كان لقاؤهما الأول فى المجلس الأعلى للثقافة، فى مقره القديم بالزمالك، كان ذلك فى مؤتمر «توفيق الحكيم»، تم انتداب عماد أبوغازى وقتها من الجامعة بشكل عادى، فقد كان مدرساً، بينما فشلت محاولة انتداب أحمد مجاهد، المدرس المساعد. ظل مجاهد يعمل بشكل غير رسمى وبدون انتداب لسنوات، ولم يكن يحصل على مال بانتظام، «شهر، وشهر لا»، ولكنَّ الاثنين كانا يشعران أنهما يخدمان الثقافة، وموضوع المال لم يكن فى بالهما، كان جابر عصفور كبيرهما، كانا ذراعيه، عماد الأيمن، ومجاهد الأيسر، وكانت الصداقة تنمو بسرعة كبيرة بينهما، وخرجت من نطاق العمل إلى نطاق الحياة الشخصية، وشهد عماد أبوغازى على زواج مجاهد، ورويداً رويداً أصبح كل منهما مرآة للآخر ومكملاً له. وهذه حكاية لا يعرفها الكثيرون، يسردها أحمد مجاهد.. رئيس الوزراء الأسبق عصام شرف استدعى عماد أبوغازى ليكلفه بحقيبة «الثقافة»، وكانت الدنيا صعبة جداً، والشوارع متوقفة بسبب الإضرابات والمتاريس التى انتشرت فى كل مكان وصارت علامة على تلك الحقبة، ولم يكن أمام أبوغازى إلا الذهاب سيراً إلى مجلس الوزراء، وبعد أن انتهى اللقاء مع شرف، قرر أبوغازى المرور على صديقه أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة فى مكتبه ب»عمارات العرائس»، كانت المسافة يسيرة بين مجلس الوزراء والهيئة، وفى المكتب أخبره عماد بالسر، أنه أصبح وزيراً للثقافة، ولكن السر لم يصبح سراً بعد دقائق، فبينما يتبادلان الحديث أعلن التليفزيون النبأ، وكان أحمد مجاهد يشعر بأنه أدى مهمته فى هيئة قصور الثقافة، وتشبَّع من العمل هناك، ومن الأفضل له أن يترك مكانه لشخص يمكن أن يضيف شيئاً جديداً، أما هو فقد كانت لديه خطة كبيرة للنشر فى هيئة الكتاب، وبالتالى وبعد حوار قصير مع أبوغازى اتفقا على أن يتولى «هيئة الكتاب». يقول مجاهد: «كان موظفو الهيئة يتظاهرون مثل الجميع فى البلد وقتها، كانوا غاضبين وسدُّوا المدخل، ورفضوا وجودى بمجرد إعلان اسمى كرئيس للهيئة، وعماد أصر على أن يذهب معى إلى هناك، وأنا رفضت، وأصرت على الرفض، وقلت له: أنت وزير ومينفعش تروح هناك نهائى والدنيا والعة، وكتبت له استقالتى، كنت أفكر فى أن صداقتنا تحتم عليَّ أن أترك مكانى لكى لا أسبب له قلقاً، ولكنه كان حاسماً كعادته وتجاهلها، وأصر أن يأتى معى، وأمام إصراره رضخت، وذهبنا فعلاً، ووقف بثبات أمام الموظفين، وطلب مجموعة منهم، وذهبنا معهم إلى دار الكتب لنفتح معهم حواراً ونستمع إلى مطالبهم، وسألهم: لماذا تعترضون عليه؟ هل تعرفونه؟ هل استمعتم إليه؟ هل رأيتم كيف يعمل؟ واستمعوا إليَّ فعلاً، وفوجئوا بأن لديَّ خبرة بالهيئة، وعملت فيها لبعض الوقت سكرتيراً لتحرير مجلة (فصول)، كما طرحت أمامهم بعض ما أفكر فيه لتطوير الهيئة، وخرجوا مبسوطين، ولكن الاضطرابات لم تنته، وقال لى عماد إنه سيأتى معى مرة أخرى، كان قوياً وشجاعاً للغاية، ولا يرهبه شىء، والبلد كلها كانت سايبة، واتصل برئيس الوزراء، وقال له إن ما يحدث بلطجة لن يرضخ لها أبداً، وإن مجاهد إن لم يتمكن من تسلم عمله سيستقيل