جوستاف مايرنيك، واسمه بالميلاد جوستاف ماير (19 يناير 1868 4 ديسمبر1932) واحدٌ من أهم الأصوات الأدبية الرائدة في كتابة ما يُسمي بالأدب القوطي، لا في المنطقة المعروفة جغرافيًا ببوهيميا وحدها، بل في الأدب الغربي بوجه عام، حتي أنّ الكاتب الأرجنتيتي الكبير خورخيس لويس بورخيس حينما قرأ روايات مايرنيك للمرة الأولي، وعلي الأخص رواية »الجولِم» بعد صدورها، وكان بورخيس آنذاك في السابعة عشرة، أثار جوّها المسكون بالأشباح خياله، فكتب: »كل شيء خارق في هذا الكتاب، حتي الكلمات الصوتية ذات المقطع الصوتي الواحد الورادة في الفهرس مثل براج، الليل، الشبح،إلخ. واصفًا الرواية بأنها »قصة خيالية تنطوي علي أحلام أخري»، فأفسحت المجال أمامه لتضع ركائز الكثير من قصصه المستقبلية، بل وقصائده الشعرية كذلك. رغم ذلك لم تحظَ أعمال مايرنيك بالاهتمام الكافي عربيًا، حتي نقلَ الدكتور إلياس حاجوج إلي العربية اثنين من أهم أعماله بترجمة رصينة، وهما روايتي »الجولِم» و»الوجه الأخضر»، صدرتا عن دار نينوي السنة الماضية. سأحاول في السطور القادمة التعريف بأدب مايرنيك وحياته، مع إضاءةٍ سريعة علي روايته الأشهر »الجولِم». ولِد جوستاف مايرنيك كطفلٍ غير شرعي لبارون وسياسي ألماني يُدعي كارل فون فارن بُللر وأم يهودية الأصل تشتغل بالتمثيل. أمضيطفولته في ألمانيا، ثم انتقل بعدها إلي براج ليقضي فيها نحو عشرين سنة، بدأ في كتابة القصص القصيرة، ونشر قصصه القصيرة الأولي في براج سنة 1901. فكانت براج نقطة انطلاق مشروعه الأدبي الرائد، ومنها أيضًا استمدّ الثيمات الأسطورية/الدينية التي شكّلت إطار أغلب أعماله، كما لو كان قدر مدينة براج بتراثها وشوارعها وأزقّتها المتعرّجة وبيوتها ونوافيرها، أن تصيرتعويذة السحر، ومُلهمة خيال الكُتّاب العِظام، وربما دفع سحرُها الغامض الكاتب َالإيطالي أومبرتو إيكو لاتخاذها عنوان روايته الذائعة »مقبرة براج»، والتي نلمح فيها أجواء الأقبية السرية والمكائد والمؤامرات بطريقة قريبة من طريقة تصوير إيكو. في كتابه، »جوستاف مايرنيك: حياةٌ في قبضة السِحر»، وهو كتاب يتناول حياة مايرنيك وأعماله الأدبية، يروي بروفيسور هارتموت بِندر حكاية غريبة ارتبطت بسيرة مايرنيك الذاتية حتي وفاته. تقول الحكاية إن مايرنيك لما بلغ الرابعة والعشرين عقد النية علي الانتحار، لأسباب من بينها حالته النفسية السيئة، وانفصاله عن أسرته. وفي أحد الأيام اشتري مسدسًا، وأغلق باب غرفته استعدادًا لإطلاق الرصاص علي رأسه، لكنه ما لبث أن سمع طرقًا علي باب الشقّة، ولما فتح الباب رأي يدًا غريبة تمتد لتضع كتيبًا صغيرًا أسفل الباب. كان الكتيب يحمل عنوان »ما بعد الموت». وسواء أكانت هذه القصة حقيقية أم محض اختلاق، إلا أنها شكلت علامة فارقة في حياته، حيث بدأ مايرنيك بعدها التعمّق في قراءة تراث القبّالاه (العرفان) اليهودي، والعكوف علي دراسة علوم السحر والخيمياء والتصوّف الشرقي، وقد قصّ مايرنيك هذه الواقعة في قصّته القصيرة »الطيّار». برغم أن فكرة رواية »الجولِم» مستوحاة من تراث »الجولِم» الشعبي المشهور بين يهود مدينة براج، وهي الفكرة التي ظهرتْ إلي الوجود علي يد الحاخام اليهودي التشيكي لوفِه من أجل حماية الحي اليهودي في القرن السادس عشر، إلا أنّ شخصية الجولِم اتخذَت في رواية مايرنيك صورة كائن له صفات مائزة تتناسب مع أوائل القرن العشرين،فاستطاع مايرنيك في روايته تطويع مادة التراث اليهودي لتلائم فكرته. تعرّفنا السطور التالية من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، علي أصول فكرة الجولِم: (وانتشرت وسط جماعات يهود اليديشية أساطير الجولم وقدرة الخلق باستخدام الاسم أو الكلمة وقيل إن إلياهو الشلمي (وهو رجل دين عاش في القرن السادس عشر) قد خلق جولم باستخدام »اسم الإله الأعظم» حتي أنه لُقِّب ب »سيد الاسم» أو »بعل شيم» ومن أهم الشخصيات اليهودية المرتبطة بأسطورة الجولم في تاريخ يهود اليديشية الحاخام يهودا لوفِه البراجي (1513 - 1609). ومن باب التوضيح أضيف أن مفردة »الجولم» بالعبرية، توازي في دلالتها كلمة »الهلام» في لغتنا العربية، أو ما يُمكن أن ندعوه مجازًا »الغلام الهُلام».
