كانت الساعة تقترب من العاشرة.. وكان الجو ربيعاً.. في ذلك الصباح.. يوم 4 أبريل. وبدأ الرجال يتوافدون علي القاعة الفسيحة المطلة علي النيل.. في مبني مجلس قيادة الثورة بالجزيرة.. جاء القادمون من القاهرة، والإسكندرية.. ومن الجامعات المصرية الأربعة بالجيزة وعين شمس والإسكندريةوأسيوط.. وجاء بعضهم من وزارات الإرشاد القومي، والمالية، والتربية والتعليم. وفي العاشرة تماماً.. وصل شاب يفيض حيوية.. وشباباً.. وحماساً.. هو الصاغ كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم. كانوا جميعاً علي موعد في تلك القاعة التاريخية التي شهدت أحداثاً جسيمة وقرارات خطيرة.. في فترة دقيقة من تاريخ مصر الحديث وثورتها الناهضة. كانوا علي موعد لتحمل أعباء مسئولية جسيمة.. وعمل خطير.. من أجل إسعاد الملايين من الشعب المصري الذين قامت من أجلهم ثورة مصر. تكلم الوزير الشاب.. وشرح للمجتمعين مدي حاجة مصر إلي جهودهم.. وخبرتهم.. وأفكارهم.. وتجاربهم.. وحدد لهم الهدف الذي يجب أن يضعه كل منهم نصب عينيه كمواطن مصري عربي.. وأن يضعوه جميعاً نصب أعينهم كهيئة لها جلالها.. ولم يكن هذا الهدف سوي إسعاد الإنسانية. واستطرد كمال الدين حسين يقول: إن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا إذا آمن كل منا به.. فلست أفهم معني لليأس من إصلاح الفنون والآداب والعلوم في بلادنا. لقد تعرض شعبنا للكثير من الآلام، والمحن، والمرارة، في مختلف عهود التاريخ.. وقد آن الأوان لأن نسعد هذا الشعب. وختم الوزير كلامه قائلاً: أنا موقن بأننا سنجعل مصر محوراً للنشاط الأدبي، والفني، بواسطة هذا المجلس. وكان هذا إعلان ميلاد المجلس الجديد.. وأحسست وقتئذ بأن مخاوفي وشكوكي أخذت تتبدد وتغيب.. لأني كنت أخشي أن يجيء المجلس الجديد طبعة حديثة من مجالس أخري عرفتها مصر فيما مضي.. واستبدلت المخاوف والشكوك بنشوة متفائلة. لقد عاصرت إنشاء هذا المجلس منذ أن كان فكرة باهتة تدور في الأذهان. ومنذ أن كان حلماً يراود المتحمسين.. ومن خلال التفاؤل.. دعوت من أعماقي للمجلس الجديد بالتوفيق في تحقيق الهدف والرسالة التي أنشيء من أجلها.. وهي إسعاد الملايين من أبناء مصر. ومرت عشرة أيام.. ثم كان الاجتماع الثاني للمجلس.. بدأ الاجتماع في الثامنة والنصف.. وانتهي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وبعد تلك الساعات الطويلة من الجهد المتواصل.. أصبح للمجلس الوليد لائحة داخلية تحدد معالمه.. وتفاصيله وكيانه.. ومسئوليته.. وأسلوب العمل فيه.. ولجانه المختلفة.. ورؤساء تلك اللجان. ولم يكن المجلس الوليد يحبو وتبدأ كما حدث في بعض المجالس الأخري.. بل انطلق في حماس شاب رغم أن معظم أعضائه قد جاوزوا مرحلة الشباب أو هم بصدد اجتيازها، وأصبح للأدب أربع لجان هي: لجنة الشعر: ويرأسها الأستاذ عباس محمود العقاد. لجنة النشر: ويرأسها الدكتور مهدي علام من جامعة عين شمس. لجنة آداب اللهجات الدارجة: ويرأسها الدكتور حسين مؤنس من جامعة القاهرة. لجنة الترجمة والتبادل الثقافي: ويرأسها الدكتور طه حسين. وأصبحت للفنون لجان أخري.. هي: لجنة الموسيقي: ويرأسها الدكتور حسين فوزي الوكيل الدائم لوزارة الإرشاد القومي. لجنة السينما: ويرأسها الأستاذ يوسف السباعي. لجنة المسرح: ويرأسها الأستاذ توفيق الحكيم. لجنة الفنون التشكيلية: ويرأسها الفنان الأستاذ محمود سعيد. لجنة العمارة: ويرأسها الأستاذ محمود محمد الحكيم في جامعة الإسكندرية. ودارت مناقشة عن الإذاعة والصحافة والكتب والنشر وانتهي الأمر بأن تجمع كلها في لجنة واحدة