الأمام محمد عبده أود في البداية أن أذكر أننا في هذا المؤتمر، مؤتمر العربية لغة وأدباً، إبداعاً ونقداً، فكراً وثقافة ومجتمعاً، والقرن التاسع عشر هنا اصطلاح تاريخي صرف .. أو هو إطار لمرحلة تاريخية ماضية .. لكن الماضي لا يموت إنه يمضي فقط بعد أن يترك لنا آثاره ومؤثراته، وحاضرنا في القرن العشرين وما بعده هو ابن للقرن التاسع عشر بدرجة أو أخري .. والقضايا التي سيتناولها هذا المؤتمر سوف ترصد وتحلل وتستكشف التغيرات والتحولات التي أدركتها اللغة العربية وآدابها، والتي أدركت اللغة ذاتها .. ورصد التغيرات والتحولات هو من صميم عمل المؤرخ في شتي مجالات التاريخ .. وأود أن أضيف أن الأدب يعد مصدرا من مصادر المعرفة التاريخية، ومساهماً في تشكيل وعي المؤرخين بالمرحلة التاريخية التي يكتبون عنها أو بالمجتمع الذي يدرسونه. ثم أليس المبدع ابن عصره وزمنه وتاريخه؟ وهل يمكن لناقد أن يكون موفقاً في فهم نص إبداعي دون معرفة تاريخ المجتمع والفترة الزمنية التي أنتجت هذا النص ؟. لذلك أرجو أن تسمحوا لي أن أتذكر معكم ملامح صورة العالم العربي منذ بداية القرن التاسع عشر. ولذا ينبغي أن أشير إلي ما يأتي: أولاً: إن معظم البلاد العربية كانت خاضعة لحكم الأتراك العثمانيين بصورة أو بأخري، وأن الدولة العثمانبة كانت قد بلغت درجة كبيرة من الضعف، أغري القوي الاستعمارية الأوروبية علي اختراقها. ولاشك أن انتظام البلاد العربية تحت حكم واحد – حتي لو كان غير عربي – قد صان حياتها المادية والروحية، ووجه تاريخها في اتجاه واحد، فجاءت الأهداف واحدة وطريق الخلاص واحداً ... ولكن وحدة العرب تحت الحكم العثماني كانت ظاهرية أكثر منها حقيقية، فشتان بين وحدة في ظل الاستقلال والسيادة ووحدة في ظل حكم اجنبي، حتي وإن كان إسلامياً، فعجز العثمانيون عن الإفادة من ذلك الملك العريض الذي وقع في أيديهم. ثانيا: ساهم العثمانيون مع الشعوب العربية في مجابهة العدوان الصليبي ممثلاً في البرتغال والإسبان حتي نجحوا في وقفه، ثم تقاضوا ثمن هذه المساهمة بسيطرتهم علي البلاد العربية – كما أشرنا - وانتقل مقر الحكم إلي الاستانة بعد أن انتقلت الخلافة إلي السلاطين العثمانيين، ونزلت البلاد العربية إلي مرتبة الولايات، وشهدت حكاماً وأخلاطاً من الجند حاكمين ومستغلين، ولكن كانوا يعتبرون أنفسهم والترك والشعوب الأخري التي تضمها الدولة أعضاء في جسم كبير هو الدولة العثمانية، وظلت هذه الشراكة قائمة عن رضا وطواعية، يدعمها شعور الإخاء الإسلامي والمصلحة المشتركة، حتي عصفت بها ريح القومية قبيل الحرب الأولي، سواء كانت قومية تركية أو قومية عربية . ثالثا: كان العرب تحت الحكم العثماني أقوي في ميزان الثقافة والحضارة من الترك، وعلي الرغم مما أصاب اللغة العربية والثقافة العربية في العهد العثماني من جمود وضعف، فقد بقيتا المقوم الأساسي للشخصية العربية مما حفظ كيانها الذاتي وحال دون اندماجها في الكتلة العثمانية، وقد عاون علي ذلك الأساليب التي اتبعها الأتراك في الحكم، فقد كانت تعوزهم فكرة الدولة الحديثة القائمة علي تجميع السلطان وبث سلطة الدولة علي جميع الطوائف والأنحاء ووضع السياسات واصطناع الأدوات التي