شاع علي الألسنة عند التوقف أمام بيت شعري غامض قولهم :" المعني في بطن الشاعر"!! أي في عقله ، وذهنه ، ولكن المعني في القصة التالية في " بطن " الشاعر الحقيقية : أي في معدته !! ويمكن أن نقول إن المعني في القصة في " بط " الشاعر الكبير الدمياطي محمد مصطفي الماحي (1895-1976) . فحين صدر " ديوان الماحي " في طبعته الثالثة عام 1969م (وكانت الطبعة الأولي منه قد صدرت عام 1934 في العام ذاته الذي صدر فيه أول ديوان لكل من إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ثم صدرت الطبعة الثانية من ديوان الماحي عام 1957م ) احتفلت به الأوساط الأدبية في مصر ، وأقيمت عدة ندوات حول هذا الديوان في دار " جمعية الشبان المسلمين " بالقاهرة ، وفي دار " جمعية الشبان المسيحية " وفي دار " جمعية الأدباء " ، وفي دار " الرابطة الإسلامية " ورابطة الأدب الحديث وغيرها . وفي إحدي هذه الندوات ألقي الشاعر الفكه عبد السلام شهاب قصيدة متميزة ، غمز فيها الشاعر الماحي غمزتين فكاهيتين ، أولاهما حين تحدث عن حجم الديوان الضخم فقال : ديوان " الماحي " الدمياطي سبحان الوهاب العاطي أرأيتم دفتر تليفونٍ » معبوطاً« أو » تحت الباطِ«؟ ثم انتقل إلي الغمزة الثانية ليصنع منها المفارقة ، فهذا الشاعر الذي أنتج ديواناً بهذا الحجم الضخم الذي جعله أشبه بدليل التليفونات هو من أهل دمياط المعروفين بين المصريين بشدة حرصهم أو بخلهم فيقول شهاب : هو من دمياط لا عجب !!- يزن الدنيا بالقيراطِ والدمياطي بفطرته »لقَّاط« القرش بملقاط ومع أنه من بلد معروف أهلها بشدة حرصهم ، وجمعهم المال والحفاظ عليه ، فإنه رجل كريم ، سمح ، يستمتع أصحابه إذا كانوا ضيوفاً عليه بما يأكلون وما يشربون : واسأل من زاروا منزله عن ألف سماطٍ وسماطِ فلبستان الماحي صيتٌ في جمع البط " الزغاطي" وبالرغم من أن عبد السلام شهاب فيما يبدو بعد ذلك من المعركة لم يكن قد زار الماحي ولا ذاق طعم بطه ولا طعامه ، فإن حيلته قد نجحت ، وانطلت علي الشعراء حاضري الندوة. وكان الشاعر محمود غنيم واحداً من أبرز شعراء الفكاهة والمساجلات الإخوانية ، وكان مشغوفاً بالدخول في معارك " البطون " بصفة خاصة كما نري في قصائده عن العدس الأباظي ، ولحوم الخراف ، والديوك . . وغيرها مما نجده في ديوانه . وبعد انتهاء الندوة كتب محمود غنيم إلي صديقه الماحي يعاتبه لأن عنده مزرعة بط وأطعم منها عبد السلام شهاب وغيره من أصحابه ولم يدع غنيماً معهم ، مع شدة ما يري من الغلاء الفاحش الذي يفتك بالناس ، فقال يخاطب الماحي : قد سمعنا عن بطكم ما سمعنا فأكلنا بالأذن حتي شبعنا غير أن الأفواه تنطق همساً:ما عرفنا لذلك البط معني!! يا أبا مصطفي ، عليك سلامٌ أفيُرضيك أن شبعتَ وجُعْنا؟ وسع الناس كلهم بطك النا ضِج دُهناً ، لكنه لم يسعنا جُدْ علينا ولو بطيف جناح لا تَدَعْنا نشكو الطوي،لا تدعنا! نحن في عهد أزمة وغلاءٍ قد رهنَّا فيه المتاع وبعنا نحن قوم لنا العفاف شعارٌ إن سُقينا حِسَاءَ بط قنعنا وإذا نالنا كريم بإحسا نِ ، شكرنَا صنيعه وأذعنا ونذيق البخيل هَجْواً وبيلاً مِثل حدِّ السلاح ضرباً وطعنا صاح،لا عذر بعد هذا،فقُلْ لي: قد سمعنا ما قلتَه وأطعنا وحين وصلت أبيات محمود غنيم إلي الشاعر الماحي ، أدرك أنه خاسر لا محالة ، فإما أن يدعو غنيماً وصحبه إلي وليمة ضخمة تجور علي ثروته من البط ، وإما أن يستعد لقصائد الهجاء المقذعة فيخسر سمعته ومكانته الرفيعة بين أدباء عصره ، فلجأ إلي التحايل ورفع لواء المسكنة ، والتشكي من الغلاء والبلاء وسوء الحال ، وزعم أن عبد السلام شهاب لم يزره ولم يطعم عنده بطاً ولا دجاجاً ، وإنما قال ما قال تحت وطأة الجوع ، وللجائع أن يحلم كيف شاء بما شاء فكتب إلي محمود غنيم يقول : يا أخي ، يا غنيم ، رفقاً بحالي إن عبد السلام بات يُغالي لا تصدق ما قاله ، يا صديقي إنه شاعر رحيب الخيالِ لم يزرني ولم أزره ، ولكن هاجه الشوق للطعام الغالي كان فيما مضي يُقدَّمُ بطٌّ ودجاجٌ مُحمَّرٌ في المقالي يوم كان الزمان سهلاً رخياً لا يمر الغلاء فيه ببالِ فغدا البط والدجاج كما تعلم ضربين من ضروب المحالِ ويبدو أن الماحي بعد أن كتب الأبيات السابقة خشي مما كان يعرفه من سلاطة لسان غنيم ، وتخيل ما ينتظره من سوء العاقبة إن لم تنطل علي غنيم حيله السابقة، وشكاواه من الغلاء ، فأردف يدعوه دعوة رقيقة لا جزم فيها ولا تحديد موعد فقال : غير أني وقد تصوَّرتُ ما قا ل صحيحاً أراه سهل المنالِ لك عندي وللصديق شهاب أسمن البط في قريب الليالي ولمن شئت من مُحبيك طُراً أنا والله لست بالبخَّال فاقترح ، يا أخي فديتك يوماًواختبر إن شككتَ- صدق مقالي ومع ذلك فلم يسلم من لسان غنيم ، الذي أرسل إليه يسخر مما جاء في قصيدته من ادعاء للفقر ، وشكوي من الزمان ، مما كاد يدفع بمحمود غنيم إلي أن يتبرع له بما يملك من قوت أولاده ، وسخر من دعوته التي جاءت في آخر أبياته لأنها دعوة مذبذبة لا حسم فيها ولا تأكيد ، فقد تلقي من محمود غنيم قصيدة حادة اتهمه فيها بالبخل ومحاولة التمسح بالغلاء، مع أن أصحابه لم يطلبوا منه ذبح عجل من الماشية ولا ذبح ناقة ولا جمل ، لكنهم لم يجمحوا بخيالهم الطامح لأكثر من ذبح بطة هزيلة جائعة، فلماذا يصر علي دعوتهم بهذا القلب الهلوع ؟ وتلك النفس الوجلة ؟ فقال غنيم للماحي : أيها الشاعر الرقيق الحال أنا لم أدرِ أن جيبك خالي أنت قد بِتَّ تدَّعي الفقرَ حتي كِدتُ أهدي إليك قوت عيالي ما طلبنا إليك ذبح فَصِيليْ ن ، وفحلين من فحول الجمالِ بل طلبنا جناح أنثي من البط إلي الله تشتكي من هُزالِ فعلام الأسي، وطول التشاكي والتباكي علي الزمان الخالي؟ لستَ ممن يدعو الضيوف بقل بل بقول ممزقِ الأوصال لست ممن يدعو بطرف قريرٍ بل بطرفٍ ذي مَدمَع سيَّال مُومِئاً نحو باب دارك للضي ف بيُمناك ، طارداً بالشِّمال والكريم الكريم يدعو بقلبٍ ثابتٍ ثابتٍ ثبات الجبالِ ثم بدأ غنيم في تنفيذ ما هدد به من هجاء مقذع ، فقال للماحي إنه ابن أصل لهذه المدينة التي اشتهرت بين المصريين بالحرص الشديد ، مع ما عرف من أنها بلد الأدباء والشعراء . ونفض محمود غنيم