تشهد القاهرة حاليا، حالة من الشد والجذب علي مستوي المشهد السياسي، ونفس هذا المشهد تكرر في عدد من المحافظات، إلا أنه بتأمل الوضع نكتشف أن محافظات أخري خارج هذا السياق ومنها البحر الأحمر، التي تمثل ثمن مساحة مصر جغرافيا، لذا توجهنا إلي عدد من الأدباء هناك لنسألهم عن تأثير ما يحدث سياسيا عليهم، وكانت الإجابة صادمة إلي حد كبير: » لا يوجد ثمة تغيير في أي شيء بعد ثورة يناير، إلا الهتاف الذي شغل الأدباء حبا للثورة، ثم عادت الأمور سريعا كما كانت «. في هذا التحقيق نرسم صورة للمشهدين الثقافي والسياسي في تلك المحافظة، الثرية بمبدعيها، الذين يبوحون بحقيقة المشهد: إيجابياته، وسلبياته. الأديب عبيد طربوش يري أن المشهد الحالي يعاني من حالة ركود، نتيجة مشكلتين جوهريتين، الأولي: اتساع حجم المحافظة، إذ أن المسافة بين مدنها تصل إلي مئات الكيلو مترات، مما أسهم في قلة التفاعل بين الأدباء، بالإضافة إلي البعد عن القاهرة، فضلا عن عدم الاهتمام الإعلامي بمبدعي المحافظة، الذي يمكن وصفه بالنادر جدا، يعلق طربوش »حتي أن صحف ومجلات ومطبوعات الثقافة الجماهيرية لا تهتم بنا بالدرجة التي توازي حجمنا الإبداعي« مضيفاً: أما المشكلة الثانية فتتعلق بأن معظم المواقع الثقافية بالمحافظة غير مهيأة لاستقبال الأدباء والرواد، فالأماكن غير مجهزة بالشكل الكافي، وبعضها لا يمتلك حتي مقاعد للجلوس عليها أو أجهزة صوت لإقامة عروض مسرحية أو أمسيات شعرية«. أما الشاعر سيد الطيب الفائز بجائزة الشارقة عن مسرحيته (بائعة الصبر)، فيصف المشهد قائلا: قصور الثقافة لدينا تعيش حالياً في حالة موات أصاب مواقعها، فضلا عن انشغال المبدعين بلقمة العيش، وهجرة العديد منهم إلي القاهرة. سألته: ألا يوجد جديد بعد ثورة 25 يناير، أجاب: لا يوجد ثمة تغيير في أي شيء إلا الهتاف الذي شغل الأدباء حينا بعد الثورة، ثم عادت الأمور سريعا كما كانت. الكاتب محمد التركي -الفائز بجائزة إحسان عبد القدوس عام 2005 عن روايته »عش الأغرية« يسجل نقطة جديرة بالتأمل وهي كيف أن القصير، وهي ليست عاصمة المحافظة أصبحت أكثر جذبا للحركة الأدبية من الغردقة: كان في اعتقادي أن منبت شعلة الثقافة , والحركة الأدبية , ومركز إشعاعها , هو مدينة الغردقة .. كونها عاصمة الإقليم , وبؤرته ذات الضوء الأخاذ .. إذ أن كل الطرق من رأس غارب , حتي الشلاتين لا بد وأن تمر بها .. غير أني وجدت أن الشعلة الحقيقية تتألق مزدهرة في مدينة القصير علي غير توقعي، لذا كان من الضرورة بمكان تحري حقيقة وضع غير طبيعي , لا شك أنه ملفت للأنظار , ولا يستقيم مع كونها عاصمة إقليم ملء الأسماع والأبصار .. وإذ بي أجد مبدعا خلاّقا اسمه محمد الجارد الزقيم من أبناء القصير .. لا يمكن لأحد أن يتهمني بمجاملة , أو تحيز لذلك العملاق المهذب الذي استطاع أن يجمع حوله , ليس فقط مبدعي القصير , والبحر الأحمر .. بل استطاع بكل كفاءة عالية , واقتدار أن