إبراهيم أصلان: اسم له رنين خاص علي السمع، ودبيب حاد علي القلب يجعلك لا تنسي هذا الاسم، كأنه نبي أو قديس أو ولي من أولياء الله الصالحين، اسم يدعوك دائماً لان تتمسك بمصريتك وخصوصيتك وتفاصيلك، فإذا أضفت لهما هذا الشارب الذي يزين وجهه تعرف انك مصري ابن بلد ومطحون وغلبان، انه شارب الحزن والنجاة والعلامة المصرية المميزة. كمسيح أو نبي يحمل كل هذه الهموم يقف إبراهيم أصلان وكتاباته وقصصه ومقالاته، ولو تم شرح عناوين كل كتاباته لعرفنا مدي الطهر والنقاء والرؤية الواعية التي كان يعيش بها، ومع أننا نري الغضب في الكثير من رواياته وقصصه، وأحيانا الوصول إلي عدم القدرة علي التغيير، إلا أن الكتابة بالنسبة له كما هي بالنسبة لكل جيله - هي النجاة، لذا تصبح الكتابة ضد الموت، وضد الانتحار، وضد الأنظمة المستبدة الجاهلة، هي قارب النجاة له ولنا أيضا. هكذا هو إبراهيم أصلان ابن الكيت كات وأبو هشام الجميل، وكلماته في كتابه الصغير الجاد، الكبير كجبل، الواضح كالشمس، الشفاف كالملائكة، يصيب به، واعتقد أن هذا الوطن لو به بعض المثقفين مثل إبراهيم أصلان لتغيرنا كثيرا. فهو ساعي بريد يحمل رسالة لأبناء بلده، رسالة هي سفر للحرية وللرفض وللتغيير، لقد ظلت المجموعة القصصية بحيرة المساء في ذهني إنها باليه لم ير النور، إلا أن فهمي الصغير تغير عندما كبرت فعرفت أن هذا الرجل مايسترو كبير مسيطر علي أدوات حرفته بمنتهي النعومة والصرامة، فلا تخرج القصة عن إطارها المرسوم والمحدد لها، قصص غارقة في التفاصيل لأشخاص لا نراهم إلا في أحياء وحواري إمبابة والكيت كات، لذا فقد حفر هو المكان بكل تلك الجدية، لتأتي بعد ذلك عصافير النيل، نحن المطحونين الذين نريد أن نغرد، لكن أقفاصنا الصدرية مغلقه علي همومنا، استطاع أن يجعلنا نغرد، نحن لم نبصر إلا من خلال الشيخ حسني تلك الشخصية التي إن تمسكنا بها في وقتنا الحاضر - سوف نستفيد كثيراً، كيف يري هذا الكفيف، انه المرادف لإبراهيم أصلان، يسخر منا، نحن الذين نمتلك عيونا ( مفنجلة ) للكنها لا تري أي شييء. إبراهيم أصلان الخجول المتواضع، الذي يوظف كافة الحواس في كتاباته الروائية، فمن منا لا يذكر شخصية الشيخ حسني، أحد شخصيات رواية مالك الحزين، الضرير، الذي لا تسعفه بصيرته برصد يوميات أبناء الحي فقط، بل هو يقود الدراجة، في شوارع القاهرة، كأي شخص مبصر، لذا جعل تلك الحالة تنتقل إلي القارئ والمشاهد أن يري. كان يوظف إبراهيم أصلان كافة الحواس في كتاباته الروائية، من لا يذكر شخصية الشيخ حسني، أحد شخصيات رواية مالك الحزين، الضرير، الذي لا تسعفه بصيرته برصد يوميات أبناء الحي فقط، بل هو يقود الدراجة، في شوارع القاهرة، كأي شخص مبصر، تلك الشخصية، كأنها مجاز لمنظور أصلان للتصوير الروائي، ورغبته بتحدي المستحيل: أن يجعل القارئ يبصر لا من خلال عينيه بل من خلال بصيرته، التي هي في لغته النقد الأدبي »القدرة التخيلية«. يمتلك عين كاميرا، ولأنه يعلم أن بحر اللغة عاجز أحيانا أمام التعبير، إلا انه اقتنص تلك الميزة المبهرة في الكاميرا ونقلها علي الورق، يهتم بكل شرخ في الجدار، وكل رقعة في الثياب، وكل حرف تنطق به شخصياته. وفهم إبراهيم أصلان انه يمتلك تلك الميزة، وفهم انه ليس مصورا، بل كاتب وموهوب، ولأنه يدرك حدود لغته وصعوبة المهمة التي يقوم بها ككاتب، لذا فهو يستنجد بكل حواس القراء السمعية والبصرية وحتي حاسة الشم حتي يوصل رائحة وتفاصيل »الصورة« إلي القارئ بأقرب شكل ممكن لما يدور في خيال الكاتب. استطاع إبراهيم أصلان، أن يقدم تناولا جديدا للواقع الاجتماعي وشخصياته