تعين علي تحقيق ذلك من نظم ودواوين وإدارات ولهذا صان المجتمع العربي كيانه، بالاعتماد علي الكيانات الصغري التي يتألف منها كالعصبيات المحلية والزعامات الإقطاعية والطوائف الحرفية والصوفية .... وأصبح ولاء الفرد لهذه الكيانات أقوي من ولائه للدولة، والدولة كانت بدورها تعتبرهم رعايا " لا مواطنين " ... ففكرة " المواطنة " تأخر ظهورها في البلاد العربية . السيطرة الاستعمارية في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين: في أواخر القرن الثامن عشر ظهر عجز الدولة العثمانية عن مدافعة الأطماع الأوروبية التي بدأت تتجه نحو قلب العالم الإسلامي، فظهر ضعفها واضحا عندما تعرضت مصر والشام لحملة غزو عسكرية فرنسية عام 1798 . فكانت فرنسا أول دولة استعمارية اتجهت بأطماعها إلي هذه المنطقة لتتخذ من مصر قاعدة لبناء إمبراطورية فرنسية في الشرق ،ولكن الحملة (1798 - 1801) ووجهت بمقاومة عنيفة ومستمرة من المصريين، وإن كانت فتحت أمام مصر باب الاتصال بالحضارة الأوروبية، إلا أنها فتحت باباً للشر ظل دهراً طويلاً بعد ذلك يؤثر علي المنطقة، ويعرقل تطورها وتقدمها وهو باب الاستعمار الغربي . غير أن مصر أخذت بأسباب النهضة الحديثة، في عهد محمد علي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما اتسع نطاقها الحيوي وهو المشرق العربي، وخاصة في الجزيرة العربية والشام والسودان ... وصحب ذلك حركة إحياء سياسي واقتصادي وثقافي .. فقدمت مصر في القرن التاسع عشر الغذاء الروحي لليقظة العربية، ممثلاً في نشر التعليم باللغة العربية، وخاصة في معاهد التعليم العالي التي تعد الأخصائيين في العلوم والفنون المختلفة، وفي ترجمة الكتب وتأليفها في مختلف العلوم والآداب باللغة العربية ونشر الصحافة الحديثة، واستخدام اللغة العربية لغة للدواوين والقضاء ... فتدعمت الحركة العربية الحديثة ، وكان لإحياء الثقافة العربية ووصلها بالثقافة الأوروبية الحديثة أقوي الأثر في بعث الوعي القومي العربي. ولم ترحب الحكومة العثمانية بهذه النهضة العربية في مصر، فتآمرت مع الإنجليز (بمعاهدة لندن عام 1840 ) حتي ردوا القوة المصرية إلي داخل مصر نفسها ولم يسمحوا لها إلا بمنفذ للاتساع في وادي النيل وإفريقيا وهو ما حققته مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في عهد الخديو اسماعيل ، وبدورها استغلت حركة الاستعمار الأوروبي هذا النزاع العربي العثماني وضعف الدولة العثمانية ووضعت يدها علي أجزاء من الوطن العربي . وكما هو معروف، احتل الفرنسيون الجزائر عام 1830 م ليتخذوها قاعدة لبناء إمبراطورية في شمال إفريقيا، واحتل الإنجليز عدن عام 1839م ليتخذوها قاعدة للتوسع لهم في ساحل الجزيرة العربية، ثم احتل الإنجليز مصر عام 1882 وكذلك السودان عام 1896، واحتل الفرنسيون تونس عام 1881 ثم المغرب عام 1912. كذلك بسط الإنجليز سيطرتهم علي سواحل الخليج العربي وربطوا إماراته بقيود ومعاهدات، أو علي الأدق تعهدات، منذ عام 1820، بعد تدميرهم لقوة القواسم في الشارقة ورأس الخيمة، فكانت معاهدات السلم البحري، والهدنة البحرية، والمعاهدات المانعة، ومعاهدات الحماية البريطانية التي كانت أشكالا