يجمع غالبية عظمي من مبدعي وسط , وجنوب الصعيد، شعراء وقصاصين، حوله , ولو مرة كل عام في شكل جائزة القصير للإبداع الأدبي، وهي سابقة انفرد بها لم أعهدها بأي إقليم آخر بالجمهورية .. ويكفي هذا الرجل فخرا بوصفه قلب الحركة الثقافية النابض بالبحر الأحمر, أن ضم إليه جناحين غاية في الحركة الدءوب , والفهم الناضج للمفهوم الأدبي , وأقصد بهما الشاعرين سيد الطيب, و أبو ضيف شلبي .. إذ يكفي أن يجتمع هؤلاء _ الفرسان الثلاثة _ كي يحيلوا عتمة أي إقليم من أقاليمنا إلي نهار بسّام. .. وعن الوضع في الغردقة يقول: يعز عليّ القول أنها تخلو من مسئول يعي , ويدرك قدر , وأهمية الوضع الثقافي , والحركة الأدبية رغم كل الإمكانات المتاحة هناك، فهي تمتلك قصرا ضخما فخما للثقافة، إلا أن المشهد ليس ضبابيا تماما، إذ يعوضه جهد المبدع القاص سعيد رفيع في تجميع الأدباء«. و عن المعوقات والمشاكل التي تواجه الحركة الأدبية بالبحرالأحمر، يقول التركي: عدم نشر الأعمال المتميزة ذات الثقل الأدبي .. يليها افتقار الغردقة إلي محرك فعّال يضخ الحرارة في مفاهيم صدئة تهرأت بعوامل الإهمال , واللامبالاة .. ثم المجاملات غير المنطقية التي تساعد علي طفو الغث , وتجتث الثمين في تحيز لا معني له .. وأخيرا افتقاد الود بين المبدع , والمسئول عن الحركة الأدبية لينفرط عقد الجماعة. سألته وماذا عن طرق التواصل مع وسائل النشر؟ يقول: كل الطرق مقطوعة، إذا استطاع المبدع النشر علي حسابه الخاص، فيا مرحبا، وليس كلنا هذا الرجل، فإن لم يستطع، ولم تكن له علاقة خاصة بدور النشر الحكومية، بمعني صداقات مع القائمين علي إدارتها، فلن ينشر شيئا. هو بمثابة الأديب الروحي للحركة الأدبية في البحر الأحمر، نشر الأديب سعيد رفيع ستة أعمال أدبية، في مجال القصة القصيرة: نزوة تمرد، البربوني يتجه شرقا، العودة إلي جوبال، ورواية »شتاء حار« كتاب في مجال الأدب الساخر بعنوان »أفيدونا عن الجمل«، بالإضافة لمجموعة قصصية مشتركة بعنوان »لماذا لا تأكلين التفاح«. سعيد يقدم لنا بانوراما عن الوضع الثقافي قائلا: حتي عهد قريب لم تكن محافظة البحر الأحمر علي الخريطة الثقافية لمصر .. ولكن خلال العقد الأخير نشطت الحركة الثقافية فيها ، وأقيمت في المحافظة عدة مؤتمرات لهيئة قصور الثقافة ، منها أكثر من مؤتمر لأدباء مصر في الاقاليم ، ومؤتمران لاتحاد كتاب مصر ، ويعتبر قصر ثقافة الغردقة من أفضل القصور علي مستوي الجمهورية من حيث الامكانيات التي تؤهله لاقامة أي مؤتمر ثقافي أو علمي ، ففي القصر عدة قاعات للأبحاث وقاعة للترجمة الفورية ومسرح، كما توجد قصور ثقافة في كل من سفاجا والقصير وأم الحويطات والحمراوين ، ولكن مدينة رأس غارب فقط هي الوحيدة التي حرمت من وجود قصر ثقافة ، ومن وجود نادي أدب ، وهو الأمر الذي يثير الدهشة خاصة وأن رأس غارب هي ثاني أكبر مدن المحافظة من حيث عدد السكان بعد الغردقة . وعلي العموم لا توجد مشاكل