وواقعه، وبقي مخلصا للرؤية التقليدية للعالم الروائي، الذي يتمسك بعناصر التشويق والمتعة فيه لذا كان يقول: إذا اخترعت شخصية واخترعت لها سيكولوجية واخترعت لها مصيرا، فقد اخترعت جثة. إبراهيم أصلان عاشق الورقة والقلم، لغز لا يمكن فكه أبدا، ثروته الحقيقة وذاته وعكازه وسيفه، هناك وسط الورق والكتب يشعر بالطمأنينة، يزور مكتبته كأنها معبد يتعبد في محرابه، يقرا آياته، يهتم بتفاصيله وهو داخلها، يجلس بالساعات، شغوفاً بالقراءة وكتابة الملاحظات علي الهوامش وفي أوراق صغيرة بيضاء، يجلس يبحث عن شكل وفكرة وصيغة وأسلوب جديد يخترق به بطن وارض الورقة البيضاء، لتكون تلك الورقة قارب النجاة في الحياة وفي الكون. لقد عرفنا عمنا إبراهيم أصلان ونحن لم نزل نرضع من أثداء أمهاتنا، لذا رضعنا كتاباته وأصبحت في نسيج أجسادنا وعقولنا، فرضعنا مالكاً الحزين ليصبح الطائر الكفيف بروحه الصافية وعبلة المصري الخالص، يلقي علينا الحكايات والأسرار، يزاوج بين الأفكار ويري ويشتم روائح الأجساد، طائر حزين حزناً مصرياً خالصاً، طائر يظل محلقاً في وجدان الأمة العربية، ارتدي أفكار ومداد قلم إبراهيم أصلان حيث يتحول الطائر إلي لحم ودم مصري يبث شكاوي إحباطه وتباريح أحزانه وصرخات جروحه إلي مقام العدالة المتوارية الغائبة والتي يؤمن الضمير دائما بأنها قادمة ولو طال الزمن. إبراهيم أصلان المجد والمعتني بموهبته وفكره وقلمه، عابد تراب الحواري وهواء الشبابيك وجلسه الحريم وخبص البنات وقعده القهوة، وأكاد اجزم انه لا يوجد مقهي في بر مصر لم يجلس عليها عمنا إبراهيم أصلان. لقد خاض إبراهيم أصلان الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة ودهاء الشياطين وتقلبات الساسة وحكمة العجائز، وكتب عليه المغامرة والمقامرة وامتطاء المستحيل، فتعلمنا منه إن الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب، لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف، فهو المثابر والمهابر والصابر، حتي تكتمل فكرته علي الأوراق، يقدم لنا فيها شخصيات من لحم ودم، وأماكن نراها لأول مرة في كل مرة نقرأه فيها مع إننا نمر علي تلك الأماكن كل يوم. إبراهيم أصلان الذي علمنا وجعلنا ندرك ونفهم ونشم ونحس بالواقع، وأن نري ما لا يمكن أن تلحظه عين أو يدركه سمع، ونشعر بالزمان ككائن، ذلك الزمان الذي يفرق ويجمع، يحب ويكره، يقف ويتطور وينمو، مع تطور الشخصيات وتطور طموحاتهم وتطور المكان، الزمان يغرق كل هذا في بوتقة الرواية الحديثة والجديدة، انه الكاتب المدهش الفذ المولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، انه يجسدها ويكتبها علي أرواقه، تأخذك فيها لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا احد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه. تمر الأيام ويظل إبراهيم أصلان في الفؤاد، معلق ويمتلك مساحة كبيرة من أرضه، تجلس معه في ليال طويلة ومظلمة ولا يضيئها إلا شمعة من كتاباته وأوراقه ونوادره وحكاياته وقفشته، ليالي تقضيها وسط القراءة والتجوال والجدال والمتعة والمناكفة والأحلام التي لا تنقضي، لا تعرف عن ماذا تحكي وعن ماذا لا تلتفت، إلا انه يريك ما لم تراه من قبل، فهو المهيمن علي حارته الرطبة بابتسامته الحكيمة، ينقلها لك بخبرة ومعرفة وإبداع خاص به، فهو بائع الفول في الصباح المبكر، والسيدة التي تبيع الفجل علي ناصية الحارة، هو السقا وقارئ الكف، وشيخ الكتّاب الضرير، ذلك الغارق في رائحة الشاي، تعلمت منه أن الحياة قصيرة لذا يجب أن نعيشها لكن بدون خوف، لان الحياة وسط جبال