لم يكن من الميسور، في ذلك الوقت، شراء كتاب يصل ثمنه إلي ستة جنيهات، بينما لا يزيد ثمن عموم الكتب عن الجنيهين. إبداعات توفيق الحكيم بأقل من جنيه، وروايات نجيب محفوظ، قبل حصوله علي نوبل للآداب في عام 1988، بقروش معدودات. اتسمت كتب الدكتور زكي نجيب محمود بجودة طبعاتها وارتفاع ثمنها. اكتفيت بقراءة مقاله الأسبوعي كل ثلاثاء في جريدة الأهرام جنباً إلي جنب مع مقالات الدكتور حسين فوزي ومحفوظ وإدريس وبنت الشاطيء والشرقاوي وإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين، وأنيس منصور، وغيرهم. خلاصة الفكر العربي في جريدة واحدة. أين منا هذه الكوكبة الآن. عثرت بعدها علي كشك يبيع الكتب المستعملة بأقل من نصف السعر فاشتريت كل ما وجدته من مؤلفاته. أستاذنا زكي نجيب محمود ، كان قد حصل علي الدكتوراه في الفلسفة من انجلترا واغترف من بحار العلم الأوربي حتي ظن أن لا حياة بدون التحول الكامل للغرب، فما أن سافر للعمل في الكويت عام 1968 واطلع علي ذخائر التراث العربي حتي أعاد صياغة معادلة جديدة للتقدم تعتمد علي مزج الفكر الغربي بالتراث فأصدر كتبه تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، وثقافتنا في مواجهة العصر. علي الرغم من التعقيدات الفلسفية التي تعرض لها أستاذنا الجليل إلا أنه امتلك القدرة علي صياغتها بأسلوب أدبي بسيط تستشعر معه أنه يخاطبك وحدك. يجيب علي أسئلتك الخاصة. يمسك بيدك في رفق ويتمشي بك بين قضايا قديمة وحديثة، يربط بينها في براعة فإذا القديم جديد، والجديد متصل في القدم. أسس مدرسة تعتمد علي التوفيق بين الدين والعلم، والإيمان والعقل، والشرق والغرب، مؤكداً أن الإيمان الروحي لا يتناقض مع العقلانية العلمية، فبرغم إقرارنا بأن الدين قِوامه الإيمان لا براهين المنطق العقلي، إلا أن ذلك لا ينفي إمكان إقامة تلك البراهين العقلية علي صحة العقيدة الدينية، كما أن جانب الدين ينطوي علي عقيدة وشريعة معاً، وهو ميدان يُعمِل فيه الإنسان عقله ليستخرج منه ما ينظم له حياته العملية. ويُرجع أستاذنا في كتابه أفكار ومواقف أسباب عدم نفاذ الأمة العربية، في حاضرها الراهن، إلي العالم الخارجي بفكرها وأدبها إلي شيوع منهج الترديد الأبتر إما لأفكار الغرب الحديث أو العرب الأقدمين ترديداً يتوافق في العناوين ويختلف في المضامين لأنه بُني علي قِلة إدراك وعلم. أيضا، يغلب علي كتاباتنا الهمس الداخلي، بمعني عدم تخطي الكثير من إنتاجنا المعرفي حدود اللغة العربية. ويُرجع أستاذنا سمو الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات لارتكازها علي محور الأخلاق، في الوقت الذي أسست حضارات أخري قواعدها علي الفن، أو علي العلم، مما يؤهلها- الحضارة الإسلامية- لاستيعاب ما عداها من حضارات. وأملاً في التقدم يعرض كتابه »مجتمع جديد أو الكارثة» خلاصة بحث قرأه يقارن بين الدول المتقدمة والنامية فيُشير إلي بعض الفوارق ومنها، أن أهل البلاد المتقدمة يحبون أعمالهم بينما يبغضه أهل البلاد النامية، كما أن أغلبية أهل المدينة في الدول المتقدمة تتمني السكن في الريف طلباً للهدوء والراحة وهو عكس ما يحدث في الدول النامية، حيث يسعي الريفيون للهجرة إلي المدينة، حتي حدث ما سماه الأستاذ محمد حسنين هيكل (ترييف المدينة). من هنا يطرح أفكاره في ضرورة المشاركة الحقيقية للأفراد في تعيين الحاجات الضرورية للمجتمع، وعدم سقوط المجتمع في فخ الاستهلاك علي حساب الإنتاج، تأسيساً علي مبدأ أن التعليم هو المحور الرئيسي للتقدم شاء من شاء وأبي من أبي.