محافظ القليوبية يزيل معرضي سيارات مخالفين على طريق مصر–إسكندرية الزراعي    روبوتات بملامح بشرية تخطف الأضواء في معرض جيتكس دبي    تجدد الاشتباكات الحدودية بين باكستان وأفغانستان    السعودية تتأهل لكأس العالم للمرة السابعة على حساب العراق    الأهلي: أبوابنا مفتوحة للنحاس في أي وقت    البطاقة 26.. السعودية تتعادل مع العراق وتتأهل لكأس العالم للمرة السابعة في تاريخها    إمام عاشور قد يغيب عن المشاركة مع الأهلي حتى يناير    مصرع شخصين في حادث انقلاب ملاكي بالبدرشين    ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي يكشف عن أعضاء اللجنة العليا لدورته الثامنة    سميح ساويرس: الاستثمار السياحي والعقاري لا يمكن فصلهما عن بعض    متحدث الري: التغيرات المناخية تؤثر بشكل واضح على قطاع المياه في كل العالم    فصل الكهرباء عن عدة قرى بالرياض في كفر الشيخ غدًا لمدة 5 ساعات    بعد ظهوره في مصر.. تقرير يكشف آخر تطورات إصابة عمر مرموش    أسامة كمال: قمة شرم الشيخ يوم هُزم فيه المشككون وكُسرت شوكة من راهنوا على فشل مصر    لاتفيا ضد إنجلترا.. هجوم نارى لمنتخب الأسود الثلاثة في تصفيات كأس العالم    ارتفاع عدد ضحايا حادث سقوط تروسيكل أسيوط إلى خمسة طلاب    السجن المشدد 3 سنوات ل متهم بحيازة أسلحة نارية في المنيا    أحرج مسؤولًا عربيًا وقال ل أردوغان «تحياتي لزوجتك».. 10 مواقف غريبة ل ترامب كسرت قواعد البروتوكول    باسم يوسف: أكل عيش أني أعارض دايمًا.. والشهرة وجعت دماغي    باسم يوسف: دعمي لفلسطين نابع من إحساسي الإنساني وارتباطي العائلي    زي بتاع زمان.. الطريقة الأصلية لعمل الفطير المشلتت    «مكنتش أعرف إنها مخالفة».. الراقصة «ليندا» في المحكمة غدًا بتهمة نشر فيديوهات خادشة    إنستجرام: حماية المراهقين بقصر مشاهداتهم على المحتوى بي جي-13    وزيرة البيئة ومستشار رئيس الجمهورية ومحافظ القاهرة يفتتحون أعمال تطوير حديقة المسلة التراثية    رئيس وزراء الكويت: قمة شرم الشيخ للسلام وضعت حدا لمعاناة الفلسطينيين في غزة    حجازي: قمة شرم الشيخ لحظة فخر لمصر وتجسيد لنجاح دبلوماسيتها    هل شراء شقة عبر البنك يُعد ربا؟.. أمين الفتوى يوضح    متى يكون سجود السهو قبل السلام؟.. أمين الفتوى يوضح حكم من نسي التشهد الأوسط    السفير صلاح حليمة: الاحتجاجات في مدغشقر تطورت إلى استيلاء على السلطة بحماية النخبة    الجامعة الأمريكية تنظم المؤتمر ال 19 للرابطة الأكاديمية الدولية للإعلام    سعر مواد البناء مساء اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    مدير مكتب تأهيل الخصوص في تزوير كروت ذوي الإعاقة: «طلعتها لناس مكنش ليهم محل إقامة عندي» (نص التحقيقات)    في هذا الموعد.. محمد فؤاد يستعد لإحياء حفل غنائي ضخم في بغداد    خبر في الجول - الزمالك يعتذر عن عدم المشاركة في البطولة العربية لسيدات الطائرة    محافظ كفرالشيخ يتفقد مستشفى قلين ويشدد على جودة الرعاية وحسن معاملة المرضى    استعدادات أمنية مشددة وقناصة على الأسطح قبل مواجهة إيطاليا وإسرائيل في التصفيات المؤهلة للمونديال    ورشة عمل لاتحاد مجالس الدولة والمحاكم العليا