الصحفي ليس مؤرخ اللحظة، كما يصفه الأديب الفرنسي »ألبير كامو« لأن عمله لايقتصر علي اقتناص اللحظة (أون لاين)، ونقلها إلي العالم أجمع، وانما الصحفي- كما يراه الكاتب السياسي نبيل زكي في كتابه »صحافة وصحفيون: يوميات في بلاط صاحبة الجلالة«.. هو مؤرخ كل اللحظات بما تحتوي عليه من أحداث علي مدار الساعة، فأصبح محكوما بالوقت القاتل..يقدم نبيل زكي نماذج من شخصيات عرفها من خلال عمله الصحفي، وعلاقاته الشخصية، وثمة شخصيات أخري أضافها المؤلف، رغم أنه لم يعرفها قط، لأنها عاشت في زمن سابق، وأخري لم يعرفها عن قرب، ولكنه كتب عنها، تحاور معها لكي تكتمل لوحة أراد لها أن تكون جذابة ومشوقة ومؤثرة، وما يجمع هذه الشخصيات.. التي سوف نتعرض لبعضها في هذا العرض.. انها تعشق مهنتها، وتحترم أقلامها، ولم تتردد يوما في اعلان ما تؤمن به، وفارقت الحياة بسبب ضغوط ومتاعب مهنة الصحافة، ومشاق وأهوال الصدام مع أعداء حرية الرأي.في الفصل الأول من الكتاب يذكر نبيل زكي انه التقي مع قمم الصحافة المصرية لافتا إلي أن تاريخنا الصحفي، فيه شخصيات عديدة شامخة لم تتردد في اتخاذ المواقف اللائقة والجديرة بهذه المهنة، مشيرا إلي حديث صلاح حافظ عن فن الصحافة.. الذي ليس فنا!، وجوابه حول ماهية هذا الفن، عندما قال عنه حافظ: إنه استثمار أمراض القراء النفسية ورغباتهم المكبوتة والمشاركة بقوة في تنمية هذه الأمراض والرغبات، والحرص علي عدم الشفاء أبدا. وقبل أن يسرد نبيل زكي سيرة بعض من رموز الصحافة والقضايا التي تعلقت بمشاكل المهنة في مسيرتهم، قدم بعضا من ذكرياته في دهاليز الأخبار، بدأها بقوله: كان احترامنا للأساتذة في هذه المهنة جزءا لايتجزأ من تكويننا الفكري والشخصي، فذكر كيف كان موسي صبري يعيد صياغة الخبر حتي يوضح بطريقة عملية كيف يمكن كتابة نفس الخبر بواسطة عدد أقل من الكلمات مع عدم اغفال أي جانب من الخبر. وذكر كيف ترك جلال الدين الحمامصي مكتبه ليقف معنا أمام أجهزة »التيكرز« ليتابع لحظة بلحظة وقائع حرب يونيو 1967. كما ذكر زكي كيف رفض الاستاذ سعيد سنيل- عندما كان مديرا لتحرير أخبار اليوم طلبا للرئيس السادات بأن يكتب مقالا يرحب فيه بحضور شاه ايران الي مصر.. هاربا من الثورة في بلاده، بحيث يتزامن نشر المقال مع يوم وصول الشاه الي القاهرة. في دهاليز »الأخبار« وقال نبيل زكي ان ما يستحق التسجيل أن قواعد وآداب وقيم المهنة ظلت حية في دهاليز »الأخبار« ولم تهتز، وكيف ان أبناء المهنة تعرضوا لفترات اضطهاد وتنكيل وفصل وتشريد غير أن الجميع كانوا يتكاتفون في مواجهة المحنة. فقد تعرضت للفصل من عملي في وقت من الأوقات بقرار من خارج المؤسسة الصحفية، وفي اليوم التالي، وأنا جالس في بيتي، فوجئت بالصحفي الكبير الراحل فهمي عبداللطيف يطرق باب بيتي ويقول »كلنا معك« وهزتني كلماته وأنا أشد علي يديه. ولم تمض ساعات حتي زارني الصحفي الكبير »محسن محمد« وقال بطريقته البريئة التي تغلب عليها روح الدعابة: »لاشأن لي بالأمر، ولكن الناشر الذي يصدر كتبي هو الذي طلب مني أن أعهد إلي أي شخص بترجمة بعض وثائق الكتاب، ونظرا لأنك الآن متفرغ، ولايوجد ما يشغلك، فأظن أنك لاتمانع في الترجمة. وفهمت علي الفور أن محسن محمد اخترع وسيلة لكي يبحث لي عن مورد مالي. وكان محسن يقتنص الوثائق