فوراً»، ويعلق: «لا يمكن أن أنسى هذا الموقف، لأنه يدل على معدن أبوغازى، لقد ظل لفترة وجيزة فى منصبه كوزير للثقافة، لكننا استطعنا أن ننجز الكثير، بسبب تفهمه ودعمه وتنظيمه، وقد افتتحنا، على سبيل المثال، قاعة صلاح عبدالصبور، وهى أول قاعة للندوات فى الهيئة، وأسسنا معرض فيصل للكتاب، وأصبحنا ضيف شرف معرض كتاب تركيا». فى معرض اسطنبول 2011 أول سفرية لهما سوياً كانت فى معرض فرانكفورت، وكانت جامعة الدول العربية ضيف الشرف، وكان مسئول التنظيم هو المرحوم محمد غنيم، وكان الاثنان يساعدانه: «أبوغازى دؤوب جداً طول عمره، ينجز فروضه على أكمل وجه بدقة متناهية، وحينما تُتاح أمامه فسحة من الوقت ينطلق فوراً بدون تفكير إلى المتاحف ومعارض الفنون والآثار، ويكون متسلحاً بالخرائط المناسبة للمدينة، ويصور كل ما يحبه وكل ما تقع عيناه عليه، كان ولا يزال شغوفاً بالفن، ولطالما أثار إعجابى»، ويضيف: «لم يختلف فيه شىء مع ترقيه فى الوظيفة، فما كان يفعله وهو رئيس للشعب واللجان بالمجلس هو ما يفعله وهو وزير للثقافة، وما يفعله فى أى مدينة هو ما يفعله فى المدينة التالية، يخلع الملابس الرسمية بعد عمل كثير، ويتحول إلى سائح مثقف، هذا هو تكوينه، لا يعمل بالثقافة فقط ولكنه محب لها». أبوغازى هادئ، لكنه يكون صعباً للغاية فى مواقفه، إذا اتخذ موقفاً فإن عودته فيه تكاد تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة. يحكى مجاهد قصة جديدة.. مناقشة دكتوراه د.أحمد مجاهد حينما كان عماد أبوغازى مسئولاً عن «الشعب واللجان» بالمجلس، كان مجاهد مسئولاً عن «المؤتمرات»، وحدث خلاف ما بين جابر عصفور وأبوغازي: «كان عماد زعلان جداً، وقرر الاستقالة، وكتبها وسلمها لمديرة مكتبه، وعرفتُ بالأمر، ولم أسأل مطلقاً عن السبب، وحصلتُ بطريقة ما على ورقة الاستقالة، وعماد عرف بذلك، وكان غاضباً جداً، وكتب أخرى، وهذه المرة سلمها إلى مديرة مكتب الأمين العام للمجلس الدكتور جابر عصفور، وبالمودة الشديدة والاحترام استطعت كذلك سحب الاستقالة الثانية، ومر الموقف بسلام فى النهاية، جلس الاثنان، وزال الخلاف كأن هناك من مسحه بأستيكة»، وضحك: «الظرفين اللى فيهم نص الاستقالة مقفولين لغاية اللحظة دى، لم أفكر فى فتحهما مطلقاً، ولا يزالان حبيسى صندوق الذكريات فى بيتى»، ويعلق: «لم أشأ أن أسأل أياً منهما، الدكتور أبوغازى والدكتور جابر، رغم مرور كل هذا الوقت ما سبب الخلاف، وهذا هو الطبيعى فى العلاقات المحترمة، الغضب سيذهب وتبقى المحبة، لقد رأيت فيه من اللحظة الأولى شخصاً شديد الأدب، شاطر جداً، والأهم مخلص، ولكن مواقفه حدية، وهناك اختلاف بين شخصيتينا بكل تأكيد، فأنا أميل بطبعى إلى المرح والدنيا فاكَّة معايا حبّتين، أما عماد فيبدو متجهماً للوهلة الأولى، لكن حينما تقترب منه ستجد أيضاً ذلك الشخص البسيط، والذى لا تفارقه ابتسامته الجميلة، لقد قضيناً زمناً، نعمل معا طوال اليوم، ونتناول الوجبات الثلاث معاً، ولا نذهب إلى بيوتنا إلا للنوم، ثم يتجدد اللقاء بنفس الشكل فى اليوم التالى، لقد بدا