محمد منصور شاعر شاب، لم يتجاوز الثلاثين بعد، فاز ديوانه "السفر في الأسود" بجائزة الدولة التشجيعية لهذا العام، وهذا يسعده، ويفرحه اكثر انه اصغر الفائزين بالجائزة علي مدار تاريخها، كان صلاح عبد الصبور هو الاصغر، ولكن استطاع منصور الفوز بها في سن أصغر من الشاعر الراحل. يمتلئ منصور بذاته، يعرف ماذا يمتلك ويفرح به، يكتب التفعيلة عن اقتناع وفخر، ولا يعرف ماذا سيكتب غدا، ولكنه يصطاد بقصيدته روح النثر علي حد تعبيره، يحب قيد التفعيلة ويحترمه، ويرقص في داخله، ولا يري للرقص معني خارج القيود، يحمل في داخله صحراء سيناء التي ينتمي إليها، ولكنه لم يتمكن من رؤيتها والاحتفال بها قي ديوانه الا بعد سنين من الاقامة في المدينة الصاخبة، يحترم الشاعر الشاب اسلافه، ولا يؤمن بالزمن، فالابداع لديه نص طويل يضيف كل مبدع ما استطاع إلي هذا النص فيتجاور عنده ابو تمام والمتنبي ويانيس ريتسوس والمعري والماغوط وسارتر ونيتشه وسارماجو واخرين بعيد عن زمنهم واماكنهم. بدأ منصور من الشعر العمودي، ويري ان هذه البداية طبيعية جدا "نظرا للمكان الذي نشأت فيه ومعرفة أهل المكان عن الشعر التي وصلتني بطبيعة الحال، فهذا هو شكل الشعر في أسرة بسيطة، يمثل الدين جزءا هاما في معارفها، ويدور عادة هذا الشعر حول حب الله ورسوله والافكار الدينية البسيطة، وانت تحاول مواكبة الجو من حولك كما تفهمه وكما قرأته ايضا، فلقد قرأت الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والامام الشافعي رضي الله عنه علي انهما شعراء، وفيما بعد اكتشفت انهما غير ذلك. كان هذا هو الشعر بالنسبة لي وكنت احاول السير علي خطي هذه الاسماء. بالاضافة إلي ان تعليمي الازهري كان دافعا للسير في هذا الاتجاه. ولم نكن ندرس شعر التفعيلة الذي بدا بالنسبة لي خاليا من الايقاع، مجرد كلام، لم أكن أري في شعراء التفعيلة الكبار أي جمال في فترة مراهقتي.
التمرد فكرة مرتبطة دائما بالشعر او بالفن بشكل عام.. علي افكار وقيم وايضا علي ايقاع ونظم معين، لكن التمرد بالنسبة لمنصور مختلف فالكتابة بدأت معه كمواكبة لوعي، لم يكن يعرف وهو يكتب شعرا عموديا، انه يجب ان يمتلك وعيا مختلفا كي ينتج نصا مختلفا.. " كان هناك انفصام ما بين وعيي وما بين كتابتي، بدليل اني كنت اقرأ ماركس ونيتشه، واشارك في القضايا السياسية التي تحدث من حولي، ولكن عندما اكتب عن الحب اكتب عنه بالمعني التقليدي جدا، وعن الاغراض التي ورثتها عن بيئتي، كنت اكتب نصا