في رواية مايرنيك،يحضر الجولِم حضورًا خاطفًا، فهو كائن يتجلي في شوارع مدينة براج وأزقتها كل ثلاث وثلاثين سنة علي هيئة مخلوق أمرد ذي وجه مغولي، يجوب الحي اليهودي بمشية منتظمة، ويعود إلي بناية عتيقة قرب الكنيس اليهودي ليختفي داخلها، وتحديدًا في غُرفة ذات شباك حديد، وحينما يتطوّع أحد الرجال إلي إلقاء نظرة داخل الغرفة عبر حبلٍ مُدلّي من سقف البناية، ينقطع الحبل فجأةً ويسقط الرجل صريعًا، تتكرر المحاولات الفاشلة، ولا يوفّق أحدٌ في الوصول إليه. كان الجولِم – وفقًا لكلمات الرواية- »يعبر الحيّ اليهودي مرّة واحدة، ويصيب نفوس الأحياء بالذعر ابتغاءً لغاية ما تبقي مستترة عنا». تدور أحداث الرواية حول حياة آثناسيوس بيرناث، وهو جواهرجي ومُرمّم أنتيكات، ممحُوّ الذاكرة، له ماضٍ غامض مشوب بشبهة الجنون، يسكن جيتو اليهود في براج. تركز الرواية إجمالًا علي مغامرات بيرناث مع جيرانه في الجيتو اليهودي (تاجر الخردوات فاسّر تروم، وطبيب العيون، والمرشد الروحي هليل، إلخ)،وتأملاته المرويّة في شكل حكايات أقرب إلي الكوابيس، فتضع سلامة قواه العقلية، بل كل ما يقوله ويفكر فيه موضع شكّ، ومثار سؤال حول ما إذا كانت تلك الحكايات والأحداث وقعت حقًا أم هي مجرد ثمرة هلاوس وضلالات، مكررًا في فصول عديدة العبارة نفسها: »ألم يكن ذلك مجرد حُلم؟ أو يحقّ لي أن أفترض ولو لثانية واحدة أن حادثًا لا شاهد عليه سوي ذاكرتي هو حدث حقيقي ومؤكد؟» لكن بيرناث كان يعوّل دائمًا علي ذاكرته. نعم، دائمًا ما كانت تنقذه الذاكرة، وكأنه يردد بيت الشاعرالأمريكي الكبير ويليام ستانلي ميروين: »ما تتذكّره، ينقذكَ». وبتقدّم الأحداث يتساءل القاريء هل هذا الرجل هو آثناسيوس بيرناث حقًا، أم أنه يحلُم أحلام رجلٍ آخر، مُتقمصًا هويته، ومُرتديًا قبعته في لعبة مرواغة كما سيكتشف القاريء لاحقًا، لاعبًا علي وتر »الآخر هو أنا». بحسب قرائتي الشخصية يكمن الجمال الروائي عند مايرنيك في قدرته علي تطريز ثوبه الروائي بقطعٍ لامعة من التأملات الفلسفية حول مسألة القدر، حين يقول السارد: البشر لا ينساقون في أي طريق، لا طريق الحياة ولا الموت، فهم ينساقون كالقشّ في التيار، أو ثنائية المعرفة والذاكرة مثلًا حين يقول: »..حينما تأتي المعرفة تدريجيًا تأتي الذاكرة أيضًا، المعرفة والذاكرة هما الشيء نفسه»، أو حول مغزي الحياة حين يقول شيمعيا هليل، موظف أرشيف المجلس البلدي اليهودي: »ليست الحياة بأكملها سوي أسئلة صارت صيغًا تنطوي علي بذرة الجواب، وأجوبة حُبلي بأسئلة، ومن يري فيها شيئاً آخر فهو مغفل، وكل سائل يتلقي الجواب الذي يحتاجه، وعلي كل إنسان أن يجد بنفسه الأحرف السرية التي تكشف له المعني المحدد لأجله وحده». رغم كتابة الرواية بهذا الأسوب السردي الغريب عن أنماط السرد السائدة في أوروبا آنذاك (العقد الأول من القرن العشرين)،لكننا نتابع حياة بيرناث وتفاعلاته مع أصدقائه وجيرانه من خلال سلسلة من المغامرات العبثية غير المُبررة، التي تشبه الحياة إلي حد بعيد. الرواية مؤلفة من عشرين فصلًا قصيراً، يتخذ كل فصل اسمًا مكونًا من كلمة واحدة (نوم، نهار، براج، نور، عذاب، إلخ)، وكأن كل كلمة تعزيمة سحرية لا بد من نطقها لفهم مغزي الفصل. عالم رواية الجولم مسكونٌ علي الدوام بأجواء المكائد السرّية، ومراقبة البشر من قِبل شخصيات مجهولة، تحرّك الناس وتتحكّم في أقدارهم.