سعر الذهب اليوم الإثنين 26-5-2025 بعد الارتفاع الكبير    سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري الإثنين 26-5-2025    قبل عيد الأضحى 2025.. أسعار العجول والأغنام والماعز في أسواق الشرقية    استشهاد 22 فلسطينياً جراء استهداف مدرسة للنازحين بغزة    ظهرت في الجامعة قبل الحادث.. تفاصيل جديدة ب قضية الدكتورة نوال الدجوي (فيديو)    أمور يجب على الحاج فعلها قبل السفر للحج.. تعرف عليها    الرئيس التنفيذي لمؤسسة غزة للمساعدات الإنسانية يعلن استقالته.. ما السبب؟    ترامب يعلق فرض رسوم بنسبة 50٪ على الاتحاد الأوروبي حتى 9 يوليو    اليوم.. مصر للطيران تنظم 20 رحلة جوية لنقل حجاج بيت الله الحرام إلى الاراضي المقدسة    البترول تكشف تفاصيل انفجار محطة كارجاس برمسيس    طه دسوقي يهدي تكريم «ولاد الشمس» إلى محمود حميدة في حفل جوائز إنرجي    مطرانية المنيا تنفي حدوث أي استهداف للأقباط في قرية المحصلة    محمد صلاح يحطم الرقم القياسي في فانتازي الدوري الإنجليزي ب344 نقطة    صفحة الدورى الإنجليزى تحتفى بمحمد صلاح فى حضور حسام حسن    "توليفة" طولان لكأس العرب    الأهلي يحصل على توقيع صفقة من العيار الثقيل.. كريم حسن شحاتة يكشف التفاصيل    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 26 مايو    سعر الحديد اليوم الاثنين 26-5-2025.. الطن ب40 ألف للمستهلك    السيطرة على حريق التهم أحد الأكشاك بمنطقة منشية البكرى بالمحلة    تفاصيل استعدادات امتحانات الثانوية العامة.. وموعد إعلان أرقام الجلوس للطلاب فيديو    هدد باغتيال ترامب.. إيقاف شخص حاول إلقاء قنبلة على سفارة أمريكا بتل أبيب    غياب هنا الزاهد عن العرض الخاص لفيلم «ريستارت» يثير التساؤلات.. ما السبب؟    تامر حسني ل "فيتو": مش عايز حد يعيش معاناتي ونفسي أعمل مسلسل جديد    وفاة والد السيناريست إياد صالح والجنازة اليوم من مسجد مصطفى محمود    التليفزيون هذا المساء: "المصريين الأحرار" يكشف تفاصيل تعديلات قانون تقسيم الدوائر    19 شهيدا فى قصف إسرائيلى استهدف مدرسة تؤوى نازحين بحى الدرج فى غزة    عضو بمركز الأزهر العالمي للفتوى: الحج رحلة للتطهير ولا يصح إلا بمال حلال    وزير الصحة: 15 مبادرة رئاسية قدمت ما يزيد عن 235 مليون خدمة    لاستكمال سماع الشهود.. تأجيل محاكمة سفاح المعمورة لجلسة الثلاثاء    خناقة في المواصلات.. حبس المتهم بالتعدي على جاره ببنها    «بلاش تتابعني».. كيف ردت داليا البحيري على مطالبات متابعيها بارتدائها الحجاب؟    ترتيب الدوري الإسباني والمتأهلون إلى دوري أبطال أوروبا رسميا    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال مبابي.. أفشة رفقة أصدقائه.. بنزيما في مران اتحاد جدة    مع اقتراب يوم عرفة.. نصائح للحجاج لأداء المناسك    أولى جلسات محاكمة ليلى الشبح بتهمة سب وقذف هند عاكف| اليوم    أفكار سفرة مميزة للعزومات في عيد الأضحى 2025    العيد الكبير على الأبواب.. قائمة التسوق الذهبية في عيد الأضحى    وصول جثامين متفحمة لمجمع الشفاء جراء استهداف مدرسة في قطاع غزة بصاروخين    هاني سعيد يهاجم رابطة الأندية: 90% من الفرق خارج حساباتهم وتأجيل مباراة سيراميكا "أصبح مملًا"    ملف يلا كورة.. تصريحات صلاح.. عودة حمدي فتحي.. وقرعة كأس العرب    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 26-5-2025    منها العائد المادي والاعتداء على الأطقم الطبية.. وزير الصحة الأسبق يكشف أسباب هجرة الأطباء    دار الإفتاء توضح حكم تحمل الزوج تكاليف حج زوجته    حُسمت.. الفرق الإيطالية المتأهلة إلى دوري أبطال أوروبا 2025-2026    الجيش الأردني يحبط محاولة تهريب مخدرات بواسطة مسيّرتين في جنوب البلاد    قبل أن تُغلق أبواب الخصام.. جنازة حفيد نوال الدجوي تُشيّع اليوم عقب صلاة الظهر (موعد ومكان دفنه)    «تستحمى الصبح ولا بليل»؟ سبب علمي قوي يجنبك فعلها في هذا التوقيت    لا تتمسك بما لا يخدمك.. برج الجدي اليوم 26 مايو    حدث بالفن | أزمة هيفاء وهبي والموسيقيين والعرض الخاص لفيلم "ريستارت"    التعليم تحسم الجدل: مدراء "المبادرة الرئاسية" مستمرون في مناصبهم -(مستند)    مجلس إدارة التعليم المدمج بالأقصر يناقش استعدادات امتحانات الترم الثاني خلال اجتماعه الدوري    النائب أحمد السجيني: تحفظات كثيرة على مشروع قانون الإيجار المقدم من الحكومة    معجزة طبية في الفيوم: استخراج فرع شجرة من جسد طفل دون إصابات خطيرة    عاجل- وزارة الكهرباء تُطمئن المواطنين: لا تخفيف للأحمال في صيف 2025    إنشاء كليات وجامعات جديدة.. أبرز قرارات مجلس الجامعات الخاصة مايو 2025    المفتي: يوضح حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع    النواب يوافق نهائيا على مشروع تعديل قانون مجلس الشيوخ    لخفض البطالة.. كلية الاقتصاد جامعة القاهرة تنظم ملتقى التوظيف 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات ثورية
ليلة تلألأت فيها »المحلة« بنجومها
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 11 - 2012


1
من سنوات قريبة، وكنت في زيارة عمل للصين، إبان رئاستي لقناة التنوير الثقافية، لصنع بعض الأفلام الوثائقية عن الصين الحديثة، في مجالات مختلفة.. فنية وثقافية وفكرية وروحية، وأيضا.. صناعية وزراعية وتكنولوجية وعلمية.. إلخ، في إطار بروتوكول للتعاون والتبادل الثقافي والإعلامي بيننا..
..استلفت نظري- بشدة- في هذه الرحلة التي جبنا فيها البلاد بالطائرات، طولا وعرضا وعمقا، هذا التكامل والاستقلال التام عن العاصمة بكين، للأقاليم الصينية المختلفة.. بمعني ان كل اقليم صيني، كبير أو صغير، هو وحدة متكاملة وتامة الاستقلال عن العاصمة، ليس بالمعني الاقتصادي والانتاجي والإداري والتنموي فقط، وإنما بالمعاني الفنية والثقافية والروحية والفكرية.. إلخ، وطبيعي بالمعني السياحي أيضا، بمعني ان كل اقليم من هذه الأقاليم يمتلك بالإضافة الي مزاياه الاقتصادية والانتاجية المتمثلة في طبيعة انتاجه الزراعي أو الصناعي.. إلخ يمتلك خصوصيته السياحية، وطابعه البيئوي الخاص، الذي تتدخل الطبيعة في صنعه وتميزه تدخلا كبيرا.. فهذا اقليم بحيرات خلابة الجمال، وكهوف طبيعية، وهذا اقليم جبال شاهقة تكسوها الخضرة الطبيعية طيلة العام لسقوط الأمطار الغزيرة المتواصلة، وهذا اقليم انهار صغيرة أو كبيرة تنمو علي شواطئها غابات ساحرة، وهذا اقليم بحري، وهذه مناطق شاسعة زراعية.. وهكذا، وهذا التنوع الاقليمي الطبيعي، جعل هذه المناطق تتباين وتتمايز بسحرها الخاص غير المتكرر.. بل كان لكل اقليم ما يخصه ويميزه- كما قلنا- اما تلك الجوانب الأخري التي يصنعها الإنسان، وتميز- تحديدا- المدن المعاصرة، أو العواصم، كما نلاحظ في كثير من دول العالم وعواصمه، فأنت لن تجد مثل هذا في الصين..
