دون أن أعرف البحور والأوزان والقوافي. أذكر أن أول قصيدة كتبتها كانت مدحاً في مجلة الجديد، والتي لحسن حظي نُشرت، وأنا في الصف الثاني الثانوي، الأمر الذي شجعني كثيراً. وأغلب كتاباتي دائماً تأتي خلسة من الوقت في زحمة الانشغال. ما إن تأتيني حمي الكتابة حتي ألتقط أقرب ورقة بيضاء مني لأكتب. كنتُ مثلاً أكتب قصائد في كراسات الدرس والمحاضرات، مثلما كان أمل دنقل يكتب قصائده علي تذاكر القطارات وعلب السجائر.
-علي سيرة أمل دنقل، انزعج البعض منك لأنكَ انتقدت مطلع قصيدة كلمات سبارتكوس الأخيرة (المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا في وجه من قالوا نعم)، إذ قلت إن أمل مجد من لا يستحق التمجيد، وحاولت أن تؤكد أنك تقرأ النص بمعزل عن نزعتك الدينية، لكنني أري أن هذه النزعة تتحكم فيكَ ؟
حاولت مراراً أن أتقبل نص أمل ولم أستطع، ربما فعلاً لعاطفة دينية، وربما لأن الفطرة لا تقبل ذلك، فتمجيد الشر ضد الفطرة. لكن إمعان النظر دلني علي السبب الحقيقي. أعرف أن أمل لا يقصد أن يمجد الشر وإنما يمجد بطولة المعارضة، لكن التوفيق خانه في ضرب المثل، لأنه في تمجيده لذلك بشكل مطلق دون الأخذ في الاعتبار سياق الحدث، يكون أشبه بالشاعر الجاهلي القطامي التغلبي الذي راح يمجد الإغارة علي القبائل بشكل مطلق فقال : »‬وأحيانا علي بكر أخينا/ إذا ما لم نجد إلا أخانا». أمل من دون اللاءات التي قيلت علي مر العصور والتاريخ، اختار لا التي قيلت في وجه الحق، والتي بسببها طُرد الشيطان من الجنة، وصار عدواً للإنسان. أي »‬لا» تستحق التمجيد؟ التي قالها الشيطان لله، أم التي قالها مثلاً سيدنا إبراهيم لقومه فألقي في النار؟ طيب، ماذا عن ال »‬لا» التي قالها الضعفاء والمظلومون في وجه الطغاة؟ ماذا عن الذين صلبوا وسجنوا واعتقلوا وقطعت أياديهم من خلاف؟ ماذا عن المؤمنين المسيحيين الذين ألقوا للأسود الجائعة؟ أليس هؤلاء من يستحقون التمجيد؟ مشكلتي مع أمل أنه جعل من »‬لا» مجانية وجبانة »‬بطلة»، ولا أعرف كيف يمكن أن يتقبلها أي شخص عادي؟
-أنت قلت »‬شخص عادي» وليس مبدعاً مثلك. الفن في أوقات كثيرة يكون صادماً، ومحطماً لتصوراتنا الدينية، والأخلاقية.
صادما ومحطما لتصوراتنا الدينية والأخلاقية! هل أمدح الزنا مثلاً؟ هل أمجد الاغتصاب؟ هل أرغّبُ في الكذب والخديعة؟ هل أضفي علي السرقة والخيانة بطولة وهالات فخر؟ ولماذا يتقاعس الفن عن تحطيم تصوراتنا السياسية؟ الفن والدين يلعبان في أرض واحدة، اسمها النفس البشرية. فهل الفن لا يكون فناً إلا إذا جاء هادماً ومحطماً لما هو فطري وسوي؟ هل تمجيد الباطل فن؟ هل القصيدة التي تدعو للفجور فن؟ وهل شرط أن أكون بوهيمياً حتي أصير مبدعاً؟ ثمة مسلمات لدي البشر، أو دعينا نقول فطرة، هل ننكر أن الإنسان بفطرته يحب الخير ويكره الشر، وأنه بفطرته يحب الجمال ويكره القبح؟ الفن في رأيي يرتقي مع الدين في نفس الهدف، وهو السمو بالروح، والأخلاق.
-ماذا لو كانت أخلاقي غير أخلاقك، ماذا لو كنتُ بلا دين أصلاً؟ الأمر نسبي جداً.