الإدارية الإفريقية    ميريهان حسين: «أصور فيلم جديد مع هاني سلامة.. واسمه الحارس»| خاص    أكرم حسنى ل اليوم السابع: ما حدث فى شرم الشيخ ينم أن لدينا قيادة حكيمة    مواصفة امتحان مادة الدين فى اختبارات الشهر للمرحلة الابتدائية    تناولت مادة مجهولة.. مصرع طالبة في الصعايدة بقنا    حماس: تحرير الأسرى إنجاز وطني ومحطة مضيئة في مسيرة نضالنا    عاهل الأردن يبحث تعزيز التعاون مع إيطاليا وهنغاريا وسلوفينيا خلال جولة أوروبية    زيادة ربع مليون نسمة في تعداد سكان مصر خلال 60 يومًا    موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2025 يبدأ يوم 23 الشهر الجاري    مكاسب مالية وحب جديد.. الأبراج الأكثر حظًا نهايات عام 2025    ب36 شخصية رفيعة.. قارة آسيا تتصدر الحاصلين على قلادة النيل    دار الإفتاء توضح حكم تنفيذ وصية الميت بقطع الرحم أو منع شخص من حضور الجنازة    جامعة جنوب الوادي تنظم ندوة حول "التنمر الإلكتروني"    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في الشرقية    محافظ البحيرة تتفقد عددًا من المشروعات الخدمية بقرية الأبعادية بدمنهور    وفد رفيع المستوى من مقاطعة جيانجشي الصينية يزور مجمع الأقصر الطبي الدولي    وكيل صحة المنيا يفاجئ وحدة أبو عزيز ويحيل طبيبة للتحقيق بسبب الغياب    طقس الإسكندرية اليوم.. انخفاض في درجات الحرارة وفرص ضعيفة لأمطار خفيفة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في محافظة الأقصر    إثيوبيا ترد على تصريحات الرئيس السيسي: مستعدون للانخراط في مفاوضات مسئولة    خالد الغندور: مصر زعيمة الأمة العربية ولها دور فعال فى إنهاء الحرب بغزة    «زي النهارده».. وفاة الشاعر والإعلامي واللغوي فاروق شوشة 14 أكتوبر 2016    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التلميذة والعبقري
السامية والنازية لقاء السحاب
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 08 - 2018

كانت توصف الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت بأنها »تلميذة هايدغر»‬، لكن الصفة الحقيقية التي ظلت طي الكتمان هي أنها كانت التلميذة العاشقة للأستاذ، وقد بادلها هو الآخر الحب، فتحرّر في مراسلاته لها من الصيغة الرسمية الآنسة حنّة، إلي عزيزتي حنّة، ومارتن الذي لك، وصولاً إلي محبوبتي. ليس ما يجمع حنة أرندت والفيلسوف الألماني هايدغر هو العشق أو الفلسفة فقط، بل يجمعهما أيضًا هو التحرّر من أباطيل السياسية.
فهايدغر الذي كان نازيًّا وارتقي بسبب هذه النازية إلي عمادة الجامعة، استطاع أن يتحرّر من نازيته التي جرّت علي العُزلة والوحدة وهجر الأصدقاء ومن أشهرهم كارل ياسبرز، أما هي فعلي الرغم من أنها مولودة لأبوين يهودييْن، وكانت من الداعمين الأوائل لتأسيس الدولة اليهودية، إلا أنها انقلبت علي أفكارها القديمة، وراحت تهاجم اليهودية وهو ما جرَّ عليها تبعات الاعتقال ثمّ الهروب إلي الولايات المتحدة الأمريكية، بل كان كتابها »‬إيخمان في القدس» واحدًا من الكتب التي عرَّت اليهودية والعُنف. يُقرُّ معظم دارسي حنّة أنّها الفيلسوفة الوحيدة التي تماهت حياتها مع مشروعها تطبيقًا وتمثيلاً.