تتصاعد الأحداث، وتمضي مصائر الأبطال نحو نهايات عبثية بمعرفة قوي عُليا،كشخصية تاجر الخردوات اليهودي »آرون فاسّر تروم»، الذي كان يؤرقه دائمًاشخصٌ مجهول، يحسّ وجوده إلي جواره،ويتدخل في حياته ومع ذلك لا يستطيع الإمساك به، ألا يذكرنا ذلك بحالة »يوزيف كا»، بطل محاكمة كافكا؟ وفي فصلٍ آخريشاهد السارد قصاصات ورق تتطاير في الميدان بشكل دائري بفعل الرياح، فيهمس في نفسه بعبارة قد توجِز محور الرواية: »ماذا لو كنا نحن الكائنات الحية أيضاً شيئاً مشابهاً لقصاصات الورق هذه؟ تري ألا تسوقنا نحن أيضاً جيئة وذهاباً، ربما ريحٌ غير مرئية لا يمكن إدراكها، وتقرر أفعالنا، بينما نحن نعتقد بسذاجة أننا بإمرة إرادتنا الذاتية الحرة؟» ماذا لو أن الحياة فينا ليست سوي زوبعة هوائية؟ تلك الريح التي يقول الكتاب المقدس عنها: »هل تعلم من أين تأتي ولا أين تذهب؟»
وعن شخصية مايرنيك يقول عالم النفس السويسري الأشهر كارل جوستاف يونج إنها شخصية غامضة تنهل من ينبوعٍ رؤيوي عميق، مثله مثل دانتي، ونيتشه، وفاجنر. ويقول أيضًا عن أعماله: »إن القيمة والقوة تكمنان في غرابة وهول الحدث،فالحدث الروائي عنده من ناحيةٍ برّاق، وذوطابع غيبي، ومن ناحية أخري محطِّم لقيمٍ إنسانية وصور جميلة، حدث متشابك ومعقدومثير للذعر». لن يستطيع أيّ قاريء طالع الرواية وعرِف شيئًا عن ثيمات مايرنيك الروائية أن يمنع نفسه من عقد مقارنةٍ بينه وبين الكاتب التشيكي الأشهر فرانتس كافكا. حيث عاش كلاهما في مدينتي براج والنمسا، وهناك أوجه شبه بين ثيمات مايرنيك ونصوص كافكا، وتحديدًا فيما يتعلّق بالمكائد الغامضة التي تُحاك من جانب قوي خفية ضد إنسان بريء لا تُعرف تهمته علي وجه التحديد مثل رواية المحاكمة لكافكا كما أشرتُ، أو ضد إنسان ينشد العدالة، لكنه لا يُسمح له بالمرور أبدًا كقصة أمام العدالة. بالبحث السريع في موجز تاريخ الأدب البوهيمي المكتوب بالألمانية، وهو بالمناسبة يضمّ مبدعين من طراز رفيع من أمثال الشاعر والناثر الكبير راينر ماريا ريلكِه، والكاتب فرانتس فيرفيل، وألفريد كوبِن وغيرهم، لم أعثرعلي ما يؤكد صراحةً معرفة كافكا بمايرنيك، أو قراءة أيهما لأعمال الآخر، رغم وجود كليهما في المدينة نفسها وفي التوقيت نفسه. وبقراءة مقدمة الطبعة الإنجليزية لرواية »الجولِم»،يقول الناقد والمترجم روبرت إيروين: »في هذه الرواية لدينا قصر ليس كقصر كافكا، وتجربة ذنبٍ ليست كتجربة كافكا في »المحاكمة»، وبراج تختلف عن براج كافكا». لكن السحر لم يبطُل بوفاة الساحر، فبعد وفاة جوستاف مايرنيك في ديسمبر سنة 1932، وتحديدًا بعد انقضاء ستة أشهر من وفاته، انتحر ابنه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وهي السنّ نفسها التي أراد فيهاجوستاف مايرنيك إنهاء حياته، وفقًا لروايته الشخصية، ليحقّق الابن رغبة والدِه المشؤومة. الكتاب : الجولم المؤلف : جوستاف مايرنيك المترجم : إلياس حاجوج الناشر : دار نينوي