«الصحة»: تقديم 36 ألف خدمة طبية ل الحجاج المصريين في السعودية    نجوم الفن يستخدمون الذكاء الاصطناعي ل تهنئة الجمهور بعيد الأضحي    محافظ القاهرة: إقبال كبير على المجازر الحكومية في أول أيام عيد الأضحى    أسعار الفاكهة في سوق العبور بأول أيام عيد الأضحي المبارك 2025    إقبال كبير على مجزر البساتين لذبح الأضاحى مجانا فى أول أيام العيد    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    زيلينسكي يطالب الغرب بالضغط على روسيا    أول أيام عيد الأضحي، الاحتلال يقصف عشرات المنازل بالضفة الغربية    أوكرانيا تتعرض لهجوم بالصواريخ والمسيرات أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص    قاض يوقف "مؤقتًا" حظر ترامب التحاق الطلاب الأجانب بجامعة هارفارد    "توقعت وقلت لشيكابالا".. حارس الزمالك يفجر مفاجأة بشأن مشاركته في اللحظات الصعبة    مدرب الأرجنتين يتحدث عن الفوز الصعب أمام تشيلي بتصفيات المونديال    الونش: الزمالك قادر على تحقيق بطولات بأي عناصر موجودة في الملعب    159 مركز شباب استقبلت الآلاف لأداء صلاة عيد الاضحى بالغربية    السيدة انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري والأمتين العربية والإسلامية بحلول عيد الأضحى المبارك    لمنع الاستغلال على شواطئ الإسكندرية.. الخطوط الساخنة لحماية المصطافين خلال عيد الأضحى    قطار يدهس شخصين في أسيوط أول أيام عيد الأضحى    جبران يستعرض جهود مصر في تعزيز بيئة العمل مع وفد "أصحاب الأعمال" بجنيف    فتح باب التقدم لجوائز اليونسكو الدولية لمحو الأمية لعام 2025    «هيجيلي موجوع».. نانسي نور تغني لزوجها تامر عاشور على الهواء (فيديو)    في ذكرى رحيله.. محمود المليجي مسيرة فنية بين أدوار الشر وقلوب محبيه    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى التأمين الصحي عقب صلاة عيد الأضحى    طريقة عمل الفتة المصرية بالخل والثوم بمذاق لا يقاوم    جامعة القناة تعلن خطة التأمين الطبي بالمستشفيات الجامعية خلال عيد الأضحى    حماس: مستعدون لمفاوضات جدية وهادفة لوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة    "إكسترا نيوز" ترصد مظاهر احتفالات المواطنين بعيد الأضحى في مصر الجديدة    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 6 يونيو 2025 وفي جميع البنوك اول ايام العيد    محافظ الجيزة يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بساحة مسجد مصطفى محمود    محافظ جنوب سيناء يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد المصطفى بشرم الشيخ    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد ناصر الكبير    وفاة الملحن الشاب محمد كرارة (موعد ومكان الجنازة)    محافظ شمال سيناء يؤدي صلاه العيد في مسجد الشباب بالشيخ زويد    وسط أجواء احتفالية.. الآلاف يؤدون صلاة العيد في الإسكندرية    العيد تحول لحزن.. مصرع شقيقان وإصابة والدتهما فى حادث تصادم بقنا    وزير الدفاع الإسرائيلي: لن يكون هناك هدوء في بيروت ولا استقرار في لبنان وسنواصل العمل بقوة كبيرة    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 6 - 6 - 2025 والقنوات الناقلة    محافظ القليوبية يوزع الورود على الزائرين بمنطقة الكورنيش ببنها    محافظ القليوبية يقدم التهنئة للمسنين ويقدم لهم الهدايا والورود - صور    فرحة العيد تملأ مسجد عمرو بن العاص.. تكبيرات وبهجة فى قلب القاهرة التاريخية    الرئيس السيسي يغادر مسجد مصر بالعاصمة بعد أداء صلاة عيد الأضحى المبارك    خطيب عيد الأضحى من مسجد مصر الكبير: حب الوطن من أعظم مقاصد الإيمان    محافظ البحر الأحمر يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد عبد المنعم رياض بالغردقة.. صور    الله أكبر كبيرًا.. أهالي جنوب الجيزة يصدحون بالتكبيرات من مركز شباب الجُملة| فيديو وصور    فى أحضان الفراعنة ..