كبيرة بين الأدباء وبين المسئولين عن قصور الثقافة في البحر الأحمر ، فيما عدا بعض المشاكل العادية الشائعة في جميع محافظات الجمهورية ، واغلبها مشاكل متعلقة بالنشر أو بالترشيح للمؤتمرات خارج المحافظة ويضيف:»ولكن مما يؤسف له أن التواصل بين أدباء المحافظة محدود بسبب بعد المسافات بين مدن المحافظة ، فالبحر الأحمر محافظة شاسعة ، تمتد من الزعفرانة شمالا وحتي حلايب جنوبا ، أي بطول 1080 كيلومتر ، والمسافة بين مدينة مثل رأس غارب ومدينة مثل القصير مثلا هي نفسها المسافة بين رأس غارب والقاهرة« أما عن طرق النشر خارج المحافظة، فيقول سعيد رفيع: لاشك أن أدباء القاهرة أوفر حظا من أدباء الأقاليم ، لقربهم من مراكز وأدوات النشر ، ولكن هذا لم يمنع بعض أدباء الأقاليم من التربع علي عرش القصة والشعر في مصر ، رغم اقامتهم بعيدا عن القاهرة ، ومن حسن الحظ أن شبكة الانترنت تتيح الآن للأديب أن يتواصل مباشرة مع جميع دور النشر والصحف بل وكبار النقاد والكتاب في مصر وفي جميع أنحاء العالم ، فالانترنت اصبح هو المركز الآن وليس القاهرة ، وصدقني الصورة الآن تكاد تكون معكوسة ، فأدباء الاقاليم حالياً صاروا الاوفر حظا ، لأن لديهم وقتاً أكثر للقراءة والكتابة ، أما أدباء القاهرة فيضيعون نصف وقتهم في وسائل المواصلات ، ولا يتبقي لديهم من وقت للقراءة أو الكتابة سوي القليل. الأديبة مني سعيد تصف الوضع في البحر الأحمر بأنه بخير: »فلا توجد مشاكل ننفرد بها عن بقية المحافظات سوي صعوبة التواصل بين الأدباء بسبب بعد المسافات بين مدن المحافظة ، بالإضافة إلي ارتفاع كلفة إقامة المؤتمرات والفعاليات الثقافية لنفس السبب ولكون المحافظة من أبرز المحافظات السياحية ما يترتب عليه ارتفاع تكلفة الإقامة في الفنادق من الأمور التي و هي أمور لابد أن تؤخذ في الحسبان عند التفكير في اقامة أي مؤتمر في البحر الأحمر« . وتضيف: لعل ارتفاع كلفة اقامة المؤتمرات في البحر الأحمر هي التي جعلت من اقامة المؤتمرات في المحافظة أمرا مستحيلا مالم يتدخل المحافظ شخصيا لدعم المؤتمر ماديا ، وهو الأمر الذي اعطي للمحافظين نوعا من الوصاية غير المباشرة في تحديد موعد المؤتمر وتحديد اعداد المشاركين فيه وربما يتدخل المحافظ في تحديد محور المؤتمر نفسه في بعض الأحيان ، أو يدفع المسئولين عن المؤتمر الي اختيار محور يرضي عنه المحافظ أو يجد هوي في نفسه. وتستكمل مني كلامها قائلة: وبصفة عامة هناك تعاون بين الأدباء وبين القائمين علي قصور الثقافة في المحافظة ، وان كان الأمر لا يخلو احيانا من بعض المشاكل الصغيرة سواء بخصوص النشر أو بخصوص الترشيح للمؤتمرات وعن المشهد الثقافي بعد ثورة يناير تقول مني: لاحظت أن هناك ركودا في النشاط الثقافي بالمحافظة في أعقاب ثورة يناير ، وربما يكون السبب في ذلك هو الوضع غير المستقر والانفلات الأمني الذي يهيمن علي المحافظات كافة بما فيها محافظة البحر الأحمر بالطبع .