بهذا الهجاء القومي يده من فكرة دعوته إلي أكلة من بط الماحي ، وليستعد الماحي بعد ذلك لجولات أخري من الهجاء في كل مناسبة فقال غنيم : يا ابن دمياط ، إنّ دمياط إن عدّت بنيها تعدك ابن حلال !! إن دمياط مهبط الشعر ، لكن هي في الحرص مضرب الأمثال إن أنجالها كثير ، ولكن أنت ، يا صاح ، أنجب الأنجال !! بكرُها أنت حكمةً وبياناًَ وفتاها حرصاً علي الأموال !! صاح دعني من أكل بطك،دعني أوثر الجوع ؛ إن عِرضيَ غالي! واستمرت المعركة سجالاً ، فرد الماحي مدافعاً عن نفسه ، متذرعاً بسوء الأحوال مرة أخري والغلاء الفاحش ، واستغرب ألا يحس غنيم بوطأة هذا الغلاء لما حققه من ثراء وما جمعه من ثروة : يا صديقي،لقد عهدتك عد منصفاً في المقال والأفعالِ أنا لا أشتكي-كما قلتَ- فقراً لا،ولا البخل خصلة من خصالي فلم الجور والتشكك فيما سُقتَه باكياً لرقة حالي؟ فيم نُكرانك الغلاءَ، وكل ال ناس يشكون من أذي مغتالِ؟ فإذا لم تحسه، فهنيئاًَ لك ما قد جمعت من أموالِ أنا عندي من القناعة كَنزٌ ومن الله فضله المتوالي ولم يجد الشاعر مصطفي الماحي بداً من الدفاع عن بلده ( دمياط ) فوصفها بأنها بلد الجد والاجتهاد والعمل ، وما شاع عنها إنما هو حقد من الآخرين عليها لأنها تفرق تفريقا عميقا دقيقا بين " الحرص" بمعني " الشطارة" أو الوعي الاقتصادي، وبين " البخل " بمعناه المذموم شرعاً وعرفاً. وعلي هذا الأساس من التفريق بينهما ،اضطر الماحي إلي تجديد دعوته إلي غنيم لكي يأتي ومن شاء معه إلي دمياط لتناول البط ليدرأ الماحي عن نفسه تهمة البخل : إن دمياط ذات جد ، وقصدٍ لا لحرص، ولا لسوء فعالِ تضع الحق في النصاب ولا تف عل فعل الأغفال والجُهالِ هل أجاريك في دُعايتك الحر ي، وأنت المداعب المتغالي لا، وحسبي أني أعود إلي دع وتك اليوم، صادقاً في سؤالي مع من شئت من محبيك ، إني لا أماري، ولستُ بالبخَّال فاقترح، يا أخي فديتك- يوما واختبر- إن شككت- صدق مقالي ولما رأي محمود غنيم أن دعوة صاحبه الماحي لم تزد عن سابقتيها وما تزال دعوة هشة هزيلة مذبذبة كتب عشر مقطوعات ساخرة نال فيها من الماحي نيلاً عظيماً وجعل لكل منها عنواناً مستقلاً ،ثم بدأ الماحي يجامل غنيماً ويشيد بأبياته في مقطوعاته ويجدد الدعوة له وقال الشاعر محمود غنيم شاكراً وذاكراً توقفه عن كتابة الشعر بعد أكل بط الماحي، ومهدداً بتجديد الهجاء إن لم تتجدد الدعوة إلي ( عزومة ) ثانية: يقولون: ما للشعر غاض معينه وكنت تقول الشعر في البط محكماً؟ فقلت لهم: قد كان جوعي مُلهمي فلما أكلت البط؛ لم ألق مُلهما فلا شكر للماحي إذا لم يثنها فإن هو ثَنَّي كان أسخي وأكرما وإلا فإنا قائلون لبطه: "إلي حيث ألقت رحلها أم قشعما" وأهون من هذا لديّ: لو انني حفرت بظفري في الجنادل منجم له الله بطاً صدته بقصائد تكاد تصيد النجم من كبد السما! وهكذا ، أثبتت لنا هذه المعركة الطريفة أن المعني يكون أحياناً في " بطن " الشاعر بمعني معدته، ويكون أحياناً في " بط " الشاعر . . إذا كان مثل شاعرنا الكبير محمد مصطفي الماحي رحمه الله !!