..أقصد، انه عادة ماتزدحم العاصمة (ولنقس علي القاهرة مثلا) بالمسارح والملاعب والأندية والمقاهي بأنواعها والكازينوهات والشوارع التجارية الكبري المتخصصة.. فهذا شارع ضخم للأجهزة الكهربائية الحديثة، وهذا لقطع غيار السيارات لمعظم الماركات العالمية الشهيرة، وهذا للأقمشة والمنسوجات، وهذا للصاغة وصناعات الذهب والحلي، وهذا لصناعة الكتب والنشر.. إلخ.. إلخ.. حتي انك ان كنت من سكان اقليم معين في الشمال أو الجنوب، قد تضطر للذهاب الي العاصمة للحصول علي سلعة من هذه السلع التي لاتجدها- عادة- في اقليمك، الذي يظل لهذا السبب (وغيره) مشدودا الي العاصمة المركزية، ناهيك عن ان بعض المصالح الحكومية والوثائقية والورقية والقضائية.. إلخ لا حل لها إلا في مؤسسات ودواوين الدولة المركزية، والتي ما تكون عادة -في بلادنا- في العاصمة!
ومن ثم، تعاني العاصمة عندنا، من هذا الازدحام غير الإنساني، وهذا الاكتظاظ الثقيل المبهط بكل تفاصيله التي نعرفها جميعا!
أما في الصين، وفي أقاليم الصين المختلفة، جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، فلا وجود لمثل هذا علي الاطلاق.. فلكل اقليم- كما قلنا- كامل استقلاله الاقتصادي والإداري والسياحي طبعا، والأهم طابعه الثقافي والفني، وتكامله الانتاجي والتجاري.. فلكل اقليم -كما قلنا- كامل استقلاله الاقتصادي والاداري والسياحي طبعا، والأهم طابعه الثقافي والفني، وتكامله الانتاجي والتجاري.. فلكل اقليم- مثلا- مسارحه الكبيرة، وعروضه الضخمة، ومنتدياته ومقاهيه ومتنزهاته الجبارة، ودور سينماه، وملاهيه، وشوارعه التجارية المتنوعة، التي لاتقل- بحال- عن مثيلاتها في العاصمة، بحيث ان اهل هذا الاقليم المتكامل بكل المعاني لايتحاجون- علي الاطلاق- السفر إلي العاصمة لأي شأن (يخطر علي بالك) من شئونهم، هم لايسافرون الي العاصمة إلا لسببين.. الأول سياحي فقد يعني لهم زيارة بعض المعالم الأثرية والتاريخية التي لاتوجد إلا في العاصمة، أو لزيارة بعض اقاربهم في مناسبات خاصة وظروف معينة..
أما فيما عدا ذلك فلا حاجة لأهل كل اقليم في مغادرة اقليمهم المتميز بطوابعه الحضارية والثقافية والاقتصادية والترفيهية المستقلة عن العاصمة، واتي قد تبدو في بعض الجوانب الهامة.. متفردة عن العاصمة خصوصا في جوانبها السياحية والطبيعية والبيئية، ولذلك يشعر أهل كل اقليم، شعورا يقينيا له ما يبرره، انهم لاينقصهم (أي) شيء مما يوجد في العاصمة علي كل المستويات، ومن ثم يترسخ لديهم الشعور بالاعتزاز باقليمهم، والاحساس بالاكتمال والتكامل مع ظروفهم وامكاناتهم وطابعهم الاقليمي المتميز بالضرورة بثقافته وانجازاته الفنية والثقافية والفكرية والانتاجية والاقتصادية.. الي آخره، وهو ما يصنع في النتيجة النهائية هذا التنوع الهائل للأقاليم الصينية علي كل هذه الأصعدة في اطار من الوحدة الشاملة للبلاد الشاسعة.. ولذلك فلم أشعر يوما - وقد مكثت لمدة شهر في الصين - بأي شكل من أشكال الزحام الكثيف الذي ألاحظه طيلة الوقت في القاهرة!.. وهو البلد الذي يشارف تعداده الآن المليار ونصف المليار إنسان!.. وكان لابد أن أسأل في نهاية الرحلة في بكين العاصمة، مرافقنا الصيني الذي يجيد العربية الفصحي ويتحدث بها بطلاقة (صينية) لافتة عن هذه المسألة.. أقصد، أين المليار ونصف المليار بني آدم من الشعب الصيني، فيرد بهدوء وثقة.. الشعب الصيني موجود علي (كامل) الأرض الصينية.. لا يتركز فقط في العاصمة، كما يحدث عندنا، ولذلك فلن تعثر علي زحام واكتظاظ وكثافة مبهظة للبشر في المكان.. وهذا حديث آخر ذو شجون، قد ننبري له في سياق آخر!
