الوقت عصرًا، تناول »موسي» كوب الشاي وصعد ليشربه علي سطح منزله، هبت نسمة صيفية قادمة من البحر القريب منه، ملأت المكان برائحة البحر وزهر البرتقال، وملأته بالرضا عندما أخذ يجول بناظريه علي الأشجار المُحيطة بمنزله، امتلأ طمأنينة وزهوًا بنفسه كونه استطاع، وهو الذي لم يبلغ الثالثة والثلاثين، أن يشتري أرضًا تبلغ مساحتها خمسة عشر فدانًا، ويستصلحها، وبمرور الوقت يحيلها إلي جنة خضراء عامرة بأشجار البرتقال والليمون والجوافة، بعد أن كانت كثبانًا رملية موحشة، ويبني في ركن منها منزلاً، ها هو يمكنه، وهو واقف علي سطحه، رؤية كل ما حوله بوضوح من كافة الاتجاهات. التفت إلي اليسار نحو البحر الذي يبعد عنه مسافة أقل من كيلو مترين، ولا تفصله عنه سوي بساتين الفاكهة وأشجار النخيل الممتدة بمحاذاة الشاطئ، أطال عنقه قليلاً ليتمكن من رؤية المراكب التي تزحف ببطء فوق مياه البحر الساكنة. آلمه عنقه فأراحه وهو يديره قليلاً نحو الغرب، أخذ يتأمل مزارع الموالح وحقول النخيل الممتدة علي مرمي البصر، همس متعجبًا ومستغربًا في ذات الوقت: كيف استطاع الناس خلال أعوام قليلة، دون مساعدة الدولة، تحويل هذه المساحات الشاسعة من الكثبان الرملية إلي جنان خضراء تسر الناظر إليها وتُبهج قلبه. نزل ببصره حتي توقف عند مزرعة أبي كمال الصغيرة المجاورة لمزرعته، تأملها للحظات، شقَّ عليه رؤيتها مهملة، وشعر بالاستياء من كون »كمال» أهملها منشغلاً بوظيفته. لم يستطع إطالة النظر إليها، التفت نحو الجنوب، شعر بالغيرة وهو يتأمل فيلا »فؤاد» القريبة منه، وبدا مندهشًا عندما مد بصره خلفها وأخذ يسير بناظريه متأملاً العمارات التي أُقيمت مؤخرًا علي أطلال المنازل القديمة، وتمتد بمحاذاة الحدود التي تفصلهم عن »غزة». همس بشيء من التهكم: فلتحي الثورة، فلولا قيامها وتسببها في إحداث الفوضي، لما وُجدت تجارة الأنفاق، ولما عرف البعض سِعة العيش ورغده، ولظل أكثر أهل المكان يعيش حياة بائسة كما هو حالهم من قبل، ولولاها لما استطاع بدوره جني كل هذه الأموال، وشعر بالامتنان نحو شريكه »فؤاد»، ولام نفسه علي شعوره منذ لحظات بالغيرة وهو ينظر إلي منزله الفاخر. استدار قليلاً ناظرًا نحو الشرق، فشعر بغصة وهو يري علي بُعد خطوات منه النصف الآخر لمدينة »رفح الفلسطينية» عامرًا بأبنيته وصخب الحياة فيه، في حين يعاني نصفها الذي يعيش فيه من الإهمال، حدّق ساخطًا إلي السلك الشائك الذي يفصل بين »الرفحين»، تمني حزينًا لو أمكنه إزاحته والتخلص من أبراج المراقبة، والسير في نفس الشارع القديم الذي كان يسلكه يوميًا ذهابًا وإيابًا إلي مدرسته الإعدادية، رؤية أساتذته وزملائه القدامي، التجوال في شوارعها، مزاحمة الباعة في سوق »السبت»، ابتياع تذكرة لمشاهدة فيلم »الخطايا» بسينما »التحرير»، والبكاء تعاطفًا مع »عبدالحليم حافظ» عندما صفعه »عماد حمدي» علي وجهه وأنكر عليه أبوته. اكتسحه شعور جارف بالحنين لتلك الأيام الخوالي، فهمس متمنيًا: ليتهم أبقوا علي »رفح» كما كانت، ولم يشطروها إلي نصفين. وفجأة لمح »كمال» مُقبلاً، فتهللت أساريره، وأسرع نازلاً لاستقباله. قال »كمال» إنه لم يكن ليفاتحه في أمر »مها»، لولا معرفته بالعلاقة القوية التي تربطه بأبيها، وإذا لم يساعده ويقف إلي جواره، فربما ينتهي الأمر بكارثة لا تُحمد عُقباها، وأفهمه أنها متعلقة