أن الحياة ستسير إلى الأبد هكذا، ولم تكن لديَّ مشكلة فى صحبة هذا الإنسان الرائع». لدى عماد، كما يقول مجاهد، هواجسه الغريبة، ومنها ما يخص النظافة، والميكروبات، إنه لا يأكل مثلاً أى نباتات تطرح ثمارها بالقرب من الأرض، حينما كان صغيراً، فى بداية السبعينات تحديداً، اجتاح البلد وباء، له علاقة بالتين البرشومى، ورغم أن القصة انتهت منذ زمن، إلا أن عماد لم ينسها، وحتى الآن لا يأكل التين البرشومى أبداً. يضحك مجاهد: «خلاص.. انتهينا»، ويضيف: «أيضاً قرر بعد وفاة أبيه أنه لن يرتدى إلا كرافتة سوداء، وقال إنه لن يغير ذلك إلا فى فرح ابنته، وهذان المثالان وغيرهما يكشفان لك صرامة عماد حتى فى الأمور البسيطة، وهى الصرامة التى تُميِّز كذلك مواقفه الفكرية». نمت صداقة الاثنين فى دهاليز المجلس الأعلى للثقافة وأروقته، وبينما يحضِّران لكثير من المؤتمرات، أو أثناء تلك المؤتمرات ذاتها، كانا حريصين للغاية، وعرفا أن شيئاً صغيراً للغاية قادر على إفشال مؤتمر، ولكنهما، بحسب حكايات مجاهد، كانا يُفاجآن بأمور تبدو تافهة للغاية تصل إلى الأمين العام نفسه، فأحد المثقفين الكبار يتصل بمكتب الدكتور جابر ويخبر مديرته ليقول له إن غرفته تخلو من علبة مناديل: «كنا حريصين على كل شىء، والضيف نعتبره مسئوليتنا الشخصية، كان عماد يبقى فى المجلس بينما أذهب مع المثقفين إلى الفندق، كنا نقسم أنفسنا بحيث لا يفوتنا شىء، وهذه سياسة الدكتور جابر عصفور، ألا يترك شيئاً للصدفة، هناك أمور كان تُحل بابتسامة، بضحكة، باستيعاب، قيمة الضيف من قيمتك، أنت أستاذ جامعة وهم قامات ثقافية كبرى». معرض فيصل 2011 يعود مجاهد إلى أبوغازي: «الآن يمكننا أن نتقابل مرتين أو ثلاثاً، ومن الممكن أن نتحدث عشر مرات فى التليفون، خلال العام، لكن قوة علاقتنا لم تتغير، وكل منا يقول أمام الآخر ما يقوله فى ظهره، بل إنه يقول كلاماً أفضل وأجمل بعيداً عنى، وهكذا أفعل أيضاً، وكل منا يجد الآخر، ولا يحتاج سوى إلى رفع سماعة الهاتف». كان مجاهد يعمل على بحث منذ فترة، كان البحث الأخير فى الترقية، واحتاج إلى بيانات من ثلاثة أو أربعة سطور موجودة فى موسوعة «المرأة العربية»، واتصل بعماد وقال له إنه يريد معلومات عن كاتبة معينة، وقال له عماد إن الموسوعة ليست أمامه الآن، وبعد ثلاث أو أربع ساعات اتصل به عماد وقال له إنه سيرسل إليه ما يحتاجه على الإيميل: «أصبح اللقاء دورياً شبه مستحيل فى ظروف الحياة الصعبة، لكن عمق العلاقة والمحبة والإخلاص يحفظ الصداقة متوهجة». ويقول: «لا يوجد سر بيننا، ومع هذا لا يتدخل أحدنا فى شئون الآخر، وهذا أمر مهم لتدوم الصداقة، ما لا تريد الحديث عنه أنا لا أسألك فيه، سواء الآن أو بعدين، ولو أردت أن تتحدث فهذا يخصك، كل منا يحترم المساحة الشخصية، وبالتأكيد أنا محظوظ به، فهو شخصية نادرة فى التهذيب وفى الأخلاق، والإخلاص الشديد، والثبات على الموقف، وأنا فخور لمجرد أنه يعتبرنى أحد أصدقائه». فى الشارقة 2011 فى المجلس 2011 فى المجلس قبل 2005 مصر ضيف شرف معرض اسطنبول 2011 معرض اسطنبول 2011