عندما وجه لي الصديق طارق الطاهر رئيس تحرير »أخبار الأدب» الدعوة لحضور اللقاء، سعدتُ لأنني سأستكشف ملامح مشهد ثقافي فلسطيني أصبح غامضا، بعد أن حجبته صراعات السياسة، وألاعيب جماعة تري أن الثقافة رجس من عمل الشيطان! وفي الطابق التاسع من مبني أخبار اليوم التاريخي بدا الوزير الضيف مقتنعا بأن الثقافة التي يتولي مسئوليتها لا تصنع حلا، فاستغرق الشاعر إيهاب بسيسو وزير الثقافة الفلسطيني وقتا طويلا، في استعراض تفاصيل نزاعات ثنائية وثلاثية، تتراجع أمامها أية مبادرات سلام أو جهود مصالحة. أفاض الوزير في سرد وقائع تاريخ قريب لا يخفي علي أحد، مما دعا الناقد الدكتور صلاح فضل إلي مطالبته بالحديث عن الحاضر. كان المطلب وجيها، خاصة أن الأرضية المشتركة تحمل توافقا حول خطورة الدور التي تقوم به حماس، بينما طالب الأديب سعيد الكفراوي وقبله الدكتور سعيد المصري أمين المجلس الأعلي للثقافة بالتركيز علي البعد الثقافي، فالمتحدث هو الوزير المسئول عنها في فلسطين، والجهة المُستضيفة للقاء هي جريدة »أخبار الأدب»، كما أن هناك العديد من القضايا التي تستحق الطرح. إذا كانت ألاعيب السياسة قادرة علي صناعة الألغام فإن الثقافة أيضا لا تفتقد القدرة لذلك. في سياق حديثه دعا الوزير المبدعين المصريين والعرب للمشاركة في الفعاليات الثقافية بأراضي السُلطة، ورأي أن ذلك يمثل دعما مهما ومطلوبا للمثقف الفلسطيني، وهو ما رفضه الحاضرون بضراوة، باستثناء الروائي محمود الورداني الذي زار رام الله من قبل واعتبر ذلك نوعا من الدعم. في المقابل رفض الأديب يوسف القعيد ذلك بحسم، وبلغ النقاش ذروته عندما احتد الدكتور فضل طالبا إنهاء الحوار حول هذه الجزئية، كانت حدته غير مبررة من وجهة نظري رغم اتفاقي مع رأيه، خاصة أن بسيسو أكد بوضوح أنه لن يسمح لنفسه أن يكون جسرا للتطبيع مع إسرائيل، وتدخلت الروائية هالة البدري لتؤكد بهدوء أن المقاطعة تعتبر سلاحا أكثر قوة وتأثيرا في الكيان الصهيوني. كان رفض رموز الثقافة المصرية مبررا، فالعدو ينجح دائما في استغلال أي مبادرات حسنة النية لصالحه، ويُمكن أن يروّج أمام العالم أجمع أن مقاطعة المثقفين العرب له انتهت، رغم أن الزيارات ليست موجهة لكيانه المُحتل، لكن تأشيراته الإجبارية قد تدعم مزاعمه! وسط الحماس المتبادل تراجع الحديث عن جهود مواجهة اغتصاب الكيان الإسرائيلي لتاريخ فلسطين، عبر ممارسات مستمرة تعتمد علي التدمير والتزييف معا. لا يشغل العدو نفسه كثيرا بترتيب الأولويات، بل يمضي بكل المسارات في آن واحد، فيتوحش سياسيا ويُبيد إنسانيا، ويُدمر- عند أي اجتياح الآثار التي تقف في وجه أكاذيبه التاريخية. إنه يحدد ثوابته في دقائق بينما نقضي سنوات وعقودا في طرح نظرياتنا، ثم الخلاف حولها! كشف اللقاء - الذي تنشر أخبار الأدب تفاصيله خلال ساعات - حقائق جديدة، غابت عنا في غمرة انشغالنا بالسياسة، واكتشفتُ أن العدوان علي الثقافة الفلسطينية ليس حكرا علي العدو، فقد يأتي من الداخل أيضا، وأضرب مثالا بالمدرسة التي تحمل اسم الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني، فقد بدّلت سلطات حماس اسمها إلي »مرمرة»!! لا أجد أمامي إلا استعارة قول شاعر قديم بتصرف بسيط: لكل داء دواء يُستطاب به.. إلا »الثقافة» أعيت من يداويها! هذا هو وضعنا الحالي في المنطقة العربية، بعد أن عامل البعض الثقافة بوصفها حماقة غير مرغوب فيها، وهو ما جعل المهمومين بشئونها يعانون في الدفاع عنها، والأمر يصبح أكثر خطورة في فلسطين، لأن ثقافتها تقبع تحت حصار العدو الغاشم.. والصديق اللدود!