الفيلسوفة الطريدة
ولدت حنّة أرندت في 15 أكتوبر 1906 في هانوفر بألمانيا، لأسرة يهودية تهتم بالأدب والمعرفة، فقدت والدها في مطلع حياتها حيث لم تكن تجاوزت عقدها الأوّل، وكذلك جدها القريب من نفسها. فعهد أمر تنشئتها للأم صاحبة الشخصية التقدميّة التي كان لها بالغ الأثر فيما صارت عليه حنة فيما بعد. لم ينفصل تكوينها الفكري عن التطورات السياسية التي شكّلت ألمانيا في ذلك الوقت، بما في ذلك الزمرة السبارتاكوسية للحزب الاشتراكي الديموقراطي، وقد صارت جماعة شيوعية ظهرت في ألمانيا عام 1918 بزعامة روزا لكسمبورغ المفكرة والمناضلة البولندية، درست حنة في جامعة ماربورغ، وكان تأثير هايدغر عليها واضحًا؛ في استعادتها الإرث اليوناني ولاسيما في أصول المفاهيم واشتقاقاتها ودلالاتها، وكذلك في تمجيدها لحياة اليونان. دخلت مع هايدغر في علاقة عاطفية وكانت وقتها في الثامنة عشر من عمرها. في عام 1929 لجأت إلي كارل ياسبرز لإنجاز رسالة الدكتوراه بعنوان، »‬مفهوم الحبّ عند سانت أوغسطين». يُمثّل عام 1933 نقطة التحول في حياة حنة، وهو ما دفعها إلي الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري البحت والتوجه إلي العمل السياسيّ بشكل عملي. وفي صيف عام 1933 اعتقلت المخابرات النازية حنة أرندت، ثم أطلقت سراحها فيما بعد، ثم نجحت هذه »‬اليهودية الألمانية المطاردة من قبل النازيين»، علي حد تعبيرها في الهروب من براثن النازية إلي باريس ثم إلي نيويورك بمساعدة أدورنو عام 1941، حيث عملت صحفية، ومراجعة لغوية ومحاضرة جامعية وبدأت عملها السياسي الحقيقي، فسعت لاستكشاف أصول الأنظمة الشمولية في كتابها الموسوعي »‬أصول الشمولية».
كارثة النازية
أما الطرف الثاني من حكاية العشق فهو مارتن هايدغر(1889- 1976) ولد جنوب ألمانيا، لعائلة كاثوليكيّة من »‬الغابة السوداء» درس في جامعة فرايبورغ تأثّر في البداية بأستاذه إدموند هوسرل صاحب مذهب »‬الفينومينولوجيا» »‬الظاهراتيّة»، ثمّ يكتب مؤلفه »‬الوجود والزمن» الذي حقّق له شهرة عالميّة واسعة وأتاح له تبوُّء مكانة رفيعة في مجال الفلسفة. لُقِّبَ ب »‬ملك الفلسفة المتوّج». لكن السقطة الحقيقية حدثت في عام 1933، عندما قبل مارتن هايدغر مقترح النازيين ليكون عميدًا لجامعة فرايبورغ، غير عابئ بالملاحقات التي كان يتعرّض لها الرافضون للنازيّة من المثقفين والمفكّرين وغيرهم، وقد تجلّي مشهد السقوط أثناء حفل تنصيبه عميدًا للجامعة، حيث ألقي خطابًا احتفي فيه بوصول النازيين إلي السُّلطة، وممجّدا الاشتراكية القوميّة مُعتبرًا إيّاها »‬ثوّرة» قادرة علي »‬إنقاذ ألمانيا من الأزمات التي كانت تتخبّط فيها» ثم أعقب هذا بمنشور وزّعه علي الطلبة قال فيه: »‬إن الفوهرر هو وحده الحقيقة والقانون في ألمانيا بالنسبة للحاضر والمستقبل». بينما هو كان يترقي في سلم الولاء للنازية، كانت المطاردات تتعقّب عشيقته فهربتْ إلي فرنسا، جمعت الفلسفة بينهما وفرقت النازية أواصر المحبة، فبينما هي طريدة المنافي فرنسا ثم أمريكا، التزم هو الصمت عن جرائم النازيّة، وعن »‬الهولوكست» الذي ذهب ضحيّته آلاف من اليهود. وانقطعت علاقته مع أستاذه إدموند هوسرل، وحذف الإهداء الذي خصّه به في كتابه “الوجود والزمن”، وبالمثل جمّد علاقته بصديقه كارل ياسبرز.