السرية البريطانية والامريكية فور ازاحة ستار السرية عنها، لكي ينشرها ويعلق عليها. أوراق لم تتم! وكان أول رمز من رموز الصحافة التي تناولها نبيل زكي في كتابه هو د. لويس عوض ووضع له عنوان: »أوراق لم تتم«، وقال زكي: كم أتمني أن يقرأ كلماته شباب هذا الجيل. مشيرا إلي أن د. لويس عوض في آخر مؤلفاته »أوراق العمر« يكشف جانبا هاما من شخصيته وهو الاستقلالية الي آخر مدي.. حتي لو انفرد برأي أو موقف لايشاركه فيه الآخرون، وحتي لو تعرض في سبيل دفاعه عن رأيه وموقفه لأقصي الحملات. ومما يؤسف أن صفحة لويس عوض قد طويت قبل أن يطوي بقية صفحات أوراق العمر، وهي التي كانت ستتناول المراحل الأكثر حداثة، وخطورة من حياته. لم يكتف نبيل زكي بسرد قراءات وتحليل فكر لويس عوض، وانما غاص في بداياته منذ أن كان طفلا وكيف كان يقرأ ويميز نوعية القراءات، والأمنيات التي كان يتطلع إلي تحقيقها، وكيف كانت حياة لويس عوض جزءا لايتجزأ من تاريخ الحركة الوطنية الديمقراطية في مصر. ويختتم زكي كلامه عن عوض بقوله: كان لويس عوض يري أن حملات التطهير المتلاحقة علي الثقافة والمثقفين قد انهكت مصر الناصرية ومصر الساداتية حتي ارتعش الحرف في أقلام كتابها، وارتعشت الكلمات في أفواه فنانيها وارتعشت الصورة في ريشة رساميها بل والفكرة في رءوس مثقفيها. وعن أحمد بهاء الدين يقول نبيل زكي: إنه صحفي يدافع عن الديمقراطية والعلم وحرية الفكر والنقد والابداع والاستنارة والحداثة. كان اسير قراءة التاريخ ونموذجا فريدا للصحفي المفكر والمفكر الصحفي الذين يؤمن بأننا في عصر الرجل العادي. وعلي مر السنين.. التقيت أحمد بهاء الدين لقاءات سريعة وخاطفة ومتباعدة. ولكنني في كل مرة، كنت اشعر بمزيد من التقدير والاحترام لهذا الكاتب المثقف الأمين.. صاحب القلم الحر النظيف. لست أحد اختراعات الثورة ويواصل نبيل زكي شهادته عن بهاء فيقول: يروي بهاء في كتابه »محاوراتي مع السادات« كيف قرأ في الصحف قرارات التغييرات الصحفية عقب انقلاب 15 مايو 1971، ومن بينها نقله من دار الهلال وتعيينه رئيسا لمؤسسة روزاليوسف، وشعر بهاء أن قرار نقله صدر من منطلق العقاب نتيجة لوشايات صغيرة ودسائس، وأحزنه أن تتراكم الوشايات عند السادات دون أن يحاول مرة واحدة يسأله مباشرة. وكتب بهاء رسالة للسادات يبلغه فيها برفضه للمنصب الجديد، وقال فيها: »لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتابا ودكاترة في كل مجال، ولكنني لست احد اختراعات الثورة، وقد كنت رئيسا لتحرير أكبر جريدة في مصر، وهي أخبار اليوم، واتقاضي اقصي حد للمرتب قبل تأميم الصحف بسنتين.. وقد نقلت إلي دار الهلال منفيا في حقيقة الأمر، و،بالتالي فإن من حقي أن يؤخذ رأيي في امر يتصل بي شخصيا.. فلا اقرأه في الصحف دون سابق علم، ولا أتحرك كقطعة شطرنج ممن مكان إلي مكان وبلا رغبة«. ويري نبيل زكي أن حب مصر لايظهر أو يتجلي ويتفجر إلا في في مباريات الكرة، والمفترض أن يظهر في قضايا حيوية وكبري، وهي عديدة وتواجهنا، وتعترض طريقنا، وتشكل تحديات بالنسبة لنا. وأن الوطنية ليست تعصبا أو انغلاقا وليست تطرفا أو غرورا واستعلاء، وانما هي إلتزام بالعمل علي أن تكون بلادك في أرفع مكانة، والوطنية عند بهاء الدين بالممارسة، لا بالأغاني والأناشيد والمهرجانات«. والوطنية