من السيطرة فرضت عليها جميعا، وكانت آخرها معاهدة الحماية مع حاكم قطر عام 1916 . وعندما دخلت إيطاليا ميدان الاستعمار احتلت ليبيا عام 1911، واحتل الاسبان منطقة الريف في شمال المغرب العربي عام 1912 . وخلال ذلك كله كانت الدول الأوروبية الكبري تعمل متحدة أحياناً، ومتنافسة أحياناً أخري، علي نيل الامتيازات والتوغل الاقتصادي والثقافي فيما بقي من البلاد العربية، ولم تبدأ الحرب العالمية الأولي عام 1914 إلا وكانت البلاد العربية قد اصبحت تحت السيطرة الاستعمارية والتبعية الأوروبية . ورغم هذه التطورات الخطيرة، شهد العالم العربي تطورات أخري في علاقتهم بالدولة العثمانية ويقظتهم القومية تتمثل فيما يلي: إن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد انبعاث يقظة فكرية ثقافية وفكرية عربية، تحولت بفعل عوامل عديدة إلي حركة سياسية قومية وقف فيها العرب للعثمانيين وجهاً لوجه بعد ما يقرب من أربعة قرون من قبول حكمهم وسيادتهم باسم الإسلام ودولة الخلافة، وباسم حماية بلادهم من أطماع الغرب التوسعية .. لقد كانت الدولة العثمانية تتعامل مع جميع الشعوب المنضوية تحت لوائها دون تمييز بين جنس وآخر، غير أن توالي القرون والأحداث غير من نظرة العرب كثيراً لدولة الخلافة، خاصة عندما ميزت عنصرها التركي عن سائر الأجناس، وكرد فعل لذلك لدي العرب تولد لديهم شعور بالتميز القومي، أو أن هذا الشعور تيقظ، وهو ما يسميه بعض الكتاب " يقظة العرب القومية " ويبرز علي رأس العوامل التي أفضت إلي ذلك ضعف الدولة العثمانية وشيخوختها نتيجة عوامل تاريخية تتعلق ببنية النظام العثماني ذاته وعجزه عن التكيف مع التطورات الجديدة والاستفادة منها، ومواجهة الدولة لحركات انفصالية وثورات محلية ودعوات إصلاحية مناوئة لسلطتها... وتكالب الدول الأوروبية لاختراق ولاياتها وتقطيع أوصالها في البلقان والقوقاز... إلخ . وفي مقابل ذلك قامت في البلاد العربية، وخاصة مصر والشام والعراق، حركة إحياء ثقافي أيقظت الشعور القومي العربي نتيجة عوامل ذاتية علي نحو ما حدث في التجربة المصرية في عهد محمد علي، ثم نتيجة انتقال المؤثرات الغربية، وظهور الطباعة، ودورها في نشر المؤلفات العربية، كما لعبت البعثات التبشيرية ومدارسها وخريجوها دوراً في حركة الإحياء الثقافي، إلي جانب مهامها التبشيرية، فأقامت جسورا لاتصال التراث الثقافي العربي بالثقافة الأوروبية الحديثة، وبالإضافة إلي ذلك لعبت الجمعيات الأدبية والعلمية دوراً مهما في نشر الثقافة العربية، وخاصة في بلاد الشام التي لعب المثقفون المسيحيون العرب دوراً كبيراً في هذا المجال ... ويلاحظ أن هذه الجمعيات انحصر دورها في النشاط الثقافي بشكل عام، ولم تكن هناك دعوة لخلق كيان سياسي عربي، وإن نادي بعض المثقفين بالانفصال عن الدولة العثمانية والارتباط بالغرب، واتجه البعض إلي الدعوة إلي إقامة حكومة تضمن مساواتهم بغيرهم في إطار دولة الخلافة. ويتصل بيقظة الشعور القومي لدي العرب الدور الكبير الذي لعبه المفكرون والمثقفون العرب، وخاصة في مجال حركة التجديد الإسلامي التي أكدت علي قوة ومتانة الرابطة بين العروبة والإسلام وعلي أهمية العربية وتراثها، ممن