حورية الغابة
بدأت العلاقة العاطفية بين حنّة التلميذة والأستاذ العاشق في عام 1924، كان الدافع أولاً هو عطشُها الفلسفي لعلم الأستاذ، حيث كان رائجًا وقتها تعلّم الفكر الفلسفي. لم تَسِرْ العلاقة العاطفية بين العاشقين: التلميذة والأستاذ، علي خطّ واحد متصل، بل كان ثمة منعرجات وهو ما جعل العلاقة تأخذ طابعًا سريًّا إلي أن افتضح أمرهما عند زوجته الغيور، فطلب منها الانتقال إلي جامعة هايدبرغ حيث صديقه الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز، ومع الافتراق الشكلي ظلت الرسائل هي الرابط بينهما. كانت الرسائل تجمع بين تدفُّق العاطفة وهموم الفلسفة وإشكالات الفكر، وقد عبّرت له فيه إحداها عن استحالة الحياة دونه هكذا: »‬سأفقد حقي في الحياة لو فقدت حبي لك». انتهجت حنة في علاقتها كل الوسائل لتثيره ومن هذا كانت تتعمد الغياب، ثمّ ما تلبث أن تعود إلي ماربورغ كُلما طلب منها؛ فحورية الغابة »‬كما كان يُناديها» لا يمكنها أن تفارق »‬قرصان البحر» كما كانت تصفه. وقد ذهبت في إثارته إلي أبعد من الهروب والغياب، فاستخدمت أسلحة الأنثي فأخبرته بأنها تنوي الزواج من أحد تلامذته؛ غونتر شتيرن، لكن العجيب أنه لم يُحرك ساكنًا بل تمنّي لهما السّعادة، وهنا حدثت القطيعة الأطول؛ حيث افترقا لمدة سبع عشرة سنة تقريبًا، بعد أن حدث زلزال النازية، اعتقلت حنّة عام 1933 واحتجزت في مخيم للأبارتيد، غير أنها هربت وفرّتْ إلي أمريكا عام 1940 وتزوجت للمرة الثانية من هزيتشن برلوخر مناضل سابق في الحركة الألمانية الاشتراكية »‬سبارتكية»، كما التحقت بصفوف اليسار الأمريكي. أما هايدغر فكان نجمه يصعد في صفوف النازية.
كانت هذه المرحلة مرحلة تذبذب الأفكار حيث لم يبقَ شيء علي حاله، فعدلت حنّة عن موقفها، فبعد أن وضعت أرندت كل طاقتها وموهبتها في خدمة المنظمات اليهودية العاملة في نيويورك، التي أخذت علي عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا والعمل علي إقامة وطن لليهود علي أرض فلسطين التاريخية. عدلت عن أفكارها السابقة وانفصلت عن هذه المنظمات لاحقاً، وهو ما تبلوَّر بصورة أكثر وضوحًا في موقفها من”أدولف أيخمان” الجنرال النازي الذي نظّم وأدار الهولكست »‬المحرقة» ورفضها محاكمته أمام محكمة إسرائيلية بعد اختطافه من قبل الموساد، وهو ما ألَّب عليها النقد والهجوم والحملات الصهيونية، عندما سافرت إلي القدس لتغطية وقائع المحاكمة لحساب مجلة النيويوركر التي كانت تعمل مراسلة لها. وقد صدر في كتاب يحمل عنوان »‬أيخمان في القدس» وبعنوان فرعي »‬تقرير عن عادية الشّر». وبالمثل هو كان قد تحرّر من الأفكار النازية التي كان يعتنقها، وكان من آثار هذا أن فُصل عن الجامعة واعتزل الحياة وخسر الكثير من الأصدقاء من أشهرهم كارل ياسبرز.
