الكتابة عن سيد البحراوي في لحظة الجرح والفقدان لن تكون سهلة بالنسبة لي، فقد ربطت بيننا صداقة متينة منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي قائمة بالأساس علي مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية ولقضايا التحرر لشعوب العالم وقائمة علي إعجابي بسلوكه، فالثقافة في أبرز تعريفاتها هي نمط التفكير وأسلوب الحياة والسلوك. لقد كان من المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد في زمن الرئيس السادات، وهو كغيره من المثقفين والمبدعين الذين عارضوا اتفاقية الصلح مع إسرائيل،وعارضوا بضراوة الملحق الثقافي للاتفاقية، وعبّروا عن مواقفهم سياسيا وإبداعيا، فعلي سبيل المثال كان لقصيدة أمل دنقل: لا تصالح صدي تجاوز المشهد الثقافي المصري الي الفضاء العربي. ونشط سيد البحراوي مع النشطاء في تجمّع أسس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية،وأصدرت اللجنة مجلّة تناهض التطبيع مع العدو بكل أشكاله. كان لسيد البحراوي موقف صلب من قضية التطبيع، وأشهد أنّ موقف المثقفين المصريين من قضية التطبيع قد خدم وشدّ أزر القضية الفلسطينية، وكان ولا يزال عنصرا وطنيا وثقافيا هاما يخدم كفاح الشعب الفلسطيني. عام 1994 مع تأسيس السلطة الفلسطينية عدت وعائلتي الي أرض الوطن بعد سنوات طويلة من العيش في المنافي والشتات وأقمت في رام الله. وفي زياراتي الي القاهرة كنت ألتقي بالمثقفين والأدباء من أصدقائي ومنهم سيد البحراوي،وكانت السياسة حاضرة في أحاديثنا. واذكر أن موضوع التطبيع بالذات كان حاضرا علي مائدة النقاش، لم يكن لسيد البحراوي اعتراض علي فكرة العودة للوطن، لكنّه كان يري أنّ زيارة المثقفين المصريين لفلسطين ( مناطق السلطة الفلسطينية )هو تطبيع، وكنت أري انّ زيارة مثقفين عرب إلي مناطق السلطة الفلسطينية هو دعم للثقافة الفلسطينية وكسر للحصار الإسرائيلي،لذا كان الموضوع نقطة خلاف بيننا. عام 1998 صدرت روايتي ( نهر يستحم في البحيرة) وهي حول تجربتي في العودة الي الوطن، وزيارتي الي قريتي سمخ الواقعة علي الشاطيء الجنوبي لبحيرة طبريا،وهي من القري التي هدمها الاحتلال عام 1948 وغيّر ملامحها، ولم تكن الرواية مذكرات، وإنما بنية روائية توافرت بها كل العناصر الفنية التي يمتلك ادارتها كاتب محترف. وقيل لي إنّ سيد البحراوي كتب عن الرواية في مجلّة أخبار الأدب في ذلك الوقت، لكنني لم استطع أن أحصل علي العدد الذي نشر فيه مقاله، ولم أعرف إن كان ما كتبه استحسانا أم استهجانا، ولم تسمح الظروف بعد ذلك بأن نلتقي. لم تكن سلطات الاحتلال تسمح بدخول الكتب التي تطبع في البلدان العربية إلي مناطق الحكم الذاتي ، ولذلك كانت هناك فجوة معرفية، وخلت المكتبات العامة ومكتبات الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة من الإصدارات الحديثة، والمراجع الضرورية، وشهدت تلك المرحلة أثناء عملي في وزارة الثقافة معركة مع سلطات الاحتلال كانت ساحتها الأساسية منظمة اليونسكو، واستطعنا بعد سنوات من الصراع العنيد إجبار سلطات الاحتلال علي السماح بإدخال الكتب، وتمكّنا من إقامة معرض فلسطين الدولي للكتاب في كل عام، وتمكّنا من الحصول علي دعم بالكتب من عدد من البلدان العربية، ومن وزارة الثقافة المصرية، وبالتحديد من المجلس الأعلي للثقافة، وأمينه العام آنذاك د. جابر عصفور. وأتيح لدور النشر المصرية المشاركة بمعرض فلسطين الدولي للكتاب، وأتيح أيضا لكبار الناشرين المصريين المشاركة والدخول الي الأراضي الفلسطينية من خلال تصاريح استصدرتها هيئة الشئون المدنية الفلسطينية المعنية بترتيب دخول ضيوف السلطة الفلسطينية دون أن