آلاف المواطنين يؤدون صلاة العيد بساحة أبو الحجاج الأقصري    متحدث الأمين العام للأمم المتحدة: نحتاج إلى المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبت في غزة    حسن الرداد: هذا العيد مختلف بوجود مولودتي فادية.. سميتها على اسم والدتي الراحلة    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك للرجال والنساء في العيد (تعرف عليها)    عيدالاضحى 2025 الآن.. الموعد الرسمي لصلاة العيد الكبير في جميع المحافظات (الساعة كام)    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    الأوقاف: صلاة الرجال بجوار النساء في صف واحد مخالفة صريحة للضوابط الشرعية    طرح البرومو الرسمي لفيلم the seven dogs    مسجد نمرة.. مشعر ديني تُقام فيه الصلاة مرة واحدة في العالم    كيفية صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 في البيت وعدد التكبيرات في كل ركعة    محافظ سوهاج يتفقد الحدائق العامة والمتنزهات استعدادًا لعيد الأضحى    رسميا.. نهاية عقد زيزو مع الزمالك    خطوات عمل باديكير منزلي لتحصلي على قدمين جميلتين في عيد الأضحى    صبحي يكشف سبب حزنه وقت الخروج وحقيقة سوء علاقته مع عواد    في وقفة العيد.. «جميعه» يفاجئ العاملين بمستشفى القنايات ويحيل 3 للتحقيق (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفابريكة" إنتاج الغواية
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 12 - 2018

لا نستطيع أن نُطمئن أنفسنا ونحن نري الرحيل المتسارع لليالي الجدات والأمهات حارسات تلك الحكايات المتنوعة والغنية التي عمرت ذاكرة العالم ؛ وأثبتت أن له قلبا ، ثمة خيط رفيع يربط بين جدات العالم مهما اتسعت المسافات بينهن ، وقلب واحد يخفق في صدورهن خوفا علي أولئك الأحفاد الصغار الذاهبين إلي أحلامهم ؛ ولذا فمن الطبيعي أن يكتشف الأحفاد حين يكبرون أن الحكايات التي روتها جداتهم كي تجعلهم يستسلمون للنوم هي الحكايات التي يسردونها الآن كي يستيقظ العالم ؛ لكنهم وهم يسردونها اليوم يتحولون بدورهم إلي جدات العالم ؛ آخر جدات العالم المتشبثات بسحر وجوهر وحقيقة تلك الحكايات التي يتعالي عنها التاريخ في هذا الزمن بصورة لا ترحم.
هكذا يري إبراهيم نصر الله الرواية والروائيين وهكذا أري، ولقد فقدت الرواية الكثير من متعتها الأولي حين ألقي بها الروائيون في بحر التقنيات؛ وأصابتها حمي التجريب الذي كان عبثياً في أحيان كثيرة؛ توارث الروائيون موضة التخلي عن بكارة الحكي وشغفه في العقود الأخيرة في طقس متعال علي (كلاسيكية) التراث الحكائي الشعبي وبدلوا رهاناتهم بشكل غير مبرر في أغلب الأوقات؛ صحيح أن اتجاهات كالواقعية السحرية مثلاً؛ قد أعادت اكتشاف جماليات التراث الشفاهي الحكائي للإنسانية؛ وأثبتت أن الجدات امتلكن تقنيات مبهرة يطنطن العالم الآن بها وكأنها جديدة؛ إلا أن الكثير من الروائيين حين يشتبكون مع تلك الاتجاهات يفسدون جوهرها لصالح الإبهار التقني؛ وظلت التجارب التي تراهن علي الحكي النابت من حجور العجائز هي الأقل عدداً؛ ثم جاءت رواية "الفابريكة" (الدار المصرية للبنانية) للروائي أحمد الملواني لتمنح من علي شاكلتي أملاً في متعة فقدوها بفقد تلك الحجور الرحبة الدافئة لأمهاتهم وجداتهم.