لم أسع يوماً لأن أفرض أفكاري ومعتقداتي علي أحدٍ. لا أعرف كيف تريني الآن. كل ما أعرفه أنني صادق معكِ. وأنني أحاول أن ألقي أمامك كل قناعاتي كمتدين قبل أن أكون مبدعا. نزعتي الدينية تتحكم فيّ كما قلتِ، لكنني أيضاً أفهم في الفن، وأعرف أن تلقيه يستلزم من الواحد أن يكون محايداً. وأحاول أن أفعل ذلك قدر الإمكان. قد أنجح، وقد أخفق. لكن من المستحيل أن أقرأ نصاً جميلاً وأنكر إعجابي به لمجرد أنه يخالف قيمي. أنا أحب كفافيس مثلاً وأحب نصوصه التي تتحدث عن المشاعر الشبقية بحسرة فاتنة. اقتناص لحظات المتعة الضائعة من النسيان كانت عبقرية منه. نجح كما لم ينجح أحد في تصوير لوعات النفس البشرية. هذه البراعة في الكتابة واستدعاء الماضي تستحق الإشادة، لا الفعل ذاته الذي هو ضد الفطرة، أو علي الأقل الذي لا نتفق بشأنه.
-هم يرون صراحة أنك محافظ!
ت . س. إليوت كان محافظاً، ولم يحل ذلك من أن يكون شاعراً كبيراً، جوته أيضاً كان كذلك. أن تكون محافظاً لا يعني أنك لست مؤهلاً لأن تكون مبدعاً. لا أعرف لماذا التحلي بالأخلاق -في نظر البعض- تهمة، أو شيء يقلل من قيمة المرء الإبداعية؟ منذ أن أصدرتُ ديواني (عشر نجمات لمساء وحيد) وأشاعوا أنني شاعر قصيدة النثر الإسلامية، وحينها قلتُ في حوار مع الأهرام العربي إن هذا شرف لا أدعيه وتهمة لا أتبرأ منها. الإبداع لا علاقة له بانحلال المرء أو تدينه. أبو النواس شاعر الخمر والمجون والعربدة كتب أجمل النصوص الدينية التي يترنم بها الحجيج حتي يومنا هذا، وهي »‬لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك». من حق أي أحد أن يكتب من النزعة التي يريد، ومن حق الناس أن يتقبلوا النص أو يرفضوه. النص هو الذي يجب أن يحاكم، وليس المبدع. الدين أصلاً هو الذي منح الحرية للإنسان في العقيدة، فكيف لإنسان أن ينزعها من أخيه في أمر إبداعي أو مذهب فني عابر!
- توقفتُ كثيراً عند نصوصك المبنية علي حكايات دينية، مثل نص (أحدٌ أحدْ) المنشور في ديوان (عصافير خضراء قرب بحيرة صافية)، والذي تتحدث فيه عن حمامة ابنة أخت أبرهة، التي أُسرت في معركة هدم الكعبة، والتي أحبها العبد رباح وتزوجها فأنجبت بلال، كما توقفتُ أيضاً عند النصوص التي بها أدعية.. ما هدفك من هذه النصوص، خصوصاً أن بإمكانك أن تكتب مقالاً عن أي حكاية دينية؟
سأقول لكِ سراً. أحياناً أكتبُ هذه النصوص لأواجه بها النصوص الإيروتيكية التي لا أذكر أنني فرحتُ بأي منها فور الانتهاء من قراءتها، ربما لأنني خجول بطبعي، لأن النصوص الإيروتيكية تندرج تحت القول الفاحش الذي يحض علي الرذيلة. ونيكولا بوالو قال إن الشعر الذي يحرض علي الإباحية والفجور ليس من الشعر في شيء. وهذا لا يعني أبداً أنني ليس لديّ شهوات، بالعكس، قد أكون أكثر شهوانية من الرجل الذي يعبر عن غرائزه بأي طريقة. طيب، سأقول لكِ سراً آخر. أنا كتبتُ الكثير من النصوص الإيروتيكية لكنني لم ولن أنشرها. لأنني أخجل أن تقرأها ابنتي أو زوجتي، أو يقرأها أحدٌ من جيراني، أو الذين يعرفونني، فتنهار صورتي في أذهانهم. وقبل هذا كله أخاف أن أقع في الحرام، فهي إثم طبقا ليقيني الديني.
- لكن الأدب لا يخلو من الإباحية، الحياة كذلك، يا أخي توفيق الحكيم يقول: (لا معني للفضيلة بغير وجود الرذيلة)..