الإلهيتان المتصارعتان
في 1949 رجعت حنّة مرة ثانية إلي ألمانيا، مع زوجها وكانت قد بلغت درجة قصوي من الحرية، وهو ما بدا في مقالاتها وكتابتها عمومًا حيث احتلّ سؤال الشر حيزًا كبيرًا منذ صعود الفاشية. وفي علاقتها بهايدغر كانت واقعة في حيرة من أمرها، كان يخامرها صراع علي مستوي الوعي الذي كان يرفض مقابلة هايدغر وعلي مستوي اللاوعي الذي كان يُفكِّر فيه، وهو ما جاء في رسالتها لزوجها، حيث بدت الحيرة واضحة وانقساماتها بين الانصياع للاوعي: »‬لا أعرف ماذا أفعل؟ إلا أنني أعتقد بأنني سأذهب لأراه». في نهاية الأمر استجابت لقلبها وأرسلت رسالة عبر عامل إلي الفندق تخبره بأنها موجودة في فرايبورغ، والتقيا، وبعد عتاب عادت الأمور إلي مجاريها، لكن هذه المرة التقي ثلاثتهم هايدغر وزوجته ألفريدا التي عاشت طيلة 25 عامًا، في جحيم بسبب هذه العلاقة. فكما ذكرت حنه في رسالة أرسلتها إلي زوجها »‬بأن اللقاء لم يكن سهلاً، ولا رومانسيًّا بل متشنجًا للغاية». في الحقيقة أن هايدغر لم يضع زوجته ألفريدا في مواجهة فقط مع حنّه، بل كان واقعًا في أحبولة النساء، أو بمعني أدق مغامرًا إيروتيكيًّا فعلاقاته متعدِّدة ولم تقتصر علي حنّة فقط، فهناك تلميذاته وزوجات أصدقائه، وهذا الشغف بالنساء فسره هو بالإيروس.
في ظلّ العلاقة المعقدة التي تجمع بين هايدغر وزوجته التي كانت هي الأخري تخونه، ومن ثم كان صمتها واستمرار البقاء وتغاضيها عن خياناته المتكرّرة لم يكن من مبدأ المرأة المثالية، وإنما بسبب الخيانات المتبادلة بينهما! فقد أنجبت زوجته ابنها الثاني من صديق شبابها فريدل سيزار وقد اعترفت هي أيضاً لهايدغر بالأمر. ومن ثم كانت الفرصة سانحة لكي يجعل العلاقة الثلاثية بينه وبين زوجته وعشيقته، تتجاوز السّرية إلي الرسميّة، فحدث الانسجام بين الأطراف المتصارعة، فكان يتم اللقاء أحيانًا في وجود الزوجة وأحيانًا أخري كما كان سابقًا خلسة. ومع هذا فالخلافات لم تخمد بعد، فكانت حنّة ساخطة علي ألفريدا وتصفها بأنها غير مثقفة وغير مبالية بمهنة زوجها. لكن الشيء الإيجابي أن هايدغر كان رافضًا التضحية بزوجته فهي قبلت أولاً منذ نزواته أن تكون »‬رئيسة حبيبات زوجها» وثانيًا كما أعلن لحنّة في رسالة إليها بتاريخ 3/1950: »‬إنني محتاج إلي حبّها، فقد تحمّلتْ في صمتٍ لسنوات طويلة، وبقيتْ مستعدة للتطوّر». لكن لم يكن معني هذا الاعتراف أنّه في حلٍّ من علاقته بحنة، بل علي العكس تمامًا أفصح لها بقوله: »‬إنني محتاج إلي حُبِّكِ، الذي احتفظتُ به في نبتته الأولي كَسرٍّ، وهذا ما جعله عميقًا». وإزاء هذه المعادلة الصعبة قبلت حنة واقع الأمر، لكن بعد فترة تحوّل إلي صيغة أكثر إيجابية في مسيرة هايدغر العلميّة.
