في رواية (بأي ذنب رحلت) للروائى المغربى والأنثروبولوجى المعروف الدكتور محمد المعزوز الصادرة عن المركز الثقافى للكتاب بالدار البيضاء 2018 عدد من السمات والقيم الجمالية البارزة، لعل أهمها ما تحمله الرواية من جرعات معرفية نابعة من حال التأمل والتدبر التى يمارسها الصوت السردى طوال الرواية سواء كان مجال اشتغال هذه التأملات على السياسة أو الفن سواء التشيكلى أو الموسيقى أو فيما قاربت من التحولات الاجتماعية وما قد يصيب الإنسان فى مرحلة تاريخية بعينها من الخمول والانهزام وطغيان الشعور بالخيبة. فهذا الجانب من الجماليات المعرفية مهم لأنه يجعل النص الروائى يتجاوز حدود الحكائية المغلقة إلى ما يقترب من الكتابة الفلسفية أو البحث القائم على النظرة التأملية والرصد الإنسانى والاجتماعى وتتبع الظواهر الجديدة أو الطارئة على البيئة الثقافية التى يتشكل منها عالم الرواية. ربما يمكن عبر هذه القيمة وحدها اكتشاف قدر ما يتسم به السرد من التشعب والتفرع الذى يوازى تشعب الحياة وتفرعها وهو الأقرب للواقعى والطبيعي؛ لأن الحكايات والقصص إنما هى ابنة سياق ثقافى شامل وخلفية اجتماعية مكتملة لابد أن تتضح فى عوالم هذه القصة ولا تأتى منفصلة عنها، ومن هنا يكون السرد فى الرواية متمثلا لمرحلة السرد ما بعد الكلاسيكية بتفاعله مع الفنون الأخرى البصرية والسمعية ومدّ خطاب الرواية بطاقات بحثية تسهم فى كسر رتابة الحكاية العادية وتصنع فى الفضاء السردى مواضع استراحة وتبطئة للإيقاع عبر هذه التأملات حتى يصبح المتلقى بعد مرحلة معينة على قدر من الاشتياق للرجوع مرة أخرى للخط الدرامى الذى تعتمده الرواية عمودا فقريا لها. مثلت قصة راحيل بغرابتها ومعاناتها وتشردها هيكلا يحمل السرد من بدايته إلي نهايته، وهي فى الوقت ذاته تعدّ - وفق طرح الرواية- نموذجاً متجذراً وممتداً بما يعنى أن الحال العامة من الانهزام وطغيان الشعور بالخيبة التى تطرحها الرواية إنما هى حال تتسم بالأبدية والتجدد أو ما يشبه التكرار والعود الأبدى كما فى التصور النيتشوي. فراحيل مسبوقة بأمها راشيل الفرنسية التى انتحرت وتركت زوجها وابنتها الطفلة الصغيرة بجوار شجرة ولوحة أخيرة اسمها لوحة القدر، ولعل التطابق فى الصيغة الوزنية للاسمين وما بينهما من جناس ناقص (راشيل راحيل) يؤكد هذا الامتداد للنموذج الإنسانى ذاته فى الزمن وأن معاناته أبدية، وبخاصة أن الروابط الروحية حاضرة كذلك متمثلة فى امتهان الفن، فالابنة موسيقية أقرب لمسحة صوفية، يمتزج فيها الأب والأم بأبعادهما المختلفة من فن وفلسفة وتصوف، لأن الأم رسامة لم تترك لابنتها إلا لوحة اختزلت كل رسائلها إليها وما استشعرت وتوقعت من سيرورة للقدر.