2
كانت زيارتي - الأسبوع الماضي - للمحلة، ، مدعوا من قصر ثقافة غزل المحلة، لعمل أمسية نقدية وشعرية واعلامية، وراء هذه التأملات (الصينية).. من اللحظة التي وصلت فيها وإلي أن غادرت.. فهنا تشعر فورا، أن الاقليم ينقصه الكثير مما يوجد في القاهرة علي مستويات عدة.. ادارية، وتجارية، وتخطيطية.. (كما وكيفا).. فقد توجد هنا - مثلا - سينما، ولكنها تختلف من حيث مستواها عن أي سينما في القاهرة، وقل مثل ذلك عن الشوارع والأحياء ومستوي العناية والنظافة والرقي، ولو أن القاهرة تعاني أيضا من اهمال جسيم في بعض هذه الجوانب.. النظافة مثلا.. ولكن بشكل عام.. الانطباع الذي تخرج به.. ان الاقليم يتراجع كثيرا في شتي مظاهره الحيوية والحضارية والمعمارية والتجارية.. عن القاهرة.. فقد تجد - أو لا تجد - مستشفي كبيراً متعدد الاختصاصات ومجهزاً علي أعلي مستوي، ومتكاملاً فنياً وتقنياً وطبياً وطوارئياً، ومجهزاً لإجراء العمليات الصعبة فوراً إذا لزم الأمر.. بينما ترفل القاهرة في عدد كبير من هذه المستشفيات بين الخاص والعام، والحكومي والاستثماري.. الخ!
ولكن، ما إن استقر بي المقام في قصر ثقافة غزل المحلة، وهو يقع في القلب من القلعة الصناعية الكبري لمصانع النسيج الشهيرة، واكتمل عقد الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين.. وبدأت الأمسية.. حتي ملأني الشعور الرائع الذي له ما يبرره تماما.. ان بعض جوانب النقص التي أشرنا اليها في الاقليمي، وتفرقته عن العاصمة، علي مستويات مادية وتجارية ومعمارية وتخطيطية.. الخ، تختفي هنا تماما في حضرة هذه الكوكبة اللامعة من أدباء وشعراء وكتاب المحلة، الذين أكدوا لي في هذه الليلة الجميلة، أن الثقافة والوعي الفكري، والانتباه السياسي، والقيم الابداعية اللافتة، ليست حكرا علي القاهرة، وانما كما هناك من الجواهر الثمينة والرؤي المكينة، والأفكار اللامعة، والحضور اللافت.. يشع من بعض أقاليم مصر، كما تأكد لي في هذه الليلة الرائعة من ليالي المحلة الثقافية، مع الشعراء والمثقفين والكتاب الكبار.. جار النبي الحلو، وأحمد عزت سليم، وسعد الدين حسن، ومحمد عبدالستار الدش، ومختار عيسي، وايهاب الورداني، ومحمد عبدالحافظ ناصف ومحمد المطارقي، ولطفي مطاوع، ونجوي سالم، وأحمد عيد، والفنان كمال قنديل، وسعيد عبدالرازق، ومرسي البدوي، وجابر سركيس، وعبدالجواد حمزاوي.. والذين يغطون باهتماماتهم ومساهماتهم كافة جوانب الابداع الأدبي المعروفة.. من القص: جار النبي الحلو وهو المعلم الكبير والفنان الرائع وسعد الدين حسن الناقد القاص المهم، والورداني وسركيس والحمزاوي والمطارقي الذي يكتبون للطفل أيضا، والشعراء عبدالستار الدش ومختار عيسي ولطفي مطاوع ونجوي سالم وأحمد عيد والحريري، والكتاب عزت سليم وناصف، وعشرات الأسماء المهمة التي لا تحضرني جميعها، والتي أكدت بما لا يدع مجالات لأي شك، أن الأدب والفكر والثقافة والابداع بكل خير في مختلف أقاليم مصر، وان تقصير القاهرة بمؤسساتها المعنية المختلفة.. ظاهر وبين.. في القاء الضوء المستحق والواجب علي هذه الطاقات الابداعية الكبيرة، والمواهب التي تجاوزت - من زمن طويل - سنوات التكوين، ومكابدات البداية، ووصلت الي مراتب عالية من النضج والتميز..