من الصفحة الأولي و"الفابريكة" تشي بأننا أمام حكواتي يحتفي بتراثنا من الأدب الشعبي إذ جاء العنوان الأول "يسبق كلامنا"، ولم أقرأه إلا بالعامية هو وما تلاه من عناوين للفصول "يحكي أن"، "يحلو الكلام"، "فرغت الحدوتة" وليسامحني الروائي وليسمح لي أن أقرأ كما يحلو لطفل مثلي، ثم يأتي اختيار الراوي عليماً مشتبكاً مع متلقيه من أول سطر ليؤكد ما قد وشت به العناوين ": من أنا؟ سؤال ليس في محله ولماذا يجب أن يكون الاهتمام بالقائل عما يقول؟(**)" رفقاً يا صديقي الراوي.. لماذا هذا التنمر؟ من سأل الحكواتي أو الصييت يوما من أنت؟! من سأل جدته: من أين لك بالحكاية وأسرارها؟!، صحيح أننا كنا نفترض صغاراً علم الكبار المطلق، وكباراً نقلهم ما سمعوه؛ في حين أن الملواني هو الذي صنع فابريكته وراويها إلا أن رائحة الجدة التي تفوح من حيرتك كيف تبدأ الحكاية قد شغلتنا عن سؤالك ذلك؛ ولقد أخذت الأمان من متلقيك عبر عنوان الفصل الأول "يسبق كلامنا" ولولا سلامك قبل كلامك لما قبلنا منك نا الفاعلين التي خاتلتنا طوال الرواية "في قريتنا - تقاليدنا.. وغيرها" فظننا أن الراوي من أبناء القرية ، ورغم أن ذلك قد جرح صدق راوينا العليم الذي يعرف عن أبطاله في باريس قدر ما يعرف عن أبطاله في قرية مصرية جوانية، فإن بكارة السرد وعجائبية الحكاية وسطوة الخرافة قد أخفت الجرح إلي النهاية.
بقيت القرية أرض الحكايات ومنتجة الأساطير والخرافات رغم سطوة رواية المدن الأسمنتية وصراعاتها البلاستيكية أحيانا؛ لذلك يلجأ الروائيون إلي القرية حين يأخذهم الحنين إلي متعة الحكاية الصافية، أو حين يجبرهم الواقع علي إخفاء صرخاتهم خلف رمزية آمنة غير منغلقة أو تشفير غير عصي، كان ذلك هو اختيار الملواني لمسرح حكايته؛ قرية حافظت علي عزلتها رغم تطورها؛ أمسك أهلها علي حكاياتهم الخرافية وتقاليدهم الغريبة وأسرارهم رغم مرور الزمن؛ قرية في القرن الحادي والعشرين لكنها ما زالت تحافظ علي البناء الاجتماعي الكلاسيكي القديم جدا للقرية المصرية، والذي صورته كثيرا الرواية المصرية قديماً عمدة غاشم، خفر أغبياء، أعيان جشعون، رجل دين منسحق أمام عمدته، ومجاميع من فقراء تافهين بله، تمتلك التلفاز وقنواته الفضائية، لديها إنترنت وبرامج تواصل اجتماعي؛ أولادها يتعلمون ويخرجون للجامعات ويخالطون الغرباء، ورغم كل ذلك يبدو كل شيء وكأنه في القرون الوسطي لقرية وسط الصحراء بلا دولة أو جيران، إذن لقد عزلهم الملواني جبراً؛ لتطل الأسئلة البديهية: كيف تعيش هذه القرية تلك الازدواجية الصارخة؟ كيف تنفتح علي العالم هكذا وتظل في وحل خرافتها؟ لماذا لم يبن الروائي قرية خرافية قديمة معزولة كي تتحمل كل تلك الخرافات وتبتلع عزلتها وأسرارها في سلام؟ هل كان يهرب من نموذج ماكوندو ماركيز الذي تحول إلي فخ أم أن في الأمر رمزية قد يقبلها متلق حسن النية مثلي ولا يقبلها غيره.
يبدأ زمن القصة قبيل الحملة الفرنسية علي مصر 1798م حين يظهر الشاب "سيمون رينار" حاملاً شغفه بعلوم الحضارة المصرية القديمة، ثم تلقي به الأقدار علي أرض مصر جندياً؛ ثم تمنحه الصدفة شرف اكتشاف حجر رشيد، ويفسح له كرم قادته فرصة لأخذ نسخة من نقوش الحجر ليستطيع في أشهر حل لغز الهيروغليفية؛ ثم يهرب من جيشه ليبدأ رحلة جمع علوم الكهنة الفراعنة، وتدمير ما يقع في يده من تراثهم ليستأثر بتللك العلوم وقوتها لنفسه غير عابئ بالمجد التاريخي أو العلمي الذي كان بإمكانه تحقيقه إذا ما أعلن عن بعض اكتشافاته، ثم يعود إلي فرنسا ثم يختفي منها عائداً إلي مصر ليستكمل ما تركه؛ ثم تلعب معه الصدفة لعبتها مرة أخري فتمنحه ولداً بالتبني، وتدفعه إلي قرية خالية من البشر، ويلتقي بالثري الذي قتل فلاحيه ليبعد الوباء عن قصره، يمنحه المال مقابل تعاويذ تنزل المطر وتبارك الزرع، ثم يمنحه التمويل الكافي لإجراء تجاربه وبناء ماكينته التي تمزج سحر الفراعنة وعلم نيكولا تسلا الحديث جداً وقتها ليحول من خلالها الحيوانات إلي بشر، ويصنع أكسير الشباب، ثم يقرر الهرب كي لا يمنح الباشا أسراره؛ لتبدأ الخرافات والحكايات التهام القرية ويتحول الخواجة "سيمون رينار" إلي ولي وتتحول فابريكته إلي بيت قدسي وتتحول الخطايا إلي كرامات والزناة إلي محسنين واللقطاء إلي مقدسين والعهر إلي عرف والقهر إلي قانون.