من حيث البنية الشكلية ثمة تعامل فنى جيد مع الزمن، إذا تبدأ الرواية من المنتصف بعد طلاق راحيل من خالد وتتحرك بعد ذلك عبر فضائها السردى فى الاتجاهين معا، نحو الماضى عبر الاسترجاع، والمستقبل عبر الحركة الطبيعية للزمن والتدافع الآنى المفاجئ أو الممتزج بغرابة الماضى وأسراره فكأن الخطان يتداخلان فى حال من الغرابة المشتركة ليكون الماضى غير مختلف كثيرا عن المستقبل أو يمكن قراءة الأخير عبر مرآة الأول، ولتتأكد هذه الحال من الامتداد والتكرار للمعاناة الإنسانية فى هذا الواقع الإنسانى المتضارب أو المتهدم سياسيا ولا يجد الإنسان فيه ملاذا غير الحب والفن؛ فالموسيقى على نحو خاص تبدو مجالا رحبا لاتساع تمردات الإنسان ورغبته فى التحليق بعيداً والانطلاق فى آفاق الحرية الأوسع. وهذه البنية الزمنية وترتيب الأحداث وفق نسق خاص يجعل الرواية بعد انكشاف السر للقارئ ومعرفة أصل راحيل وارتباطها بعبد الله يبقى على قدر كبير من التشويق تحت انتظار لحظة التقائها، أو مراقبة حركة الأب وابنته فى الزمن والأحداث المستقبلية المجهولة ليرى إن كانت هناك إمكانية لالتقائهما قبل موت الأب الذى يقدم خطاب الرواية إشارات على وهنه وقرب أجله، أم أن لقاءهما سيحول دونه الموت لتتعمق مأساة رحيل وانبتاتها عن الجذور حتى وإن أدركتها أو أصبحت عارفة بها تمام المعرفة. فتحت هذا الدافع يظل القارئ متحفزاً للاستمرار فى متابعة السرد ومتحفزاً لمعرفة بقية أحداث الرواية. تهيمن على الشخوص حال من الاغتراب عن الزمن والمكان الآنيين، فتبدو مدينة وجدة المغربية مسرح الأحداث منفصلة نفسيا عن خالد الذى يفتش فيها بشكل دائم عن لحظات الصبا والنضال والتدفق والحماس القديم الذى كان يعيشه فى فترة الستينيات وكان وقتها يهب وقته لمبادئه التى أخلص لها وأفقدته زوجته وحبيبته من ناحية أخرى دون أن يدرك السر. وهذا الإحساس ليس مقصوراً على خالد بل نلمسه كذلك لدى عبد الله الذى يشعر فى لحظة معينة أن بيوت القرية هى الأخرى تودعه أو عليها مناديل الحداد، بما يوحى بحال من الانفصال بين الإنسان والمكان بعدما تعمقت مأساته وتأكدت معاناته مع فقد زوجته وابنته اللتين هما رمز للأمل والأحلام الغاربة التى بدأ بها حياته متحمسا فى عالم الفكر والسياسة والعمل. ويشعر عبد الله فى بعض الأوقات أن الناس غرباء عنه كأنه ينفتح مرة واحدة على العالم بعدما اختار أن يجافيه ويهمله ويركز على داخله فقط فيهيمن عليه هذا الشعور بالغربة، والأمر ذاته مع الموسيقى التى تأتيه من الشوارع يسمعها الناس لا يشعر بأى قدر من الألفة معها. الرواية برغم هذا التشعب والتشظى الذى يعادل تشعب الحياة وتشظيها تبدو أقرب إلى بنية بوليسية تجعلها أكثر تشويقا وتدعم الرغبة فى التكملة والاستمرار فى القراءة لكشف جملة من الأسرار منها ما يرتبط باللوحة التى يتم توظيفها سيميولوجيا بقدر كبير من الثراء الذى ينتج قيما دلالية ترتبط بفكر الشخصيات وارتباطها بالفن وأن يكون الإنسان قادرا عبر الفن على إيداع رسائله ومقاربه الكلام غير المنطوق بداخله، وكذلك تنتج اللوحة قيمة شكلية عبر تمحورها بوصفها لغزا يشير نحو رسام غائب أو اتصالها بلوحة أخرى لدى الوالد فى مخبزه تراها الابنة وترتبط بها ولا تدرك سرها أو علاقتها باللوحة الأخرى التى تركتها الأم بجانب طفلتها. فتبدو الرواية فى أحد جوانبها ذات طابع بوليسى أو لها لغزها/سرها المركزى حول اختفاء الابنة وبحث الأب عنها أو بحثها هى عن أصلها وجذورها بعدما أخبرتها زينب مربيتها بالحقيقة قبل موتها مباشرة.
