محمد البساطى حين نتأمل طريقة تكريم الغربيين لأدبائهم، نجدها تختلف عنا نحن العرب، فهم لا يكتفون بتسليط الضوء علي إنجازاتهم الإبداعية، بل يحتفون بكل ما تركوه من نصوص (مخطوطات، رسائل، مسودات...الخ) فهي تعدّ وثيقة تاريخية وأدبية! تفيد النقاد وطلاب المعرفة! وقد بدأ العالم اليوم يخسر مسودات المبدعين بسبب اعتماد الكتابة الحاسوبية، لذلك بقي لنا بعض المخطوطات والرسائل (ورقية، أو إلكترونية) خاصة تلك الرسائل التي تكون بعيدة عن الإخوانيات والمجاملات! وتتعلق بشئون الأدب أو الحياة! لنعترف بأن النقد العربي مازال مقصرا في تكريم أدبائنا أحياء وأمواتا تكريما حقيقيا، فقد طغي علي حياتنا الأدبية التملق والنفاق! ونسينا أن تكريم الأديب، يكون بنقد إنجازاته الإبداعية، وتبيان ما له وما عليه، وهذا لن يكون إلا بدراسة كل ما تركه من (رسائل، ومخطوطات، ومقابلات...) التي تقدّم إضاءات جديدة، تخفي علي المتلقي المختص والعادي. لهذا أدعو إلي تكريم الروائي (محمد البساطي) الذي غادرنا قبل فترة، عن طريق دراسة تجربته الفريدة في الإبداع، وعن طريق جمع رسائله ووثائقه...الخ، التي يصعب علي المتلقي العادي الوصول إليها، ثم إصدارها في كتاب، أو وضعها في مركز توثيقي في جامعة، أو مركز أبحاث، أو في متحف خاص بالمبدع، كي يستطيع الباحثون الوصول إليها والاستفادة منها. سأحاول، هنا، الإسهام في نصيبي في هذا التكريم، فأشير أن بحوزتي أربع رسائل للمرحوم، أرسلها لي مؤرخة بين عامي (2000-2006) كانت الرسالة الأولي(15/4/2000) بعد أن نشرت دراسة عن روايته اأصوات الليلب والثانية (10 /7/ 2000) بعد أن نشرت دراسة عن روايته اليالٍ أخري»، والثالثة (24/6/2001) إثر رسالتي التي أرسلتها أشكره علي إرساله مجموعته القصصية امختاراتب أما الرسالة الرابعة (12/6/2006) فكانت بعد أن نشرت دراسة عن روايته ادق الطبولب ومن أجل أن ألفت النظر إلي أهمية هذا العمل، سأتوقف مطولا عند جزء من رسالته الثانية (10 /7/ 2000) التي كانت ردا علي دراستي لروايته اليالٍ أخريب نظرا لما تحتويه من آراء نقدية للمرحوم، ومن شرح لآلية إبداع الشخصية الروائية! يلاحظ في البداية اهتمام الروائي برأي الناقد، فقد أقلقته رؤيتي لشخصية (ياسمين) التي تتناقض مع رؤيته، فقد بيّنت في الدراسة أن هذه الشخصية بذلت جهدها، كي تنتمي إلي عالم نظيف، يعترف بالعواطف وبالأحلام، لكنها سقطت في هاوية الضياع، بعد أن عاشت الإحباط إثر هجران زوجها عائدا إلي مجتمعه الاستهلاكي في الغرب، وبذلك انهار حلمها الخاص، مثلما انهار حلمها العام، حين تفشل في عملها (في الفنون الشعبية)! ولم يبق أمامها سوي عدم المبالاة، التي تتمظهر عبر علاقات جسدية متعددة في وقت سريع وبشكل آلي! ورأيت أن ما يؤخذ علي هذه الشخصية افتقادها لغة الأعماق، غالبا، رغم أننا لحظناها في مواقف تؤجج الصراع الداخلي، مثل اغتيال من تعاشر من الرجال، وممارستها كل مايناقض قناعاتها (علاقتها مع تاجر الانفتاح) أو حين مارست دورا غريبا عنها (إذ تتصرف كمومس مع الرجل الخليجي) إذ من المعروف أن المثقفة أكثر حساسية وكبرياء في العلاقة مع الرجل وأكثر جلدا لذاتها، وبالتالي أكثر ممارسة لحوار الأعماق! وهذا ما نكاد نفتقده لدي البطلة! لهذا قلت بأن الكاتب أسقط رؤيته، أي تجارب الرجل وعلاقاته علي البطلة! أو لعله أراد أن يوحي للمتلقي بتشييء المرأة، حين لا تحقق ذاتها بعلاقة إنسانية ما أو بالعمل المبدع! وكذلك قلت: إن القراءة الرمزية للرواية منحتها جمالية خاصة، إذ إن شخصية (ياسمين) تجسد حالة مصر في مرحلة