يقفز الراوي مئة عام تقريباً ليقدم لنا "منصور رينار"، عالم المعادن الفرنسي الذي يعيش في قرية هادئة هارباً من صخب باريس قائماً علي أبحاث لإنتاج معدن يحمل البشرية إلي قرب الشمس، ومتسائلاً طوال الوقت عن هويته؛ لماذا أصبح مسلماً ولماذا أصر أبوه علي تعليمه العربية؟ إلي أن تأتيه رسالة من قرية مصرية تطالبه بضرورة الحضور لاستلام ميراث جده الأكبر "سيمون رينار"، فيطير "منصور" إلي مصر حاملاً أمله في أن تمنحه مصر كل الإجابات العصية، وبعض ليالي الشرق السحرية مع نساء تعرف عليهن عبر "ألف ليلة وليلة"، وربما تمنحه المجد الذي رأي طوال الوقت أنه ينتظره أيضا؛ ليهبط إلي قرية تصدمه كل تفاصيلها بشر وعادات وطقوس وصراعات وقداسة هبطت عليه بلا أي مبرر يقنعه.
يقع منصور في حصار العمدة والباشا المعمر والأولاد المقدسين، كلهم يريدون الحصول علي الشيء ذاته أسرار "سيمون رينار" / "الخواجة" التي أخفاها في دفتره الذي تناقلته العائلة كميراث مقدس لم يعرف "منصور" عنه شيئا حتي وفاة أمه أثناء وجوده في مصر والتي أوصت بإعطائه كنز عائلته وفتنتها دفتر جده بعد مماتها.
الجميع أراد الدفتر، الباشا يريد أكسير الشباب، والعمدة يريد السلطة والثروة، والأولاد المقدسون يريدون الخلاص ومنصور يريد حل اللغز واكتشاف علوم جده.

تدفع الأحداث "منصور" إلي الوقوف بجانب الأولاد المقدسين ويمنح كبيرهم "صخ" الخلاص الذي حلم به فحولهم إلي حيوانات مفترسة قضت علي أغلب أهل القرية خاصة القساة منهم عدا العمدة الذي نجا بأعجوبة، تظهر الدولة المصرية أخيرا لتمسك بزمام الأمور وتضع الحيوانات المفترسة / الأولاد المقدسين في قصر الباشا فيما يشبه محمية طبيعية؛ يظل العمدة في مكانه يصنع خرافات القرية آملا في الحصول علي دفتر "منصور" الذي هرب لكنه لن ينسي كنز جده الذي اختبر جزءا من قوته.
تلك هي المحطات السردية الأهم داخل "الفابريكة" قدمها أحمد الملواني في بناء مشوق، وتقافز رشيق، ولغة سهلة لم تنازع الحكاية وشخصياتها البطولة، وانضباط رائع لزمن القصة، ومعالجة جيدة لزمن السرد.
حين يكون الراوي عليماً لا ألتفت إلي مستويات اللغة في حوار الشخصيات وحديث نفسها، فقد يمكن اعتبار الحوار جزءا من حكي الراوي ويحمل بصماته اللغوية والأسلوبية، فلا أعتبر ثبات النبر عيبا، لكن ما أربك الحوار في الجزء الأخير من الفابريكة هو الحوار علي لسان "منصور"؛ فقد عمد الملواني إلي أسلوبين في كلام "منصور" حين يتحدث الفرنسية فكان أحياناً يكتبه بالعربية مع الإشارة إلي نطق منصور بالفرنسية:
(بكلمات فرنسية صارحها : أنت حقا جميلة كضحكات الأطفال)
وأحيانا أخري ينقل الراوي حديث منصور بالفرنسية مباشرة:
(Je vous connais tueur)
ربما كان قفز الملواني علي حدث تحويل الحيوانات إلي بشر والذي يمكن اعتباره بداية الخلق لأهل القرية هو أغلي ما تخلت عنه روايته واللبنة الناقصة في دار حبكته، هولاء الحيوانات البشر خرجوا من الفابريكة بأية ذكريات؟ كيف حصلوا علي أسمائهم وعائلاتهم؟ كيف صنع الباشا أو الخواجة لكل منهم تاريخه؟ كيف اكتنز الجيل الأول بكارة نظرته للعالم إنساناً للمرة الأولي، وكيف ورثها لمن بعده؟ كيف لقرية معزولة تتعاطي الخرافة وتلوك طوال الوقت حكاياتها أن تنسي تماما تلك التجربة بعد ثلاثة أو أربعة أجيال فقط ليكون الحال لا ذكريات ولا أسئلة؟!