تمثل لغة الرواية حالة خاصة مفعمة بالاندفاع وتهيمن عليها الصور والاستعارات التى تبدو مدفوعة بطاقات شعورية كبيرة تضطر السارد لإنتاجها. فالصور البيانية والاستعارات أو الانزياحات التى تهيمن على لغة الرواية إنما هى نابعة فى الأساس من الحال الشعورية الثقيلة التى يحاول السرد تجسيدها، فهى لغة تحاول رصد الظاهر من سلوك الشخصيات إلى ما وراء هذا السلوك من شعور بالاغتراب وتجسيد الحركة الشعورية الداخلية والفكرية لهذه الشخصيات. والحقيقة أن لغة الرواية تتمثل مشاعر الشخوص من الداخل وبرغم أن السرد يأتى عبر الراوى العليم إلا أنه يكثف النظرة الداخلية ويبدو الرصد الداخلى أقرب إلى شعرية ذات طابع ملحمى انفعالى فى كثير من المواضع، فتبدو الشخصيات ممتزجة بالمكان وبالطبيعة ويتداخل المدرك بالحواس مع المضمر من مشاعر الشخصيات والقار فى وجدانها فتحاول اللغة الحفر عميقا نحو هذا المضمر، ليكون للسرد طاقات شعرية كبيرة. ولكون شخصيات الرواية هى من النخبة المشتغلة بالفكر والسياسة والفن والفلسفة فإن هذا جعل المجال متسعا أمام خطاب الرواية ليذهب بعيدا فى طرح عديد الرؤى والتصورات الفلسفية المرتبطة بالفن بشكل عام أو بكيمياء الحب أو الانجذاب أو علاقة الإنسان بالمكان وبالوطن بشكل خاص أو الحركات السياسية والنضال ضد الصهيونية وأثر هذا على النهضة بشكل عام فى الوطن العربى أو بعضها يرتبط بطرح رؤية فلسفية بشكل تلقائى وسريع عن اللغة والمعنى أو عن السياسة التى هى جسد فى نظر خالد المهموم بها مثلا، على أن هذا التصور للسياسة لهو ما يتماشى مع أحدث التصورات الفلسفية التى ترى أن كافة الأفكار الكبرى والكليات نابعة من الجسد أو أن لنواتج الجسدانية والإدراك الحسى أثر فى تكوينها بحسب طرح جورج ليكوف فى كتابه الضخم الفلسفة فى الجسد.
يمكن تلمس قدر التجديد فى سرد رواية (بأى ذنب رحلت) فى أكثر من مظهر لعل أبرز هذا التجديد هو ما فيها من تجليات التداخل بين الأنواع الأدبية والخطابات المختلفة، فخطاب الفلسفة يمتزج امتزاجاً واضحاً بالموسيقى بقراءة اللوحات والفن التشكيلى بالخطابات السياسية وغيرها الكثير، وفى الرواية كذلك من الناحية البنائية قدر من الإفادة من المسرح بوصفه جنساً أدبياً له طاقاته الخاصة، فثمة شكل من الحوارية والجدل الذهنى والتركيز بدرجة كبيرة على محدود من الشخوص هم مصادر الصوت وركيزة التنوع الإنسانى الذى قصد إليه محمد المعزوز فى روايته ليرصد كافة مظاهر التردى فى الحالة الراهنة من جوانب عدة. تمتزج راشيل الفرنسية بشكل إنسانى كامل ودون فواصل ثقافية واضحة مع الإنسانى المغربى بمواجعه العديدة وقلقه من الموت وتركيز نظرة هذا النموذج على ما بالحياة من الألم الذى يحيل هو الآخر على الموت، فيما تعد الأشكال المصنوعة والمصطنعة من محاولات فهم الإنسان للوجود مظاهر للتواطؤ والخديعة وأن غياب الفهم هو الأصل وهو الأقرب لجوهر هذا الوجود وحقيقته. وهو المعنى الذى يحيل إلى طبيعة الغموض والغرابة فى الوجود بشكل عام وفى عالم الرواية بشكل خاص