الثقافة في عمومها ، والأدبية علي وجه التحديد ، كانت هي التاج الملكي الذي زيَّن رأس الصحافة المصرية منذ مولدها، بقدوم الحملة الفرنسية علي مصر في النزع الأخير من القرن الثامن عشر. لقد أسهمت جريدة "كوربيه دي ليجيبت" التي أمر بتأسيسها نابليون ، في ظهور أدب رمزي يختلف عن الأدب السائد في ذلك الوقت ، كما اندلع من خلال تلك الجريدة (التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية) العديد من المعارك الأدبية والفكرية. وفي السياق والتوقيت نفسهما قامت جريدة "لاديكاد إيجيبشين" بالمساهمة في تنشيط الحركة الثقافية في البلاد، حيث اهتمت بتسجيل جلسات المجمع العلمي والبحوث. وبظهور جريدة "الوقائع المصرية" في عشرينات القرن الماضي نشطت الصحافة الثقافية والأدبية نشاطًا ملحوظًا ، واستطاعت أن تجتذب الكثير من الأدباء والمثقفين ذوي الاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة في الرؤية الإبداعية وفي أساليب الطرح، وهو ما أدي إلي تفعيل المشهد الثقافي وتوسيع دائرة المهتمين بالأدب. ومنذ ذلك التاريخ توالت الإصدارات الصحفية وتعاظم اهتمامها بالثقافة بشكل عام ، والثقافة الأدبية علي وجه الدقة، إذ قامت الصحف اليومية بتخصيص عدد كبير من صفحاتها للإبداع الأدبي والمتابعات الفنية والمداخلات النقدية ، إلا أن تلك المساحة بدأت في الآونة الأخيرة بالتراجع، الكيفي والكمي، حتي كاد وجودها أن يتلاشي تمامًا في بعض الصحف اليومية بعد أن زحف المد السياسي ومن قبله الرياضي، ومن قبلهما وبعدهما الإعلاني ، علي كل المساحات الممكنة للثقافة والأدب ، فقد ذهبت بعض الصحف القومية والمستقلة المنتشرة إلي رهن نشر صفحاتها الأدبية بالإعلانات ، ففي وجود كثافة إعلانية تصبح الصفحات الثقافية هي المرشح الأول للاستبعاد ، في إشارة واضحة إلي تذيُّل الثقافة والإبداع قائمة الأولويات في وعي القائمين علي إصدار هذه الصحف ، وهو أمر لا يخلو من الجهل ، ومن قصدية التهميش في الوقت نفسه! صحيح أن هناك عددا من الصحف والمجلات الأدبية المتخصصة المهمة ، إلا أن هذا لا يعني علي، حتمًا، التقليل من أهمية صفحات الثقافة والأدب في الجرائد اليومية، وذلك لسبب جوهري مؤثر في حركة الوعي الثقافي العام لدي جمهور القراء، يتمثل في الكثافة التوزيعية الهائلة لتلك الجرائد، والتي تقدر بمئات الآلاف، بل والملايين أحيانًا، وهو عدد لم تصل إلي عُشره أرقام توزيع كل المطبوعات الأدبية المصرية مجتمعة. إن الجرائد اليومية، هي وحدها القادرة علي مد جسور من النصوص الشعرية والقصصية والمسرحية والتجليات النقدية إلي قطاعات كبيرة من القراء ، وقادرة علي استقطاب غير المتخصصين منهم في مجال الأدب وفتح الباب أمام دخولهم إلي ساحات الإبداع، وهو ما يؤدي بالقطع إلي تنمية الجوانب الروحية والفكرية في الشخصية المصرية ، ويؤدي بالتالي إلي اتساع دائرة المهتمين بالإبداع، ويزيد من أعداد الذاهبين باتجاه المجلات الأدبية والثقافية المتخصصة. إن ما يحدث الآن من تهميشٍ، جاهل أحيانًا ، ومتعمد في أخري ، لدور الثقافة والإبداع في بناء المجتمع المصري الحرالمنشود، يعد أمرًا بالغ الخطورة والأثر، ليس علي الحركة الأدبية والثقافية فحسب، بل علي حركة الحياة في مصر إجمالاً، إذ أنه قد يصل ليشكل أحد الأسباب الجوهرية التي تقف خلف ما نحن فيه الآن من تفشي لظواهرالجهل والعنف والتطرف، فالأمة التي لا تمنح ناسها أدبًا وفنًا عظيمًا ولا تسمح بانتشارهما ، هي نفسها الأمة التي تمنحهم أسبابًا قوية للانحراف والتطرف. أما القيمة الأدبية والثقافية (الفعلية) التي تمنحها هذه الصحف لقرائها الآن، فلها كلامٌ آخر!