تنازل الملواني عن تللك المساحة الحكائية المدهشة في رواية تجاوزت الأربعمائة صفحة، رواية احتفي فيها الراوي بمشهد "منصور" في موقف السيارات، وصراعه مع سائق الميكروباص في رحلة امتلاء السيارة علي مدي ست صفحات كاملة.
الفابريكة تدين الجميع
أري أن رواية الفابريكة قد أدانت الجميع الغرب والشرق، العلم والخرافة، الماضي والحاضر والمستقبل، قدمت الفابريكة نموذجين للرجل الغربي "سيمون رينار" الجد الأكبر ذلك الرجل الأناني الخبيث الذي أقدم علي تدمير تراث إنساني بدم بارد، لا لشيء سوي الاستئثار بالعلم دون خطة جاهزة للاستفادة منه، فكان ينقل علوم الكهنة من البرديات ثم يحرقها، وهو لا يعرف بالضبط ماذا سيفعل بتلك التعاويذ والعلوم مستقبلا، ثم كافأ الباشا علي قتل قرية كاملة بمنحه عبيدا جددا وسنوات جديدة للقهر بلا أي رعشة ضمير؛ مع الحفاظ علي نموذج الشفقة المزيف في تبني طفل مصري يتيم.
النموذج الثاني هو "منصور" ابن الحضارة الأوربية والحريات الفرنسية الذي قَبِل بعد ليال قليلة في القرية حياة التخلف، وساهم راضياً في استكمال سطوة الخرافة، وأقدم علي تحويل بشر إلي حيوانات تقتل بشراً آخرين في تحول لم يبرره السرد، وجاء اعتراضه باهتاً في جمل قليلة في حواره مع "صخر" مثل: "أنت مجنون" وشبيهاتها التي تعبر عن غرابة الفكرة أكثر من رفضها؛ لم ينتصر لإنسانيته أو حضارته أو علمه؛ ليلقي بالمعرفة تحت قدم الخرافة والسحر في أول مواجهة ، وفضل قانون الغابة فتحول إلي شريك في مذبحة لأناس لا يعرفهم.

أما النموذج الشرقي متمثلا في العمدة والباشا والأعيان وأهل القرية فهم مجموعة من القتلة والأفاقين والزناة والأغبياء يستغل بعضهم جهل بعض ليصنعوا من الخرافات دينا وقانونا، حتي الأولاد المقدسين لم يهربوا بإنسانيتهم بل قرروا الانتقام بأبشع الصور، ومارسوا القتل بادئين بأنفسهم.
يدين الملواني الجميع، الغرب الذي يسرق حضارتنا ويصدر لنا الخرافة والتخلف، والشرق الذي يتآكل ذاتيا ولا يبحث عن المعرفة ولا يأخذ من التطور إلا بعض اللافتات علي واجهات المحال ويبقي في الحقيقة متخلفا همجيا منغلقا علي خبله.
بخل الملواني علي أهل القرية بأن يعيدهم إلي سيرتهم الأولي حيوانات كما كان يرغب "صخر" في البداية، ربما لأنه يري أن الحيوانات أرفع شأنا منهم، وعوض الأولاد المقدسين عن سنين القهر والتشرد بأن حولهم إلي حيوانات تقتص لعذاباتها حد الظلم.
في "الفابريكة يتحول العلم إلي خرافة والخرافة إلي علم، ويتحول الإثنان إلي حكايات؛ حكايات يقع الجميع في غوايتها فيفقدون إنسانيتهم وشرفهم؛ حكايات التعاويذ والسحر والتحول، حكايات الذهاب إلي الشمس، وحكايات الدين الزائفة، والسلطة القاهرة، والشهوة المتسترة، حكايات امتلاك البشر للبشر.
"الحكاية تخضع الرقاب كما لا تفعل بنادق الخفر".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.