تنتمي رواية »العطر الفرنسي« للكاتب السوداني المرموق أمير تاج السر، إلي شريحة الروايات والأعمال القصصية المتميزة عربيًا وعالميًا، والتي تعالج في كثافة وعمق موضوعًا هامًا وخطيرًا، يفرض هواجس النفس علي الواقع الخارجي، أكثر من فرض معطيات الواقع الخارجي علي مسيرة البطل أو الأبطال. وتقوم الرواية علي فكرة غرس الشائعة في المجتمعات الشفاهية وسرعة انتشارها ومراحل انتظار تحقيق ثمارها، وفق التصور الذي تتم تنميته داخليًا أيًا كانت درجة اقترابه أو توافقه أو توازنه أو اعتراضه أو اختلافه أو اصطدامه مع الواقع الخارجي. والنتائج التي قد تترتب علي درجات الارتطام. ولابد أن يذكرنا المناخ العام للترقب والانتظار الذي يسود »العطر الفرنسي« برائعة الكاتب الأيرلندي صموئيل بيكت »في انتظار جودو» En attendant Godot التي كتبها سنة 1949، واعتبرت أهم عمل مسرحي في القرن العشرين، وواحدًا من الأسباب القوية التي دفعت بجائزة نوبل إلي صاحبها، وقد ظل بطلاها فلاديمر واستراجون ينتظران شخصًا، تقترب درجة المعرفة به من الصفر، تحت شجرة جرداء في مكان ريفي قاحل، وينسجان في انتظاره أحلامهما الداخلية. كما يذكرنا المناخ العام للانتظار والسأم وتداعياتهما الداخلية التي تنعكس علي الخارج، انفجارًا وقتلاً، برائعة البيركامي، الغريب Letranger سنة1942، التي قاد الانتظار والسأم بطلها »مورسو» إلي القتل الخارجي، كما قاد »علي جرجار«، بطل »العطر الفرنسي« عند أمير تاج السر. تدور أحداث الرواية في شرق السودان، في حي فقير يسمي حي »غائب» ولا تخلو التسمية من دلالة علي تمكن الفقر والإهمال، ويتصدر الرواية راويا عليم وبطلاً مجنحًا، علي جرجار، موظف الصيانة السابق بالسكة الحديد، وثالث ثلاثة شكلوا حزبًا مغمورًا لم ينضم إليه سواهم، وأعظم أعمال البطل »علي الإطلاق تلك الصيحة التي تنادي بحرية التخيّل لدي الناس، والتي أطلقها من حي غائب ذات مساء لتصل فيما بعد إلي كل أقاليم البلاد، ويطلق عليها الباحثون في السياسة والتاريخ اسم صيحة جرجار، دون أن يعود عليه ذلك بمال أو جاه»، علي حد تعبير الرواية التي شكلت التجسيد الفني الجيد لمفهوم حرية التخييل، واستنفار الحواس الداخلية والبيئة الخارجية المحيطة لبناء مملكة الخيال حتي وإن دمرت بانيها في نهاية المطاف. وتبدأ أحداث الرواية بانطلاق شائعة غريبة في مجتمع شفاهي يبلغها مسئول حكومي لعلي جرجار في صيغة مقتضبة وغامضة : » ستأتي الفرنسية »كاتيا كادويلي« في الأيام القادمة للإقامة معكم في الحي فترة من الوقت، ضمن دراسة عالمية، استضيفوها في أي مكان بينكم وعيشوا حياتكم كما هي». هذه الصيغة المقتضبة، وهي البذرة التي يحملها علي جرجار إلي مجتمع شفاهي متعطش، سوف تنمو علي لسانه وألسنة أهل الحي، وتشكل ،هي وتداعياتها، مجمل العمل الفني الجيد الذي تحمله الرواية علي صفحاتها. ولابد أن تذكرنا البداية الفنية للعمل علي هذا النحو، وانطلاقه من بذرة شائعة غريبة في مجتمع شفاهي، وتناميها في كل أرجائه، بالبداية الفنية المماثلة لرائعة الطيب صالح »عرس الزين» حيث« قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة.. وهي تكيل لها لبنًا بقرش: »سمعت الخبر.. الزين مو داير يعرّس «؟ ولم يمر وقت طويل حتي حمل »الطريفي« تلميذ المدرسة المتأخر الخبر لناظره »والزين ماش يعقدوا له بعد باكر« فأنجاه ذلك من عقاب، كان علي وشك أن يحل به، ثم حكاه شيخ علي البقال لدائنه الغاضب عبد الصمد »اقعد أحكي لك حكاية عرس الزين..« فنسي دَيْنه الملح وجلس. لكن الشائعة في »العطر الفرنسي« سوف تنمو بطريقة أخري منظمة، وكأنها هدف سياسي في ذاته تستغلها الحكومة في الإلهاء، ولها رجالها الذين يقومون به، ومنهم »النبوي« الشاعر الذي يكتشف علي جرجار بعد وفاته من مسئول حكومي مهمته، حين يقول له: »تأصيل الإشاعات ونشرها في الأحياء الفقيرة مهنة رسمية لدي الدولة، والنبوي كان يتلقي راتبًا شهريًا علي ذلك«. ومن هنا فإن أولي خطوات الحدث الروائي بعد تلقي الشائعة تمثلت في زيارة علي جرجار للنبوي ونقل الخبر إليه، وعلي الفور أصدر النبوي قراره بتشكيل لجنة سداسية من الحي لبحث ترتيبات الزيارة المترقبة، وحدد لها موعدًا عاجلًا في السادسة صباح الغد في بيته لتعقد اجتماعها الأول، ومع أن اللجنة السداسية لم يتح لها أن تجتمع علي الاطلاق، بسبب الوفاة المفاجئة لرئيسها النبوي وهو يكتب قصيدة شعر في الترحيب بالزائرة الفرنسية المرتقبة، فإن الراوي قدم لنا من خلال التعريف بها، صورة عن الشخصيات الرئيسية في حي »غائب«، وهي في الوقت ذاته، الشخصيات الثانوية في »العطر الفرنسي« والتي لا يقل دورها في استكمال تصور الحدث وبناء مملكة الخيال عن دور البطلين علي جرجار وكاتيا كادويلي المتوهمة. ويمكن تلخيص الدور الهام الذي تقوم به هذه الشخصيات علي مستوي البناء الروائي، في مساعدتها علي بناء جدران من الوقائع الممزوجة بالأوهام، مما يهيء المناخ، للتراجع التدريجي لعالم الحقيقة أمام الزحف المنظم لعالم الخيالات والأوهام في رأس علي جرجار. ومن هذه الشخصيات »منعم شمعة» تاجر الملابس والعطور والهدايا الذي يسافر كثيرًا إلي الصين ويعود بحكايات وأشياء غريبة، وقد عشق في إحدي رحلاته، من طرف واحد، مضيفة شامية اسمها »ترانيم« وأطلق اسمها علي محله، فلما ماتت بالسرطان عشق مضيفة أخري اسمها »كريمان« وغير اسم المحل. ومن هؤلاء »حليمة المرضعة« قارئة الكف وبائعة الأوهام وصاحبة شعار: »أعطني أعطك« ومنهم »شاكر تعيس« الذي حمل هذا اللقب، لأنه كان الوحيد من أبناء الحي الذي لم يتح له أن يشرب ماء زمزم، وقد نمت في حياته، أثناء الرواية، قصص حب فرعية بها ضلع وهمي وتمثلت في تعلق الفتيات به وزواجهن منه، ثم هروبهن من بيته عقب الزواج دون سبب معلن، وقد وقعت في هذا الفخ »سلافة الجميلة جدًا«. ويأتي في النهاية أيمن داود طالب الثانوي الذي يجيد التعامل مع شبكة الانترنت في مقهي »كريزي كافيه« في الحي، ويفتح من خلالها آفاقًا لا تحد لتجاوز الواقع، واصطياد العالم البعيد وإعادة تشكيله. وهذه البنية المتعددة الأذرع والعيون والأجنحة، تسمح للراوي من خلال الثغرات التي تحدثها في عالم الواقع، بشق طريقه بدرجة عالية من الفنية لتشكيل العالم الموازي، وتهيئة الحواس للتعامل معه. وفي مقدمة الحواس التي يتم تنشيطها وتهيئتها حاسة الشم، وهي المجال الذي اقتبست منه الراوية عنوانها »العطر الفرنسي» والشم هو أقرب الحواس إلي عالم الوهم الذي تتغياه الرواية، فهو لا يُري، ولا يمسك ولا يصور، ولا يحتفظ به، وقد يضاف إلي ذلك، أنه لا ينكر