الاقتصادية عند أحمد بهاء الدين -كما يقول نبيل زكي- لاتقل شرفا عن الوطنية السياسية، كما كان بهاء صاحب نظرة ثاقبة دواعية. انه لايتصور أن تكون وطنيا دون أن تحب الشعب الذي تنتمي اليه. فارس فوق جواد جامح مثلما أفرد نبيل زكي عشرات الصفحات من كتابه عن الكاتب الفيلسوف أحمد بهاء الدين، كان عبدالرحمن الشرقاوي له نفس هذا القدر من الصفحات وهو من الرموز التي قال عنها: كم كان هذا الكاتب الصحفي والأديب والشاعر وعاشق المسرح والمناضل.. يحب الكبرياء. يشرح نبيل زكي كيف كان لقاؤه مع الشرقاوي، في فترة الخمسينيات، وكان مع قصيدته »من أب مصري الي الرئيس ترومان«، وكنا نردد معه ختام القصيدة: فإن تملكوا الذرة المفنية فإنا نمتلك التضحية ونمتلك الذرة البانية ونمتلك طاقاتنا كلها ونمتلك أيامنا الباقية وتاريخ أجيالنا الآتية ويواصل نبيل زكي: كان الشرقاوي ثائرا ضد قرارات لجنة النظام التابعة للاتحاد الاشتراكي التي صدرت في 4 فبراير عام 1973 بفصل عشرات الصحفيين من عملهم، ورغم انه تحدث معي طويلا في مكتبه بروزاليوسف حول هذه المسألة، إلا أنه اصر علي ان نلتقي، وقال لي: لا أجد أمامي سوي حل واحد هو ان اقدم استقالتي من عملي كرئيس لمجلس ادارة روزاليوسف حتي يعود الصحفيون والكتاب المفصولون. وقال عن الشرقاوي انه بدأ التفكير في ملحمتي »الحسين ثائرا« و»الحسين شهيدا« بعد نكسة يونيو 1967، وقد اختار الشرقاوي شخصية الحسين في فترة الشعور الملح بالحاجة الي نموذج.. الي الإنسان الذي يضحي بالحياة لقيمة أغلي عليه من الحياة، ولتأكيد أن هناك قيما تصون الحياة وتستحق ان نضحي في سبيلها. ولم ينس نبيل زكي ان يتحدث عن مسرحية الشرقاوي »الفتي مهران« التي عرضت علي خشبة المسرح عام 1966، وكيف انها ظلت طوال فترة العرض دون مقعد خال، حيث ينطلق صوت مدو من فوق المسرح انه الفتي مهران يقول: »قل له يا أيها السلطان اترك عزلتك«.. »اختلط بالشعب يصبح قلعتك«. لقد تكلم الشرقاوي في وقت كان الجميع يؤيدون او يلزمون الصمت، وكان المسرح يشهد كل ليلة اثناء العرض ما شبه المظاهرة. بصمات موسي صبري موسي صبري.. من القلة التي كان لابد ان تترك وراءها أشياء لها أثرها وقيمتها، هكذا تحدث نبيل زكي عن موسي وأكمل: عاش زمنا مليئا بالمواجهات بين الصحفيين والسلطة، وعاصر أكثر الأحداث صخبا وتطوري خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وفي عزاء زوجته انجيل مال علي وقال لي: لاقيمة ولا معني لأي شيء في هذه البلد.. بدون ديمقراطية وأحزاب سياسية«. كان موسي صبري وهو رئيس لمجلس الادارة ورئيس التحرير، يتوجه بنفسه الي موقع الأحداث، ولاينسي زملاؤه انهم فوجئوا به علي شاطيء النيل قرب التروللي باس الذي سقط في مياه النهر لكي يصف بنفسه كيفية وقوع الحادث ويوجه المحررين للاهتمام بزوايا معينة في كتابة التحقيق الصحفي، ولاينسون العناوين الجذابة والسطور الرشيقة التي كان يختارها ويخطها بقلمه. وكان جلال الدين الحمامصي من الرموز التي شغلت حيزا في كتاب نبيل زكي، فقال عنه: ان نظريته السياسية والصحفية، انه لايمكن للرأي ان يكسب معركته إلا اذا كان هناك تكافؤ فرص لكل الآراء المخالفة«. صحفي من بيت الأمة يقول نبيل زكي: جاء وقت اصبح فيه مصطفي أمين- وحده- حزبا سياسيا شعبيا، وكان يكرر قوله: بأن