به، وهو بدوره لن يجد أفضل منها زوجة، لكن ثمة بعض الأمور يراها تحول دون ارتباطهما، ويعذبه أن »مها» لا تراها هكذا، وتقلل من أهميتهما، أهمها، أن »مها» غنية وهو فقير. فرد موسي، قائلاً: إن ما يهمه التأكد منه، هو ما إذا كانت مها تحبه بالفعل. أومأ كمال برأسه مؤكدًا أنها تحبه، فقال »موسي» مهونًا عليه: بأنه علي عكسه يتفق معها في أن مسألة غناها وفقره ليست مشكلة، ثم ألم تقل له أن يترك لها مهمة حلها، وهي تعرف كيف تحلها بطريقتها؟ أجاب كمال: نعم فتساءل موسي مندهشًا: إذًا لِمَ العجلة، فلينتظرا ! ووعده ألا يدّخر جهدًا لمساعدته. ثمة أمر آخر ما هو أريد بيع المزرعة لمعت عينا »موسي»، سرورًا، لكنه ما لبث إن تظاهر بعدم الرضا، خشية اتهام العائلة له بأنه قد استغل ظرف حاجة »كمال» للمال واشتري منه المزرعة، وأنساه جشعه الواجب الذي يُملي عليه في مثل هذا الظرف أن يعرض عليه المساعدة، بدلاً من شراء المزرعة، تفاديًا لذلك، تظاهر بنصح »كمال»، قائلا: إن عليه التفكير مليًا في هذا الأمر، وهو مستعد لإقراضه ما يحتاج من مال إلي حين ميسرة. »ميسرة»، قال كمال ساخرًا من فقره، ثم استأنف مؤكدًا: أن لابد من بيع المزرعة ليتمكن من الزواج، وقد اتخذ قراره النهائي ببيعها، فإذا لم يشترها، فسوف يبيعها لغيره. فرد »موسي» متظاهرًا بتعاطفه مع كمال: في هذه الحال هو أولي بها. **** أنهي »فؤاد» حديثه إلي »موسي» قائلاً: بأنه لا يفكّر في زواج ابنته قبل أن تُكمل تعليمها الجامعي، وأنه لا يوصي قريبه »كمال» بالانتظار، ففهم »موسي» أن الرجل يرفض هذه الزيجة بأدب، ولا يعنيه أن يعرف السبب، فقد خاف، إذا ما أصرّ علي معرفته، أن يختلف مع شريكه ويخسر تجارته معه، فليحرص علي مصلحته، ويترك لكمال مهمة السعي وراء سبب رفض أبي مها له، إذا ما أراد. وما أن عاد »فؤاد» إلي المنزل، حتي واجه زوجته، سائلاً: هل كانت ابنتك تذهب إلي المدرسة لتتعلم، أم لتبحث عن عريس؟! أعرفت بالأمر، من الذي أخبرك؟! فأخذ يحدّق إليها مستغربًا من كونها كانت تعرف ولم تخبره من قبل، ثم قال لائمًا: يبدو أنه آخر من يعلم! فأخذت تهدئ من روعه وتُطيّب خاطره، وترجوه أن يخفض صوته حتي لا يُفسد علي »مها» فرحتها بنجاحها ، ويسكب، كما يُقال، علي النار زيتًا. ففوجئت به يُقسِم غاضبًا، أن ما فكرت وخططت له مع ابنتها دون عِلمه لن يكون. وأخذ يحذرها من أن يحاول أحدهما فتح هذا الموضوع معه مرة أخري، وغادر في صباح اليوم التالي تاركًا البيت خلفه يشتعل نارًا. أخذت »مها» تصيح مهددة في غضب: بأنها، إذا لم يوافقوا علي زواجها من كمال، لن تتزوج من غيره ما بقيت علي قيد الحياة، وإذا ما أصرَّ أبوها علي رأيه فسوف تنتحر، وعليه أن يتحمّل نتيجة فعله. وعندما عاد »فؤاد» مساء وأخبرته زوجته بما حدث، ولم تنكره »مها» أوسعها ضربًا، وبالكاد استطاعت أمها إفلاتها من بين يديه. ورغم غضب »ريما» منه، إلا أنها شعرت بنوع ما من الارتياح لفكرة أنه قد أفرغ شحنة غضبه، ولابد أنه سيشعر بالندم، وربما سيكفّر عنه لاحقًا بالموافقة علي كمال. وفجأة سار الأمر عكس ما تمنت، إذ لم تستطع إسكات »مها» التي أخذت تهدد وتتوعد باكية، ما دفع بأبيها لأن يقول لزوجته غاضبًا: فلتعدي لها الغرفة الأخيرة في الطابق الأول. لِمَ؟! تساءلت »ريما» مفزوعة سأسجنها بداخلها حتي تفيق مما هي فيه وتعود إلي صوابها.