أيضًا، فدرجة الحكم بالوجود والعدم فيه ملتبسة، تمامًا كقصة الحب التي تربط علي جرجار بالممرضة الفرنسية كاتيا دون أن يلقاها، ولكنها تملأ حياته ويعاشرها ويقرر أن ينجب منها. وقد تثير سيطرة فكرة الشم عند الراوي من بعيد نظيرتها المضادة عند صنع الله إبراهيم في »تلك الرائحة». وتتمثل سيطرة فكرة الشم علي مناخ الرواية في تردد المفردات التي تشير إليها في كثير جدًا من صفحات الرواية؛ قد كان محل منعم شمعة »يضم عطرًا سلسًا« وعندما يتذكر الراوي باريس، يتذكر عطرًا كرنفاليًا اسمه »موج«، وفي رسم مناخ الحي »ثمة رائحة لعطر نسائي رخيص»، وفي محل ترانيم يُخرج شمعة »قارورة لعطر نظيف« وفي عيادة الطبيب »رائحة عطر ماكس» ومع أيمن« يظل عطر ماكس عالقًا في أنفي لثوانٍ«، حتي ممارسة الرياضة يكتشف الراوي »أن رياضة موسي الصباحية، كانت في باطنها شمًا منقبًا لعورات الصباح وليست رياضة حرفة« وفي تخيله لما يشتريه لحبيبته المتوهمة: »بعض العطور الغالية« وعندما تأتيه رنة تليفون يعرف صاحبها »لأنني شممت عطر الماكس يفوح فورًا من هاتفي قبل أن ألمسه«، وحتي عندما يري الفتيات علي شاشة الكمبيوتر »يكاد يلمس رقتهن تتقافز من الشاشة لتضوع العطر في المقهي كله«. ويصل الأمر إلي »رائحة اللبن المرّ« و»رائحة المال» و»رائحة الأخبار الجديدة«، ويكاد الراوي يتحسس بأنفه كل جوانب عالمه الواقعي أو المتخيل، وفي قمتها »العطر الفرنسي«. وفي نفس اتجاه تأهيل الحواس، يطور الراوي من مدخولات عالم السمع، ارتقاء بها من مرحلة الضجيج التي تحبط بحياته الواقعية في حي »غائب« إلي مرحلة »النغم« التي يحلم بأن يعيشها مع كاتيا كادويلي، طمعًا في الامتزاج بالعطر الفرنسي والنغم الفرنسي. وتتمثل مرحلة الضجيج في صرير المفاصل الصدئة للأبواب الخشبية القديمة التي تتصدر كل بيوت الحي وأولها باب بيته، الذي لم يكن يحس بإزعاج صريره من قبل، لكنه بعد أن بدأ يتأهب للعالم الجديد الذي يتخيله، يقول: »فتحت باب بيتي فأزعجني صريره لأول مرة أحسست به عائقًا محتملًا، ربما يتآمر ليفسد حضارة أريد أن أتحضرها وسعيًا لإسكات الضجيج تمهيدًا لإحياء النغم، اهتدي بسهولة إلي صب بعض قطرات من زيت الطعام علي مفاصل الباب، فتوقف أنينه، وأعجبته الفكرة، فحاول أن يعمها علي أبواب الحي كلها، فاستجاب له معظم سكانه، فيما عدا مجموعة قليلة، علي رأسهم »النبوي الشاعر«، الذي أصر علي أن يحتفظ بابه بالضجيج المميز، وقد يكون في هذا إشارة بعيده إلي الصراع الكامن بين علي »الراوي« والنبوي »الشاعر«، والذي انتهي بموت الشاعر. وهو صراع موجود في داخل المؤلف، ذاته، الذي بدأ شاعرًا عاديًا، وتحول إلي روائي مرموق، ربما بعد أن قتل الشاعر في داخله. لكن إسكات الضجيج، يشكل مرحلة تمهيدية لإحياء النغم، وهي المرحلة التي تكفلت بها هواتف المحمول، التي بدأت تغزو الحي، وتوجد في أيدي كل الناس، حتي المتسكعين والمتسولين وهي غالبًا، لا تحمل رصيدًا للكلام، ولكنها تحمل القدرة علي الرنين لكي تقول »كلمني من فضلك، وبدأ الرنين يغزو الحي، وتتنوع نغماته بتنوع الثقافات فهاتف »منعم شمعة« يطلق رنات صينية أتي بها من رحلاته البعيدة، وهكذا حل رنين الهواتف محل صرير الأبواب. لكن الأمر سوف يتطور أكثر، مع علي جرجار، عندما يخبره »أيمن« أن شبكة