الدستور.. أي دستور.. يجب ان ينص علي عبارة »الصحافة حرة« بلا زيادة أو نقصان وانه اذا اضيفت أي كلمة إلي هذه العبارة، فان ذلك يعني فرض يود علي حرية الصحافة. وظل هدف مصطفي أمين، الدائم ان يجعل الصحافة مهنة محترمة ومهابة وفي أعلي مكان.. ويحسب لها الحكام.. كل حساب. قطرات من العطر هكذا كيف زكي عن كامل زهيري، فقد كان زهيري يستدعي التاريخ ليعرف قصة كل شارع وحارة، ومن هم العباقرة الذين عاشوا في تلك الأماكن. عبدالوارث الدسوقي.. النيل والوفاء يكفي ان تكسب صديقا من طرازه لكي تخفف من مضايقات الآخرين، وخسة ودناءة البعض.. انه عبدالوارث الدسوقي كما يراه ويتحدث عنه نبيل زكي، منظومة اخلاقية تتحرك وتتعامل مع الناس والحياة علي نحو يجعلك تشعر بأن العالم لايزال بخير، وانه يستحق ان نعيش فيه ونتعايش معه. كان نموذجا مزيدا للمتدين الحقيقي الذي يجعلك تحب ان تكون متدينا مثله، واتذكر صرخته في وجه موسي صبري، رئيس التحرير عندما تم احتجاز البابا شنودة في دير وادي النطرون وقوله: »البابا شنودة ليس موظفا في الحكومة حتي تتعاملوا معه بهذه الطريقة«. ولم ينس نبيل زكي ان يتحدث عن مصطفي بهجت بدوي، عبدالملك خليل سعد زغلول فؤاد، جمال بدوي، فتحي عبدالفتاح، فيليب جلاب، رفعت كمال، حسن فؤاد، محمد مندور، حافظ محمود، عبدالعزيز البشري، ولفريد بورشيت، هيلين توماس. الصحافة وأحوالها في الفصل الثاني، تناول نبيل زكي الصحافة واحوالها فيؤكد ان حرية الصحافة والصفحيين تربتط ارتباطا وثيقا بالحريات السياسية. وان التأثير المباشر وغير المباشر للسلطة يؤدي الي تحويل الصحف الي ادوات دعاية بدلا من ان تكون منابر حرة للرأي والرأي الآخر، كما يؤدي الي تراجع الدور التثقيفي والتنويري للصحف لحساب هذه الدعاية المباشرة والفجة. وتتحكم السلطة في الصحف عن طريق القوانين سواء قوانين الصحافة ذاتها او قانون العقوبات وقانون الاجراءات الجنائية ومن خلال احتكار المنح او المنع لتراخيص اصدار الصحف او من خلال السيطرة علي تدفق المعلومات ونشر الاعلانات. وقبل ذلك كله تتحقق تبعية الصحافة للسلطة او تحكم السلطة في الصحافة عن طريق الملكية الحكومية للصحف عندما يسيطر الحزب الحاكم علي الصحف ويعين قياداتها. كما ضم كتاب زكي ردا منه علي الكاتب الراحل سلامة احمد سلامة بقوله: الصحافة الحزبية ليست زائدة دودية، مشيرا -زكي- الي ان صحفنا الحزبية لم تتحول الي نشرات يفرض فيها رئيس الحزب ومجموعته اراءهم. وفي الفصل الثالث تساءل زكي ماذا حدث للصحافة في مصر؟! وفي الفصل الرابع والأخير، حرص زكي ان يتضمن هذا الفصل ردودا علي صحفي كبير، وقصد بها مناقشة هادئة لسطور في رسائل هيكل الي مبارك، مشيرا الي ان الاستاذ هيكل يتقن شرح افكاره، ومواقفه، ومن المؤكد انه يعرف قيمة المعلومات التي ينقب عنها ويبني عليها استنتاجه وتحليلاته. وان ذلك ما فعله هيكل عندما تناول اول رسالة وجهها للسادات الي وزير الخارجية الامريكي كيسنجر يوم 7 اكتوبر عام 1973 لافتا- زكي - الي انه اذا كان هيكل قد اقتنع -متأخرا- بأنه في ظروف مصر، تكرست سلطة المؤسسة الواحدة بل سلطة الرجل الواحد، فان الموضوعية كانت تحتم عليه ان يتناول النتائج الكارثية لهذه السلطة الفردية التي ترسخت أكثر من أي وقت مضي في تاريخ مصر الحديثة بعد 23 يوليو.