شأن رفعت سلام شأن جميع الشعراء الكبار الذين يكابدون من قلق الوجود ببعديه الموضوعي المعيشي والذاتي الجمالي في الوقت نفسه. لذلك من غير المستغرب أن تبرز في شعريته هذه المقدرة الواضحة علي التحوّل والتجدّد. إنّه من الشعراء القلائل الذين استطاعوا، أو كادوا، أن يعبروا الشعر كلّه، إبداعاً وترجمةً، من غير أن يستقرّوا علي قصيدة يمكن أن يحيكوا علي منوالها. فهو بهذا المعني شاعر مراحل. ويمكن أن أبسط القول، بل وأسطحه إذا ما حدّدت هذه المراحل بشكل القصيدة وحدها، بإيقاعها الصوتي غالباً، فأذكر بداياته في شعر البحور ومن ثمّ انتقاله إلي قصيدة التفعيلة، فالشعر الحرّ وقصيدة النثر. وهذا شيء، علي الرغم مما يبدو من سطحيته، إلا أنّه أساسيّ، علي اعتبار أنّ الشعر موسيقي، ولن أختلف علي طريقتها حتي لو جاءت سردية، وغير موزونة. لولا أنّ ما قرأته في كتاب رفعت سلام الأخير (أرعي الشياه علي المياه) هو انتقال جديد بالشعر من الأشكال المذكورة إلي شكل الكتابة. وإذا كان هذا الشكل معروفاً نظرياً، وعلي نطاق محدود إبداعياً ويكاد ينحصر في كتاب أدونيس كونه كتاباً أرضياً وليس موحي من السماء. يقول أدونيس في معرض كتابه »النص القرآني وآفاق الكتابة»: »إنّ من البداهة لاستغلاقاً». وهذه البداهة يشرحها أدونيس بالقول: »إنّ القرآن »يدعونا، بدئياً، إلي الإفلات من قيد التصنيف النوعي للكتابة». و أن يكون القرآن عربياً، وموحي باللغة العربية، فهذا يعني أنه مقال بنظامها، وما إعجازه سوي خلق شكل جديد يضاف إلي أشكال هذا النظام، فلا هو بشعر ولا هو بنثر. وكان من البديهي أن يؤثّر هذا الكتاب المعجز في لغة العرب. بل وأن يصل أثره بعد مئات السنوات إلي أدونيس ليكتب كتابه حول القرآن، وليؤلّف بهديٍ منه. شكلاً من الكتابة غير النوعية، علي قدر موهبة أدونيس ومهارته الإنسانية، وعنوَنه باسم تملكي وحصري لمفهوم الكتابة هو »الكتاب». بهذا المعني لم يأت رفعت سلام بشكل جديد للكتابة، وإن كان في عنوان كتابه يذهب إلي ما قبل الإسلام وربما إلي ما قبل المسيح حسب ما تذكر الألواح المكتشفة لأسطورة المشي علي الماء. وفي الحقيقة ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب بعد ذلك هو محاولة التملك للإرث الشعري الإنساني كله كاقتباسات كاملة أو كإعادة إنتاج وتدوير للأساطير والشعر الأجنبي علي سبيل السخرية الما بعد حداثية تارةً وعلي سبيل التجاوز والمبالغة أو الإعلاء من شأن الذات بلاغياً تارة أخري. وقد يبدو هذا تخفّفاً من حمل الذاكرة الإبداعية ومشاغلها اللغوية علي الأقل لتكون الغلبة لرفعت سلام المترجم علي رفعت سلام الشاعر، وبقدر ما يكون القول كذلك فإنه موقف مقصود لذاته كإعادة اعتبار لما افتقده الشاعر من قداسة منذ مزامير داود أو من سلطوية منذ طموحات المتنبي. خطورة هذا الكتاب وأهميته كونه يبرهن علي فشل محاولة الاعتبار هذه ولاسيما من خلال عملية التجميع بين لحظة ثورية وتاريخ من الوعي الارتكاسي وأشكال من الكتابة البصرية المتداولة في الكتب الدينية والتراثية لإخراجها في منظور جديد. ولعبة الإخراج هذه سوف تشي من طرف واضح بهامشية الشاعر أو بانحسار دوره لصالح الكاتب البلاغي والمعدّ والمصمم الجرافيكي ليضاعف من مأساة الشعر وتبدّده علي جبهات متعدّدة في حرب الأنواع الأدبية وأشكالها. لولا أنّ الأمر قد لا يكون كذلك بإخراج التوصيف الشعري من هذا الكتاب علي الرغم من حضوره علي سبيل التضمين وهذا شيء لحظه بول شاوول عندما قارب مفهوم الكتابة من مفهوم المقامة، وقد تكون هذه المقاربة فظة، ولاسيما هنا، ولكنها توضح شيئاً ما. وهو أنّ رفعت سلام يتبني الوعي الأسطوري أو الديني فيما يحاول محاورته ويتبني هزيمة الشاعر فيما يحاول الانتصار له ويتبني الكتابة النثرية فيما يحاوله من تملكه من شعر. وهو في كلّ ذلك ينطلق من إرادة سيزيفية لا تخلو من متعة المحاولة بما يملك محاولها من قوة الأدوات ومهارة استخدامها في دحرجة القمم!.