وأسوار الخوف ليس لها مبرر، لقد وعي إبراهيم أصلان حدوده وحدود قلمه وحدود بني البشر الغلابة مثله، وطموحهم وخوفهم وقوتهم المدفونة، إبراهيم أصلان الذي خاص الحياة كسمكة في بحر الكيت كات، سمكة تعرف أن الخروج عن حدود هذه الحارة وهذا البحر سوف تقابل القروش والحيات المفترسة، لذا لم يبارح بحره الصغير، هناك حيث الأمان الفقير والأمل المتواضع والحب الكبير، قلب هو العين في نفس الوقت، لان البصر بدون إحساس عمي وجهل كبيرين، شاهد إبراهيم أصلان أن الوطن ممتلئ بأسماك القرش التي لا تري إلا نفسها، إلا انه ظل يراوغها ويطاردها بقلمه وشاربه وكتاباته. لذا كلما اقتربت منه وأحببته وأحببت كتاباته، تشعر بالوطنية المفقودة وتشعر بمن يحاصرها، كان يعيش الحالة الخاصة للإنسان المصري البسيط، أفكار الناس وأمثالهم وتفسيراتهم للحياة والكون، ولأنه لم يكن يمتلك ثقافة أكاديمية، فقد اعتمد علي قراءته ورؤيته وموهبته التي حباه بها الله، فلم يجلس ويشذب تلك الأفكار، بل جعلها كما هي، بكل التفاصيل الصغيرة والدقيقة والمحرجة أيضا، فهو يعري بسوط ناعم كل الصغائر التي نترفع عنها، ليصبح أدبه أدب مكان وأدب أشخاص تعيش في هذا المكان، هذه الموهبة التي أفرزت لنا أسماء قصص وردية ليل وبحيرة المساء وحجرتان وصالة وشقة مجاورة أخري.... إبراهيم أصلان الذي ارتدي كل الوجوه في رؤيته للعالم ليري هذا الوطن من عقب باب، يري الصورة المحزنة والقاسية والجميلة، يري العظمة والجمال والحب والرحمة والحرية والفقر الأبدي، يري كيف تتساقط الأحلام والكبار ويحل محلهم أشباح ممسوخة وقتلة مع إنهم يرتدون البدل الشيك والأنيقة ويتحدثون بكلام معسول عن الغد وعن السعادة الموعودة. إبراهيم أصلان الذي يستطيع أن يسحبك في وقت متأخر من الليل إلي شوارع وحواري وأزقة ومقاهي والقاهرة، يسحبك في ظلمة الليل وهو كفيف كي يريك وتبصر الدنيا من حولك، مع أنها قد تحولت إلي مشهد غائم بالغ السواد، هنا يبرق الكفيف ويبرق قلبه بالضوء الباهر، نعم نحن الذين لا نري ولا نفهم مثلما كان يريد منا، نعم كان يري وهو كفيف العين، لكنه يري بقلبه ويشم بأنفه، رائحة وطن ممتد في أعماق التاريخ. رأيته أول مرة في شقتنا، كنت طفلا، أمرني والدي أن أتقدم واسلم عليه، ظللت انظر له وأنا أقف بجوار الحائط، كنت اخشي أن اسلم عليه، شاربه كان يخيفني، وكنت أظن انه سوف يأكلني، إلا انه ظل يداعبني بالكلمات، وعندما اخرج لي قلم من بذلته، أخذته منه وجريت للغرفة الاخري، فظل يضحك وظلت الضحكة عالقة بقلبي للان، وعلمت حينئذ أن هذا الرجل هو إبراهيم أصلان. ألا انه سلامه المهذب لي في عزاء عمنا خيري شلبي، وهو يثني عليّ وعلي والدي، وان الذي خلف ما متش، فقبلته قبله ابن لوالده، وظللت أتذكر تاريخ طويل معه، أتذكر وأنا أصل مقالات وقصص مستجاب لجريدة الحياة، ومشكلته الكبري أثناء رواية وليمة لأعشاب البحر، وموقف مستجاب من تلك المشكلة والموقف ذد كل من يريد لهذه الأمة أن تعيش في الظلام. وفي النهاية - أفزعتني المذيعة وهي تلقي الخبر (إبراهيم أصلان وداعا ) كنت مع حبيبتي وخطيبتي الروائية نهي محمود، لم تكن تصدق، انزوت في احدي المقاعد تبكي، نبها والدها بأننا جميعاً سوف نموت، قالت في ارتباك : كنت أتمني أن أقابله، وماذا سوف يفعل ابنه هشام الآن؟، وأكملت: لقد كانت أثمن تقيم ليّ أن قال احد النقاد إنني سأصبح ذات يوم إبراهيم أصلان مصر، وظلت تبكي، نظرت لها وبدأت أواسيها، بينما قلبي ينفطر حباً وبكائنا لهذا الرجل، لأنني اعلم انه لا توجد قوة في الكون تستطيع أن تقف أمام الموت...رحمك الله يا عمنا الكبير.