.. استمع الي الشاعر عبدالستار الدش، يقول من قصيدة له بعنوان «أمي» من ديوانه «من أغاني الطمي»:
عندما/ قال المعلم/ حاولوا رسم الصحاري/ والبيوت/ ورسم نهر النيل يجري/ والحقول/ رسمتي/ أمي..
ويقول في مقطع آخر من نفس القصيدة:
«كانت أمي/ تسعل كل صباح/ حتي أبكي/ مع أن شبابيك البيت/ مغلقة/ باب الحجرة/ موصد/ رحم الله أبي/ كم كان محبا أكثر مني/ إذ كانت تضحك/ كل صباح..».
وفي قصيدة بعنوان «فرخ»:
وأم/ تفصد من ثغرها: مستحيل/ يرف/ يرف/ العيون مسمرة/ والدماء علي الأرض تكتب/ هذا شهيد الخروج/ فطوبي لمن يخرجون
وأخيرا، هذه القصيدة البديعة (تجميل):
أنفك تعشق صدري/ صدري يتهرب/ لملمها/ واغسلها/ من رائحة اللحم الميت/ أو دعني أحرقها/ وأثبت وردة
وهذا شاعر العامية أحمد ابراهيم عيد في ديوانه المتميز «عريان يا نخل»
يقول من قصيدة «يا نينوي»
يا نينوي/ هل تمرنا طاب واستوي/ واللا اللي باقي لينا/ يا دوب نوي!
ومن قصيدة «نخل وكلاب»:
حالة سبات/ في اللا مكان/ حالة دخول/ في اللا زمن
والرغبة راكبة جناح/ شيطان/ والحلم ما هوش مؤتمن!
أما شاعرة قصيد النثر المتميزة.. نجوي سالم، فتقول من قصيدة «صفقة مع البحر».
ليت البحر ملك لي/ إذن/ لسكبته علي صدرك/ واسترحت.. فلا تبتئس/ الحين سأخطو نحو روحك/ وامنحك فرشاة جديدة/ وبالتة ألوان./ فلا تفقأ عين اللوحة/وانت تحاول عبور أحزانك
طبعا، أنا هنا أشير، مجرد اشارات سريعة الي بعض هذا الفيض من الشعر والشعراء في المحلة، ربما لأن هذه الدواوين أهديت الي، وبقيت معي، ولكن هناك من الشعراء الذين لا تقل أعمالهم عن هذا المستوي، وان لم أحصل علي دواوينهم للأسف، كالشاعرين لطفي مطاوع وعبدالمنعم الحريري وغيرهما.
3
تبقي دهشتي من عدد الحضور، الكبير نسبيا، إذا قسنا علي جمهور الندوات والأمسيات بالقاهرة، ثم بالاضافة لتنوع الجمهور وتعدده، وتباين مواقعه الفكرية، وتراوح مروحته العمرية من الشباب الي الشيوخ.. لفت نظري الطريقة المتحضرة للغاية التي دار بها الحوار، وتباينت الرؤي، وتغايرت الأفكار، وتناوأت وتناوشت الأطروحات، بلا خروج واحد عن أدب الحوار ورقيه، وحق الاختلاف وتمدينه.. ويشترك الجميع في المتابعة الصاحية جدا لأحوال البلاد ولدلالات الأحداث، والأهم، ما تشعر به من قلق الجميع البالغ علي الوطن، والخشية العميقة من أن تنجرف البلاد الي ما لا يحمد عقباه بفعل فاعل خارجي، أو بتداعي الأحداث الداخلية، التي يعمي أصحابها التعصب والتحزب عن رؤية الأخطار الرهيبة المحدقة بالوطن كله!.. وانتقل الحديث من الثقافة الي الاعلام الي الشعر والابداع ونحن نجلس في بؤرة، أو قاعة معرض للفنان التشكيلي مدير القصر كمال قنديل، والذي قدم مجموعة من أعمال التصوير المتميزة، والتي يغلب عليها طابع سريالي شعبي مليء بالغرابة والجمال، والتمكن الفني والتقني.