السبعينيات، وتذكّرنا بشخصية (زهرة) في رواية بميرامارا ل(نجيب محفوظ) في الخمسينيات. ومما يعزّز، برأيي، رمزية شخصية (ياسمين) أن أخويها الريفيين لا يقتلانها، كالعادة، نتيجة تصرفاتها المناقضة لقيم الشرف، وإنما يقتلان كل من يحاول الاتصال بها، لتخلو مصر للتيار التقليدي، بدعوي أنه أكثر التيارات قدرة علي حمايتها من الانتهاك! وقد ردّ عليّ في رسالته موضحا علاقته بالرواية (ليالٍ أخري) بعد صدورها، قائلا: اأراها ومازلت بالشكل الذي يخايلني، وليس الذي خرجت به، والذي يأتي مخالفا في بعض جزئياته، وأعطيك مثالا: فأنا لم أقصد أبدا أن تكون بياسمينا رمزا لمصر، ولا شاغلتني هذه الفكرة، وكل ما شغلني أن أصور امرأة تمثل انكسارا لمسيرة جميلة، لم يكتب لها الاستمرار، وعصرا لم أحبه أبدا، لذلك قد تجدين نماذج متناثرة تمثل أوجها رديئة في هذه الفترة، وربما كان ذلك علي حساب القيمة الفنية للعمل، أو ربما زاد ذلك قليلا عما يحتاجه العمل، حتي لا يختلّ إيقاعه.ب يمارس، هنا، النقد الذاتي، الذي قلما يمارسه المبدع العربي، فما تخيله (البساطي) عن العمل، لم يصل للمتلقي، كما أراده، ثم يبيّن أن أسباب سوء فهم الشخصية، ربما يعود إلي كثرة نماذج الرجال الذين عاشرتهم (ياسمين) مما أثقل كاهل الرواية، وأساء إلي بنيتها الفنية! كما أنه أثناء إبداع الرواية، لم يكن يهتم أن يقدّم عملا رمزيا، فقد كان يهجس بأزمة عاشها هو وجيله في السبعينيات (زمن الانفتاح) بعد أن انكسر حلم بناء إنسان مصري متميز، ينهض بذاته وبوطنه! وبما أن هذا الزمن لم يحقق أحلامه تلك، عبّر عن كرهه له!! وجعل بطلته تعيش كراهيتها له، بطريقتها الخاصة، وبذلك اطلعنا علي الحالة النفسية، التي هيمنت عليه أثناء إبداع الرواية، وأسباب تجسيد الشخصية بهذه الطريقة، لذلك آلمه أن تبدو لي اياسمينب امرأة منحرفة، وبيّن في رسالته تلك طريقته في عملية الإبداع ورسم الشخصية، فيقول: الم يكن في ذهني أيضا أن أصوّر اياسمينب كامرأة عاهرة، وقد راودني إحساس أثناء الكتابة ، وربما بعد النصف بقليل، أنه قد يتسرب معني بذلك إلي ذهن القارئب هنا نلاحظ اهتمامه برأي المتلقي العادي أيضا، وليس المختص، فحاول أن يبعد فكرة عهر الشخصية عن ذهنه، لذلك غيّر (البساطي) طريقته في الكتابة، فقال: اورغم أنني لا أميل كثيرا للإفصاح في العمل الفني، إلا إنني تعمّدت الكتابة بشكل واضح أظن في فصل الثري العربي أنها ليست كذلك...ب (حين ترفض ياسمين أخذ المال منه، وبذلك ترفض أن تتصرف كعاهرة) نعايش، هنا، بالإضافة إلي اهتمامه بالتواصل مع المتلقي، رؤيته النظرية للعمل الفني، الذي يجب أن يقوم علي التلميح لا التصريح، ولكن خشية اللبس في فهم الشخصية، يبيّن انه خالف قناعاته الإبداعية، وقد برر كتابته هذه الملاحظة حول الشخصية بمثل هذا التفصيل قائلا: بلأنني أحسست في خطابك بشيء من اللوم لأنني صورتها كذلكا كما نعايش في هذه الرسالة بعض الطقوس، التي يمارسها (البساطي) بعد انتهائه من كتابة الرواية، وقبل نشرها، إذ نجده يستشير عددا من أصدقائه، إذ يقول في تلك الرسالة: بكان سؤالي لكل من عرضت عليهم المخطوط، كيف يرون اياسمينب؟ وحين اطمأننت أنها ليست بالشكل المسيء، دفعت بالرواية إلي النشرا هنا لابد أن أشير إلي أنه ربما تختلف النظرة الذكورية لشخصية (ياسمين) عن النظرة الأنثوية، لهذا أعتقد أنه عرضها علي أصدقائه الذكور، فبدت النظرة واحدة إلي الشخصية!! وقد طلب مني في الرسالة نفسها أن أعيد النظر في هذه الشخصية، فربما أحبها مثلما أحبها، ثم بيّن مكانة (ياسمين) في نفسه اإنها تمثل انكسارا لجيل-أنا منه- أو لمسيرة ثورية. أو لمسيرة تغييرب هنا نلاحظ أن المبدع لم يتخذ مسافة موضوعية بينه وبين الشخصية، فأعلن عن حبه لها، وبذلك تماهي مع بطلته، في بعض المشاهد، لأنها تجسد ما عاناه من حالة انكسار الحلم! لهذا كان متعاطفا معها، فلم ينتبه إلي تفاصيل أساءت إلي رسمها، وأبعدتها عن النطق بخصوصيتها الأنثوية باعتقادي، ولم تبدُ، أحيانا، مستقلة عن مؤلفها. ورغم كون الشخصية احالةب مرضية، لم تظفر بحرية التعبير عن أعماقها، فقد وضّح ذلك في الرسالة نفسها اوكان في ذهني وأنا أحكي عن علاقاتها بالرجال أنها أصبحت احالةب تأتيها ما تشبه النوبات، فتندفع للبحث عن رجل، دون أن تستطيع توقيف هذه النزوة...وفي تصوري أن مثل هذا النوع من الشخصية-وقد يؤيدوي علم النفس في ذلك- أنها شخصية دون ردود أفعال، بنوع من الجمود الداخلي، مع وحدة شديدة، هذه شذرات أتذكرها، مما كان يقودني أثناء الكتابة. أما إذا بدت اعاهرةب فأكون بذلك قد عجزت عن تصويرها بالشكل الذي أردتهب تدهشنا هنا اللهجة الموضوعية، التي تبتعد عن الجزم، خاصة حين يقول (وقد يؤيدني علم النفس في ذلك) وحين يعترف بأنه قد عجز عن تجسيد (ياسمين) للمتلقي بما تخيله وأراده! كما وضّح في هذه الرسالة طريقته في رسم الشخصية، والأفكار التي راودته أثناء إبداعها، فقد أراد أن تكون رمزا لحالة شاعت في مرحلة زمنية، مليئة بالانكسارات، إلي درجة التشيؤ، لذلك ضاعت من الشخصية لغة الأعماق، وردود الأفعال، وبالتالي إنسانيتها، من هنا رأيتها أشبه بعاهرة، لا علاقة لها ب(ياسمين) الموظفة المثقفة، هنا لابد من الاعتراف بأنني ربما كنت خاضعة في رؤيتي هذه لفكرة النمط، الذي يشكله ذهني للمرأة المثقفة. ومما يسجل للبساطي في رسمه للشخصية أنه بدا منتبها لعلاقتها مع إيقاع الرواية، فحدّثني اأن الجزء الثاني من الرواية، الذي يبدأ بعلاقتها بالرجال، قد أخذ إيقاعا مختلفا في الكتابة، ليست فيه شذرات من ذكريات، فاتر قليلا، وسريع شيئا ما. وليس فيه مناقشة مع نفسها حول هذه العلاقات. ثم بيّن لي قائلا بتواضع: اعموما. لقد حاولت، وأنا أري عملي من خلال عيون الدارسين، لذلك لا أخفي عليك أنني حزنت أن تبدو ياسمين كعاهرةب وقد كرّر انزعاجه هذا في رسالته التالية لي بتاريخ (10/7/2000) لعل أهمية هذه الرسالة تكمن في اعترافه قائلا: ببأنها المرة الأولي التي أفصح فيها عن أصول العمل وتفكيري به أثناء الكتابة، لأن ذلك أمر لا دخل للقارئ به، لا يفيده في شيء، لأن المهم هو العمل المكتوب. حكيته لك مدافعا عن نفسي، حين قلت في خطابك إن الرواية استفزتك.ب وهكذا لحسن الحظ أن (محمد البساطي) استفزّ، ودافع عن بطلته (ياسمين) كي يظفر النقد بأسباب إبداع هذه الشخصية، وطريقته في هذا الإبداع، صحيح أن هذا لا يهم المتلقي العادي، لكنه يهم المختص برأيي! أعتقد أن هذه الرسالة قدّمت لنا نموذجا لعلاقة فريدة في أدبنا العربي، بين الناقد والمبدع، قلما نظفر بها، إذ يسود، في كثير من الأحيان، سوء التفاهم والتوتر بينهما، خاصة حين لا يجامل الناقد المبدع، وحين يري هذا المبدع نفسه فوق النقد، لهذا نستطيع أن نستخلص احترام (البساطي) للرأي الآخر، الذي يناقضه في رؤية شخصية أحبها، بل يقرّ بفضل النقد، ودوره في إبداعه، لذلك نجده في آخر الرسالة، يقول: اأنا سعيد بصداقتك . وسعيد بصراحتك الجميلة مع العمل، والذي سيفيدني بالتأكيد، وقليلون الذي يطمئن الواحد لرأيه الآن. أخيرا أتمني أن يقيض الله للمرحوم البساطي من يجمع رسائله وأوراقه في مصر، مثلما قيض لبدر شاكر السياب ماجد السامرائي في العراق.