سميت »لجنة الاتصال العام» ويرأسها الأستاذ يحيي حقي المدير العام لمصلحة الفنون. ثم استقر رأي المجلس علي تكوين المكتب الفني للمجلس من السادة الآتية بعد: الأستاذ توفيق الحكيم.. وهو عضو متفرغ معين من المجلس. الدكتور سليمان حزين.. من جامعة أسيوط. الدكتور سعدالدين طه.. وكيل المالية. الأستاذ أحمد نجيب عاشم.. وكيل وزارة التربية والتعليم. الأستاذ يوسف السباعي.. سكرتير عام المجلس وعضو متفرغ. وتحددت تفاصيل المجلس.. فهو يجتمع مرة كل شهر علي الأقل في المدة من أول سبتمبر إلي آخر يونيو.. ولا يكون اجتماعه قانونياً إلا إذا حضره نصف الأعضاء.. ومداولات المجلس خاصة أي »ليست علنية».. وتصدر الآراء بالأغلبية المطلقة. وحددت مسئولية السكرتير العام للمجلس.. فهو الذي يتولي السكرتارية.. وهو الذي يتولي تدوين محاضر جلساته واجتماعاته وقراراته والمجلس يقدم القرارات والتوصيات التي تتصل بالسياسة العامة للدولة في تشجيع الإنتاج الفني والأدبي وما يتصل بهما من أمور مالية وتشريعية إلي مجلس الوزراء لإقرار ما يراه فيها وتنفيذه. كما يصدر المجلس توصياته للهيئات الحكومية والأهلية العامة في ميادين الفنون والآداب بما يتفق والسياسة العامة للدولة. ويصدر المجلس في موعد غايته شهر نوفمبر من كل عام تقريراً مفصلاً عن النشاط الفني والأدبي خلال الاثني عشر شهراً السابقة. ويستوفي فيه حالة الوعي والإنتاج الفكري في مصر، وما تم تنفيذه من مشروعات للنهوض بمستوي هذا الإنتاج. ولتنفيذ مشروعات المجلس.. اتفق علي أن يتبع الآتي: مطالبة الجهات القائمة علي تنفيذ المشروعات بتقارير عن أعمالها.. يستوي في ذلك سواء أكانت الجهة حكومية أم أهلية. يعهد المجلس إلي لجانه المختلفة القيام بالاتصالات والأبحاث اللازمة لتبين مدي التقدم في تنفيذ المشروعات والعوامل التي تيسره، وما قد يعوقه من عقبات.. ولابد من تشكيل لجان خاصة للقيام بذلك. أن يتقدم المجلس للوزير المختص أو المشرفين علي الهيئات غير الحكومية القائمة بالتنفيذ، وفقاً لكل حالة، بتوصيات تتضمن مقترحات المجلس إما للتعجيل بتنفيذ المشروع أو لتحسين طريقة تنفيذه. أن يقدم المجلس إلي مجلس الوزراء قراراته بخصوص ما يكفل ضمان تنفيذ المشروعات في الحالات التي يري فيها ضرورة. هذا هو المجلس الجديد.. إنه بمثابة انقلاب في حياتنا الفكرية والفنية.. إنه ثورة أخري في حياتنا الاجتماعية والثقافية. أكتب هذه السطور.. ومازلت أذكر صوراً في طفولتي وشبابي المبكر.. حين كان فيها الأديب والكاتب والفنان.. عنواناً للشقاء والبؤس. أذكر يوماً.. منذ سبعة عشر عاماً، حين كنت أدرس الفنون الجميلة.. وأعمل في الصحافة والأدب.. جاءني أبي يرجوني ويستحلفني بكل مقدس أن أصغي إليه.. وأستجيب لطلبه.. ومهد لهذا الطلب بمحاضرة قصيرة عن المصير المظلم الذي ينتظرني في نهاية الطريق الذي أسير فيه.. ولم يكن الظلام في نظر أبي إلا التعاسة والفقر اللذين يلازمان الأديب والفنان والصحفي. واستطرد أبي يحاضرني.. ويشرح لي كيف أن إخوتي الصغار ينظرون لي كرائد لهم.. وأنهم سيقتفون أثري في الطريق الذي أسير فيه.. ثم تنتهي المحاضرة بأنه لابد من تحويل مجري حياتي لأصبح شيئاً »فالحاً» يكون مثلاً للصغار الأشقاء.. وتحول مجري حياتي فعلاً لأصبح ضابطاً بالجيش.. ولكنه تحول من جديد إلي الطريق الذي كان مظلماً منذ سبعة عشر عاماً مضت.. وأصبح اليوم طريق النور والضياء. تحية إلي المجلس الجديد.. وتحية إلي الرجال الذين ألقيت علي عاتقهم تبعة ضخمة حيال الشعب المصري.. والأمة العربية.. والإنسانية في عالمنا الكبير.