كي اطبق به نماذج ابداعية كتبت قبل ذلك. ما خدمني اني قاريء نهم، وهذا ما جعلني اصل الي ان الكتابة ليست فقط ان تكتب عن وعي، احيانا تكتسب وعيا جديدا بالكتابة، وهذا ما احسست به في "السفر في الاسود" فالسفر ليس بالضرورة سفرا في المكان، ولكنه ايضا سفر في الوعي بحد ذاته، انا اتحرك، انتقل من نقطة إلي نقطة أخري لا اعرف موقعها لحظة التحرك، لكن ربما ادركها عند الوصول، وهذه بالنسبة لي رحلة الوعي، والطريقة التي يتطور بها، فأنا لا اعرف اين سأكون غدا، وكذلك قصيدتي. كنت مؤمنا جدا ان الشعر عمودي، كي احافظ علي موروثي وهويتي، لاني كنت ومازلت مؤمنا جدا ان لدي هوية، ولكن بعد ان كانت هذه الهوية ثابتة، بدأت اكتشف أن الهوية في حد ذاتها مغامرة، وايضا تعتمد علي المستقبل اكثر مما تعتمد علي الماضي، واكتشفت اني لو حددت شكل نصي سلفا فأنا أقتله، فالشعر عندي الان ليس قصيدة، ولكن الشعر فضاء. مثل الفضاء الذي نعيش فيه، من اراد ان يبحث عن الكواكب يمكنه، من اراد رؤية النجوم سيراها، ولكن الفضاء دائم التشكل، ما تراه يرجع بالاساس لذاتك، لذا أري انه لا يجوز الفصل تعسفيا بين الاشكال الشعرية، والاشكال لا تعطي حصانة للكاتب، ولكن الكاتب كلما كان كبيرا- كلما اعطي هو حصانة لشكله. مثل الماغوط أو أنسي الحاج لو كتبا قصيدة نثر ضعيفة لم تكن لتقاوم وتبقي امام طوفان شعر التفعيلة الذي كان موجودا، أيضا لو لم يكن صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي شعراء كبار لم ايستطاعا الصمود أمام طوفان الشعر العمودي الموجود ساعة ظهورهما.
يؤمن منصور الان وهو يعرف أن هذا الايمان من الممكن أن يتغير غدا - انه لا يستطيع المراهنة علي شكل لأن الشكل متغير، كذلك القصيدة قد تأخذ شكلا عاما لبعض الوقت.." ولكن لو تأملت قليلا ستصل إلي ان الشاعر اشكال، فلو تأملنا بشكل مختلف قصيدة التفعيلة فسنصل إلي ان شكلها عن حجازي مختلف تماما عن شكلها عند عبد الصبور، وايضا عند أمل دنقل، عند عبد المنعم رمضان. لأن تفاصيل القصيدة الداخلية مختلفة من شاعر لأخر ومن مرحلة في حياة الشاعر لمرحلة أخري. ربما للوهلة الاولي تظن ان حجازي وأمل يكتبان علي بحر الكامل، ولكن لا ينتهي الموضوع هنا فبحر الكامل هو الشكل الخارجي جدا، لكن ايقاع الكامل عند حجازي يختلف عن ايقاعه عند أمل دنقل. هل يمكن تحديد شكل واحد للايقاع؟ مستحيل فالايقاع مثل الايمان او الحب لا يأخذ شكلا واحد. لذا لا توجد وصفة ايقاعية معها ستصبح شاعرا.