المعلومات تتحدث عن ثلاث نساء فرنسيات باسم » كاتيا« إحداهن مغنية، والأخري شاعرة، والثالثة ممرضة، وقبل أن يستقر علي الثالثة التي سوف يتزوجها في خياله ويقرر الإنجاب منها، يتعرف علي الأخريين، فيبحث عن شرائط المغنية ويحبها ويستمع إليها، وتبدأ لديه مرحلة الولع بالأغنية الفرنسية استعدادًا للقاء محبوبته. ومع أن تطوير مجال حاسة الإبصار يبدو محدودًا في وسط عالم فقير من الصعب تغيير مرئياته الصادمة، فإن لمسة عابرة، في مجال تطوير الألوان، تبدو ذات مغزي خاص في إطار سعي الراوي لاتخاذ خطوات فنية، لبناء عالم خيالي محكم، ففي وسط مجتمع تسود فيه الوجوه السمراء والملابس البيضاء وتقل فيه حظوظ الألوان الأخري، يكتشف العاشق الولهان من تأمل صور كاتيا علي شبكة المعلومات، أنها تفضل اللون الأزرق، ومن ثم قرر أن يحول حياته كلها في اتجاه هذا اللون، فبدل ملابسه الجديدة، وحذاءه، وحتي طلاء جدران بيته، وقطع الأثاث المتفرقة فيه، إلي اللون الأزرق ليساعده في خلق عالمه المتوهم. ولا تقل قصص الفانتازيا الهامشية، التي ترد أثناء تطوير المتن السردي، تأثيرًا عن تطوير معطيات الحواس التي أشرنا إليها، في بناء مملكة الخيال، ومن هذه القصص، حكاية »بيت آل مسيكة، الذي كان في طرف الحي غير المأهول، وتسكنه إحدي عائلات الجن.. وقد عرفوا بصناعة الخمور الجيدة، إذ يضع الناس خاماتهم، من تمر أو ذرة أمام الباب ويستلمونها بعد عدة دقائق خمرًا طازجة، وقد ظل المناخ المحيط يمثل هذه القصص، يلعب دوره دائمًا في خلخلة الواقع، والاستعداد لقبول عالم آخر. وفي هذا الإطار تأتي قصة ساحر الحي »شيخ العواني« وتلميذته »سومية أحمدو« التي جاءت من ساحل العاج خصيصًا للتدرب علي يديه بعد أن أتمت دراستها في كلية الدجل والشعوذة في بلدها، وتتماس هذه القصة مع مجريات الحدث الرئيسي، حتي تختلط مهمة الفتاة خطأ بمهنة كاتيا الفرنسية، وحين يقتحم الدجال بيت علي جرجار وخلوته وهو يتأهب لإجراء عرسه الوهمي، ليجري فيه تجربة استحضار الجان، لإنقاذ صديقه »ميخا ميخائيل» من ورطته. إن كل هذه الخطوات الفنية المحكمة، والتي قد تتم بوعي أو دون وعي من المبدع، هيأت المتلقي لدخول مملكة الخيال والفانتازيا المريرة، التي تم اقتياد البطل علي جرجار إليها، فقاده الوهم إلي حقيقته الخاصة، التي عايشها، وملأ بصورها أركان بيته، ثم سعي إلي انتزاع اعتراف الآخرين بها، حين اصطحب عروسه المتوهمة في ذراعه وطاف بها في أرجاء الحي، يلقي التحية علي هذا، ويشتري من ذلك، ويجلسها علي المقهي، ويعرفها علي سائق التاكسي، ثم تمتلكه الغيرة من هذه الصلة المتشابكة مع أهل الحي، التي تحولت في وهمه إلي حقيقة، فأحس أن هذا يعاكسها وذلك يغمزها، وأن فتي مراهقًا يستدرجها إلي أحلامه، فلم يطق صبرًا، واستل سكينه وعصا جده، وهاج في الحي، وهرول الناس أمامه وأسالت أطراف السكين دماء، وألمت قسوة العصا أجسادًا، وجاءت سيارة المستشفي لتنزع العاشق من عمق مملكة الوهم والخيال. وحين لمحت عيناه، في السطور الأخيرة من الرواية، كاتيا الحقيقية تصل إلي الحي، لم يكن لديه ولا لدينا وقت ولا رغبة لنعرف من هي؟ وما حقيقة الواقع المحيط بها؟ فقد أترعتنا مملكة الخيال، عبر البنية الروائية المحكمة، بما يغنينا عن الثرثرة المباشرة حول الواقع.