ليس غائباً عني (ألف ليلة وليلة)، الذي لا يذكر أحدٌ مقدمته. إنه كتاب في العظة، ويكاد يكون كتاباً سماوياً لو قرأناه في ضوء الهدف الذي كُتب من أجله. إنهم يجتزئون منه كل ما هو إيروتيكي، حتي يبررون الإيروتيكية في المطلق. لكن الإيروتيكية يجب أن تأتي محملة بالدلالات الإنسانية حتي يكون لها قيمة ومعني. الإيروتيكية السائدة الآن في الشعر والرواية هي إيروتيكية الغرب، إيروتيكا محضة لذاتها. أما إيروتيكا ألف ليلة وليلة فهي موظفة لأجل أن يتعظ الأحياء مما لحق بالأمم السابقة جراء العدوان علي الفطرة. الفكرة أن هناك قوة عظمي بينت لنا الحلال والحرام. القتل حرام. السرقة حرام. الزنا حرام. أن يأتي أحدٌ ويبيح الزنا باسم الحرية والإبداع هذا ما لا أفهمه أبداً. صحيح أن لا معني للفضيلة بغير وجود الرذيلة، كما أن لا معني للخير بغير وجود الشر، ولذلك خلق الله الكراهية لنكره القبيح ونكره الرذيلة ونكره الشر.
-هل تُقيدك هذه الأفكار في الكتابة؟
جداً. فكما قلت لكِ قد أكتب نصوصاً ولا أنشرها، أو قد لا أكتبها من الأساس. أنا لستُ حراً. أنا مقيد، ومضطرب، ومليء بالشهوات.
-كلامك عن الاضطراب والخوف والقيود الكثيرة، يجعلني أسألك عن اليقين، ألم يهيأ لكَ الفخ مرة، كما قلت في قصيدة، ألم يتحوّل إلي هُراء؟
أتذكرين اليوم الذي حكيت لكِ عنه. اليوم الذي كنتُ جالساً فيه مع أصدقائي الماركسيين في رمضان سنة 77، والذي فطرتُ فيه كاعتراف مني بأن الله ليس موجوداً. كان من الممكن أن أنتهي في هذا اليوم لولا أنني تأكدت من أن يقيني بالله واليوم الآخر والقرآن وسيدنا محمد لم يهتز. أنا لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون هذا اليقين، بالأحري، بدون الله. بل أنني لا أتخيل الحياة بدون آخرة. لأن الحق ضائع في الدنيا، لذا أري أن الجحيم أشد حتمية من الجنة. هذا هو اليقين الوحيد الذي لم يتحوّل إلي هُراء. أما يقيني الذي تحول إلي هراء في هذه القصيدة تحديداً فكان يقيني بحتمية الإشتراكية. وربما هذا ما يقصده نيتشه. أننا حين نكتشف أن يقيننا محض وهم نُجن، أما الشك فيجعلنا في منطقة آمنة، لأنه، الشك، ما إلا ترانزيت. أنا حين رأيتُ مثلاً شعراء المربد أيام صدام حسين وهم يتحصنون بالبلاغة، ليدشنوا الكذب، مثل الساسة، والخطباء، فقدتُ يقيني بهم وبما يكتبونه، وكنتُ بحاجة إلي يقين جديد يُعيد إليّ رغبتي في الشعر، فكانت قصيدة النثر، التي جعلتني أتخلي عن قناعاتي القديمة.
- (بعشر قبلات في الهواء، يقول وداعاً).. إنه النص الذي كتبته في سبتمبر 2007 والذي أعلنت فيه عن اعتزالك للشعر. كيف عدت؟ وهل التوقف عن كتابة الشعر أمر بيد الشاعر؟
لم تكن هذه هي المرة الأولي التي توقفت فيها عن كتابة الشعر. أقدمتُ علي نشر مجموعة (عصافير خضراء قرب بحيرة صافية) في دار شرقيات عام 1998 للتخلص مما كتبتُ من قصائد، وأقطع علاقتي تماماً بالشعر. لكنني عدتُ، لا أعرف كيف. وبعدما كتبتُ نص (بعشر قبلات في الهواء يقول وداعاً) الذي نشر في ديوان (في مديح شجرة الصبار)، وجدتني أعود أيضاً. يبدو أنني في اللحظة التي أقرر فيها أن أتخلي عن الشعر، لا أجد سواه، الشعر، لأتكئ عليه وأتماسك. الشعر حيوان أليف يربيه الشعراء في خلواتهم، ومن يرب حيوانا أليفا لن يتخلي عنه أبدا حتي يموت. الشعر يهلك صاحبه ويظل هو يغني، كداء سرطان أبدي ينهك الأجساد حتي لا يبقي منها سوي القصائد. الشعر قد يكون لك كالخضر إن كنت كموسي، وقد يكون لك كهامان إن كنت كفرعون. والشعر يرقص أيضاً، بل ويحلم أحلام يقظة، حسبما تقص عليه من الحكايات، وما تلعب معه من ألعاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.