ولا أخفيكم، فقد شعرت بفرح حقيقي، لوجود هذا الكم المتميز من الأدباء والكتاب والشعراء في المحلة، الذين لا يقلون في مستواهم وثقافتهم ووعيهم - بحال - عن أدباء القاهرة، برغم انهم لا يحظون بما يحظي به أولئك من فرص ومناسبات للظهور والاعلان عن أنفسهم وأعماله! وهنا نأتي الي أهم ما يوجع أدباء المحلة، وهو نموذج ناطق - لاشك - بلسان أدباء مصر في كل محافظة واقليم، وهو هذا التجاهل الذي تعامل به القاهرة بمؤسساتها الثقافية المختلفة هؤلاء الأدباء.. فهم - في الغالب الأعم - لا يدعون الي مؤتمرات القاهرة، ولا يحظون بفرص للسفر الي الخارج في مهرجانات أو مؤتمرات، لا يحصل منهم (من يستحق) علي منحة تفرغ مثلا، وحتي في المناسبات الثقافية الكبيرة، كمعارض الكتاب مثلا، وما يقام فيها من أنشطة منبرية.. لا تناقش أعمالهم، ولا توضع في دائرة الضوء رغم استحقاقها لذلك.. لا يلتفت النقد - إلا فيما ندر - إلي ابداعاتهم، فيما عدا من ارتبط منهم بالقاهرة بسبب وثيق، كالانتقال الكامل، أو الاقامة الطويلة فيها - مثلا - كجابر عصفور وسعيد الكفراوي وفريد أبوسعدة وأحمد الحوتي ومحمد صالح رحمهما الله!
المهم، تنتهي الليلة البديعة المشحونة بالمناقشات والشعر والذكريات والاختلاف الذي هو أقرب ما يكون الي الاتفاق، والاتفاق الذي لا يخلو من اختلاف، في مصارحة مطلوبة، ومكاشفة مرغوبة، ومناقشات ذات محمولات نقدنية وجمالية لافتة.. فالطليعة الأدبية في المحلة تقرأ وتنابع جيدا.
وتنتهي الندوة، وأصافح الجميع الذين غمروني بكرمهم ودفئهم وحضورهم، ولم يتركني الأصدقاء الأعزاء عبدالستار الدش (الذي أدار اللقاء) وايهاب الورداني ومحمد المطارقي (رئيس نادي الأدب) حتي أودعوني أمانة بين يدي سائق الميكروباص، الذي انطلق كصاروخ موجه من المحلة الي القاهرة.. لأنتبه تماما - وقد كان النوم قد بدأ يداع جفوني - متيقظا ومستنفرا، أنا وشعر رأسي - أو ما بقي منه - قد وقف عدة مرات فزعا (شعر رأسي) من هذه القيادة الصاروخية التي أوصلتنا للقاهرة في ساعة وخمس دقائق!
وطول الطريق تجيش عواطفي، حبا وعرفانا وامتنانا، للكاتب الكبير جار النبي الحلو الذي ترك عزاء مهما في العائلة لقريب لصيق، وأتي ليحضر اللقاء من أوله لآخره.. وظل يتابعني - بالتليفون - حتي اطمأن علي وصولي سالما، وللرائع أحمد عزت سليم الذي تحامل علي قدمه وركبته المتعبة ليشرفني بحضوره الودود، والناقد الأديب سعد الدين حسن الذي تخلي عن عزلته التي يضربها علي نفسه، خصيصا ليسعدني برؤيته وحضوره.
.. وظلت هذه الخواطر الجميلة تداعبني، وتخفف من غلواء احساسي بالسرعة الرهيبة التي انطلق بها السائق المحلاوي المتمكن يسابق الزمن.. ويحرق المراحل والمسافات.. بين المحلة والقاهرة!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.