الحب والفلاسفة
يري مترجم كتاب »‬رسائل حنّة أرندت ومارتن هايدغر» حميد لشهب، أنّ الحبَّ عندهما ليس دافعًا غريزيًّا، وإيروتيكيًّا عندهما فقط، لكنه ذو تأثير بنيوي في تفكيرهما فرسائلهما تكشف عن مفهوم للحب يُعطي معانيًّا كثيرة لها علاقة قوية بموقفه الفلسفي الأساسي: حب الآخرين، والحب كإرادة عارفة، والحب كحدث، وحب الكينونة، وأخيرًا الحبُّ كسماح بالكينونة. فهايدغر في محاضرة له عن أوغسطين والأفلاطونية المحدّثة، يري أن الحبَّ الذي نتقاسمه في العالم المعتاد هو مساعدة الآخر. فالحب الراعي عند هايدغر متطابق مع تذكار الكينونة، وبذلك يصبح التفكير والحب أشكالاً مختلفة لكون »‬الإنسان هو راعٍ الكينونة». وبهذا يكون تفكير هايدغر في الحب يعكس إجاباته المختلفة حول إشكالية معني الكينونة. أما أرندت فكانت تؤسّس مفهومًا للحبِّ من خلال بديهة »‬الحب كوجود بين البشر». وهو ما يعني أنها ترفض تقليص الحبّ إلي سعادة فردية ذاتيّة. فالحبُّ ليس إِحْسَاسًا إراديًّا بل حَدثًا، يمكن أن يقع لشخص ما. تصورات أرندت عن الحب قد تكون مشابهة لتصورات هايدغر علي المستوي الظاهر، فثمة توافق بينهما ففي أطروحتها الأولي عن أوغسطين اهتمت بمفهوم »‬حبّ الآخر» في معناه المسيحي. ومع اهتمام أرندت بمفهوم الحب كما هو عند هايدغر إلا أنها كان لديها تصوّر خاص عن الحب:»‬إن الحب من طبيعة غريبة عن العالم، ولهذا السبب، لا بسبب قِلَّتِهِ، فإنه ليس غير مُسيّس فقط، بل ضد السياسة، وقد يكون أقوي من كل القوي الضد السياسية» وتضيف بأن »‬الحب لا يهتم بما قد يكونه الشخص المحبوب، بمزاياه ومساوئه كما بنجاحاته...» وهو ما يدخل تصورها كما يقول حميد لشهب تحت دائرة »‬الحب من أجل الحب» بكل تجلياته الرُّوحيّة والوجدانيّة والنفسيّة والغريزيّة إلخ ... وهو ما أكّدته في إحدي رسائلها تعبيرًا عن هذا الحبّ الذي يَسري في داخلها: »‬علّمني هايدغر أن أري العالم وأفهمه ... لقد قادني إلي ذاتي نفسها» وفي حديث لصديقتها الحميمة الكاتبة ماري ميك كارثي أفصحتْ بوضوح : »‬إنني مدينة لهايدغر بكيف أنا وكما أنا، ومدينة له بكل شيء»
بعدما تشكّلت لجنة لمحاكمة هايدغر باعتباره »‬فيلسوفًا في خدمة النازيّة» قامت حنّة أرندت إلي جوار بعض من الفلاسفة والمفكرين كجان بول سارتر، وهربرت ماركوزي، وجان بوفيره بالدفاع عن هايدغر، وقد غضّوا الطرف عن الأخطاء السياسية التي ارتكبها في الفترة النازية، ففي نظرهم أن هايدغر كان منحازًا للنازية في إصدارها الأوّل المعروف باسم حزب العمّال الألماني »‬1919» الذي كان ينتهج القوميّة الإشتراكيّة. لكن أهم تأثير لحنّة، تمثّل في نشر وترجمة تراث هايدغر الفلسفي والفكري في الولايات المتحدة الأمريكية.
توفيت حنة في 12 أغسطس / أب 1975، وتلاها هايدغر في شهر مايو / أيار من العام اللاحق 1976. ظلت رسائلهما طي النسيان إلي أن تمكنت الباحثة إلزبييتا إتنغر، عام 1995، من مطالعة الرسائل السرية المتبادلة بين مارتين هايدغر وحنة آرندت أثناء انشغالها بكتابة كتاب عن الأخيرة. ثم قررت أن تنشر في العام نفسه كتابًا بالألمانية يحمل عنوان »‬حنة أرندت مارتين هايدغر: قصة». لكن الصورة التي رسمتها لهايدغر في الكتاب كانت سيئة للغاية، وهو ما حدا بابنه هيرمان، الوريث الشرعي والمتصرف الوحيد في الإرث الفكري لوالده، أن يضع هذه الرسائل في متناول الجمهور ليصحّح تلك الصّورة. وهي الرّسائل التي نقلتْ أجواء هذا الحبّ العاصف بين التلميذة والأستاذ العاشق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.