أضافوا رافداً جديداً إلي تيار الوعي العربي، مثل محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعبدالحميد الزهراوي وشكيب أرسلان ورفيق العظم وغيرهم ... ممن آمنوا بوجود دائرتين لا تعارض بينهما، إن لم تكونا متضادتين، هما : الدائرة العربية وهي رابطة العروبة المباشرة والطبيعية، والدائرة الإسلامية التي تربط العرب بالدولة العثمانية، وهي الدائرة الأوسع ... كما لم يمانعوا في استمرار ارتباط العرب بالدولة العثمانية، في ظل الأخطار المحدقة ببلادهم، ولكن في ظل حكم غير مركزي، يحقق لهم نوعاً من الاستقلال الذاتي ويعطيهم حقوقهم السياسية والاجتماعية . ومع قيام حركة شباب الأتراك (تركيا الفتاة) من الاتحاديين بثورتهم ضد السلطان عبدالحميد ( 1908 – 1909) التي انتهت بعزله ... كانت "يقظة العرب" القومية تتحول إلي "حركة عربية"، بعد أن تولي الاتحاديون الأتراك السلطة خلال السنوات الخمس التي سبقت الحرب العالمية الأولي، وحكموا فيها حكماً استبدادياً وعنصرياً، فحلوا الجمعيات التي لا تنتمي إلي العنصر التركي، وقرروا منع قيام جمعيات وأحزاب لها أهداف سياسية أو تسمية قومية، ومن هنا بدأ الكثير من الزعماء العرب ينتقلون من النشاط العلني إلي تأليف جمعيات سرية تسعي لتحقيق أهدافهم القومية بعيداً عن رقابة السلطة، فشهدت الفترة (1909- 1914 ) تأليف عدد من هذه الجمعيات للتعبير عن الاتجاهات القومية للمفكرين والسياسيين العرب ولتوحيد مطالبهم وجهودهم في عمل عربي مشترك ... بينما أمعن الاتحاديون في سياسة " التتريك"، وحصر المناصب العليا بالدولة في العنصر التركي، فطور القوميون العرب مطالبهم من الاستقلال الذاتي والحكم اللامركزي إلي المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وتطورت الأمور إلي حد قيام العرب بثورتهم الكبري ضد الدولة العثمانية في عام 1916 كما هو معروف. مراجع مختارة : أحمد زكريا الشلق : العرب والدولة العثمانية (1516-1916) مصر العربية للنشر 2002 . أحمد عزت عبدالكريم وآخرون: دراسات في تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت 1970 . ألبرت حوراني : الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول ،بيروت 1977 : تاريخ الشعوب العربية، ترجمة كمال الخولي، بيروت 1997 . أمين سعيد: ثورات العرب في القرن العشرين، دار الهلال القاهرة، دون تاريخ توفيق سلطان ومحيي الدين توفيق : دراسات في الوطن العربي، الحركات السياسية والثورية، جامعة الموصل، 1975. توفيق علي برو: العرب والترك في العهد الدستوري 1892-1914 القاهرة 1960. جميل مطر وعلي الدين هلال: النظام الإقليمي العربي، دراسة في العلاقات السياسية العربية، مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت 1983. جورج أنطونيوس : يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، ط (6) بيروت 1980. حسين مؤنس : الشرق الإسلامي في العصر الحديث، القاهرة 1938. عبدالكريم رافق : العرب والعثمانيون 1516-1916، ط (1) دمشق 1974 . عمر عبدالعزيزعمر: تاريخ المشرق العربي1516 -1916 ،بيروت 1984 . نجلاء عز الدين : العالم العربي، ترجمة محمد عوض إبراهيم وآخرون، القاهرة 1965 .