العالم الذي نعيش فيه الان، مضطرب، متحرك، متشابك، مزدحم التفاصيل، هل يلائمك الشكل التفعيلي كي تعبر عن هذا الازدحام، الا يقيدك؟ أنا مغرم بفكرة القيود، ولا استطيع تحديد حريتي إلا في ظل الضرورة، أو التمرد الا في ظل الالتزام، يعجبني ايضا أن أخطف من قصيدة النثر روحها واحدق فيها واري ما يمكن ان يفيد التفعيلة. وأظن أن الاشكالية في النظرة لا النوع، فأنا استطيع داخل الاطار العمودي لو امتلك قدرة ابداعية ان العب داخل هذا الاطار، وان ادخل تفاصيل تحتفي بها قصيدة النثر داخل الاطار العمودي، استطيع ساعتها ان ارقص داخل القيد، هذه هي الصورة الامثل بالنسبة لي، لكن الرقص بلا قيد عادة بلا معني، واظن ان شاعر قصيدة النثر ايضا يكتب داخل القيد، فهو فيما افترض لا يحتفي بسمات قصيدة النثر التي أرساها من قبله، لأنه هكذا لا ينتج جديدا، وهكذا طالما كنت محتفظا بالقدرة علي الرقص داخل القيد سأظل محتفظا بالقدرة علي الابداع. والحرية ستكون ان ابتعد عن كل ما اتفق عليه داخل هذا الشكل. ماذا تقصد ب"روح قصيدة النثر"؟ ما استطاعت ان تقدمه قصيدة النثر في الخمسين سنة الاخيرة، واهمها الاهتمام بالتفصيلة الصغيرة التي كان يعتبرها الشاعر العمودي والتفعيلي هامش، ايضا قدرة قصيدة النثر علي التماهي مع كل الفنون السينما ، التشكيل، الفنون الشعبية، هذه السمات هي ما رأيته بكثرة في قصيدة النثر اكثر من غيرها. يحتفي منصور في "السفر في الاسود" باللغة، لغة مصنوعة جيدا، مخدومة بعناية ربما تختلف درجتها في الشعر المكتوب حديثا لكن ينحاز منصور لما قاله سارتر حول أننا نخدم اللغة ولا نخدمها، وخاصة في الشعر.. "اللغة التي اتكلم بها واكتب بها هي أنا، اللغة مثل الهوية، وهي تشكل وجهة نظر الكاتب إلي العالم لذلك تختلف القواميس من كاتب لأخر، واري اني لو استخدمت اللغة فن أكن واعيا بماهية اللغة. فاللغة لا تعني، بالنسبة لي لا وجود للمعني، الذي يستخدم اللغة باعتبارها وسيلة يظن ان هناك معني واللغة تساعده في الوصول إلي المعني، بالنسبة لي اللغة تدل وتشير ولا تعني. المعني الذي أريد ايصاله إليك، هو في النهاية معني ساكن فيك، ولكن وظيفتي في الابداع ان اشير، ان اكون دليلا علي كذا لا أن اكون كذا، لذا فاللغة لابد أن تُخدم لا أن تستخدم. ولو توقف الابداع ماتت اللغة، فاساتذة النحو والصرف لا يقدمون لها شيئا. ومن يتعامل مع اللغة باعتبارها وسيلة لا يقدم لها جديدا، فاللغة غاية، ولا اعني هنا ايضا ان هناك لغة قديمة او متصورة يجب الوصول اليها ولكن هناك لغة جديدة اجتهد كمبدع في الوصول لها بها، فأنا ذاهب للغة باللغة". عالمك صحراوي اكثر منه مديني..اين المدينة منك؟ الانتقال من بيئة إلي أخري ليس مجانيا، عندما اتأمل وعيي قبل القاهرة أجد انه كان ثابتاً ويقينيا ومطمئنا ، والان متشكك وينتظر من الغد التحول والتغير، وهذا اشبه بالانتقال من الصحراء، صحراء المحيط المكشوف، إلي المدينة المتغيرة والمتحولة بشكل دائم. ولكني كنت حريصا علي ان تكون كتابتي أمامي وليست ورائي، فلا اظن اني عرفت المدينة فكتبت، ولكني كتبت فعرفت المدينة، التي بالنسبة لي أن تكون أو تكون، ويختلف ويتغير شكل الكينونة من فترة لأخري، احيانا تكون بالتحايل، واحيانا بالتجاوز إلي الباطن وأظن هذا مستوي مختلف. وبالنسبة لي لم استطع قراءة سيناء إلا عندما عشت في القاهرة. ولا أظن انه كان يمكنني كتابة السفر في الاسود الا بعد هذه الفترة في المدينة كي اتمكن من الاحتفاء والاهتمام بصحرائي، وكأن الخروج من المكان هو ضريبة للعيش في المكان إبداعيا.