فتبدو الحياة أشبه باللغز أو المتاهة اللامتناهية السراديب وممرات الضياع. بالعودة إلى الشكل الفنى للرواية مرة أخرى يتضح أن هناك نسقا من الإغفال لكل ما قد يبدو هامشيا من التفاصيل، فلا يأخذ من العلامات العادية أو التفاصيل الصغيرة مثل أسماء الأماكن أو الشخصيات الهامشية إلا ما يجعل هذه الحياة نابضة وحسب، لأنها قد تكون عاملا من عوامل التشتيت وتبعد عما يريد أن يركز عليه من المعانى والقضايا والأسئلة المهمة. فعلى سبيل التمثيل لا يركز كثيرا مع تفاصيل المنزل أو أشياء المكان أو الشخصيات العابرة لأنها تأخذ من الشخصيات الرئيسة التى يشكّل منها عالم الرواية ويستمد من تنوعها تنوع عالمها وتحديد أبعاده. على نحو ما نلمس هذا التنوع فى الرؤى فى هذا الحوار بين راشيل وعبد الله. »قال إنه لم يفهم شيئا من اللوحة، غير أنها لوحة تشكيل فقط. أجابته بأن الفهم مجرد صيغة للتصالح مع العالم والأشياء، أو توافق سلمى بين الذات والموضوع؛ لأن الفهم هو إيقاف لنزيف التوتر ما بين الشك واليقين. لما يحصل الفهم يتوقف البحث عن الأشياء ولا نرى فى العالم غير الجزء الواضح فيه. غالبا ما يقع الخلط بين الذى نريد أن نفهمه وبين الذى فهمناه«. الرواية ص234. ويعمد السرد إلى هذا الطابع من تسريد الحوار أى دمج ما تقوله الشخصيات فى لغة السرد وصوت خطاب الرواية نفسها، ليزيل الفجوة بين لغة الشخصيات فى كلامها وبين السرد، وهو ما دفع إليه قدر ما بحوار الشخصيات من العمق والجدية ومساحات التأمل والطابع العلمى والفلسفى الذى تلبس بكلام كثير منهم، لتكون الرواية فى مجملها نسيجاً واحداً من حيث كثافة اللغة وجديتها أو ثراء مفرداتها وتعبيراتها أو مصطلحاتها التى من بينها ما يبدو متخصصا إلى حد بعيد ولا يبدو هذا معيباً، ففى النهاية المباحث العلمية والتخصصات والفكر الجاد جزء من طبيعة الحياة ومن الطبيعى أن يكون حاضراً فى الرواية بشكل خاص مادامت أكثر الفنون تمثيلاً ومحاكاة للحياة.
يبدو عالم الرواية بشخصياته المحدودة، وهى قرابة ست شخصيات أشبه بعالم الحلم فيه تركيز على الداخل والوجدان ويتم عكس هذا الداخل عبر اللغة وبعض المشاهد ذات الطابع الاستعراضى أو المسرحى الذى يخضع تماما لحال من الانجذاب للماضى أو والحنين الدائم له. تبدو الشخصيات فى هذا العالم أقرب لشخصيات منومة تحركها بواعث خفية مثلما نجد لدى خالد الذى يصر على هجر راحيل وتطليقها بسبب رفضها لبيع اللوحة، والأكثر ارتباطاً بهذا الطابع الحلمى أو الحركة الناتجة عن أسباب خفية هو مشهد تحرك عبد الله وخروجه إلى الحياة مرة أخرى ولقائه مصادفة براحيل وكأن القدر ذاته الذى فرقهما هو الذى يحركه للقائها ويشده إليها عبر علامات منها الواضح مثل شبهها براشيل أو الخفى فيعثر على عنوان سكنها مصادفة. وهذه الغرابة كما ذكرت هى غرابة أقرب لغرابة مسرح العبث أو اللامعقول وهو ما يؤكد ما أشرت إليه من قبل إلى قدر ما بالرواية من تداخل الأنواع والاعتماد على روافد جمالية متنوعة ومحاولة التجريب وكسر قواعد النوع الروائى الجامدة.