يتقدموا بطلب تأشيرة من السفارات الإسرائيلية، ودون أن تختم جوازات سفرهم،والتصاريح بالطبع لا تخوّل حاملها دخول إسرائيل، ومن هؤلاء الناشرين كان الحاج مدبولي بحضوره المميّز وبجلبابه الفلاّحي، وقد حظي باستقبال ودود من قبل الجمهور ، واستقبال خاص من الرئيس عرفات. أقول ذلك لأنّ موضوع دخول المثقفين المصريين إلي مناطق السلطة الفلسطينية لا يزال موضوعا مطروحا للجدل، علما أنّنا ضد التطبيع بمعناه القبيح الذي يعني دخول المثقف العربي إلي إسرائيل وتلبية دعوات مؤسساتها والتواصل معها كما فعل سعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون حين لبي دعوة من جامعة تل ابيب عشيّة قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل، وكانت زيارة مدانة من الفلسطينيين قبل غيرهم، وشهدت المحاضرة مشادة كلامية بينه وبين الطلبة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، حيث اتهموه بالتطبيع والعمالة. وعودة الي الصديق الناقد والمبدع الكبير سيد البحراوي فقد عثرت علي أحد المواقع التي تعني بالكتاب وتعميم المعرفة علي كتابه : الأنواع النثرية في الأدب العربي المعاصر. وفوجئت بأنّ مقالته النقدية حول روايتي : نهر يستحم في البحيرة منشورة في الكتاب ضمن مجموعة من الدراسات شملت مراجعة ونقداً لعدد كبير من الروايات المصرية والعربية التي صدرت في فترة تعود لربع قرن مضي. ويمكن القول إنّ الكتاب هو بمثابة رصد لما جاءت به الروايات العربية من توجهات فنيّة وكتابات مهمّة علي مدي ربع قرن، وحسب تعبيره : أن تمسك بالملامح التي ميّزت الإنتاج النثري قي الأدب العربي المعاصر. وقدّم لكتابه بمقدمه فكرية نظرية عن نشأة الفن الروائي العربي، وارتباطه بالتراث، ونسجه في البديات علي نول التقليد للنموذج الغربي الاستعماري، ثمّ سعي أعمال جديدة عندما نضجت الرواية، وأصبح هناك الأعمال التي تنحو إلي السعي الواعي أو غير الواعي للخروج من التبعية الذهنية للنموذج الغربي، من واقعية نجيب محفوظ الي روايات تمثل التوجهات الجديدة في السرد ومن هؤلاء:الطيب صالح، محمد ديب،غسان كنفاني، أبو المعاطي أبو النجا، بهاء طاهر، جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، محمود الورداني، صنع الله إبراهيم، حيدر حيدر، إبراهيم عبد المجيد، ويحيي يخلف، وآخرون. قرأت مقالته عن روايتي، ووجدت الجواب الذي كنت أبحث عنه، عاد سيد البحراوي لي وعدت إليه، كما كتب، وكانت روايتي هي جسر الود، فقد بدأ روايته بالفقرة التالية: (منذ ثلاثة عشر عاما قرأت قصة ليحيي يخلف بعنوان »تلك المرأة الوردة» وكانت أول ما قرأت له.، ومنذ ذلك الحين وأنا أنتظر كتابته بشغف... تابعت روايات يحيي يخلف بعد ذلك، ولكن في جو من التوتر الذي شاب العلاقة بيني وبينه علي المستوي الفكري إزاء مواقفه من قضايا دارت بشأنها حادة بيننا ومنها موقف المثقفين المصريين من زيارة أراضي الحكم الذاتي، تلك القضايا التي تركت أثرا علي قراءتي لأعماله، حتي وقعت يدي أخيرا علي روايته : نهر يستحم في البحيرة، فأعادتني إلي يحيي يخلف وأعادته لي. أسعدني أنّ الرواية أوصلت له أفكاري من قضية السلام واتفاقيات أوسلو وقوّة الحياة في روح الشعب الفلسطيني من خلال السرد أكثر مما يوصله النقاش في لحظة ما بين المثقفين. التقت أفكارنا برفض الاستسلام، والتمسك بالحلم الحقيقي الذي ينفي الهزيمة، والانتصار للحياة والحقوق الكاملة غير المنقوصه. وأنهي سيدالبحراوي مقالته بالقول:( أليست هذه الرسالة التي عاني يحيي يخلف فنيّا وإنسانيا علي نحو ملحوظ لكي يصل إليها، والأهم أنّها جاءت مجسّدة علي نحو فني راقٍ، لتكون فيما أعتقد أجمل روايات يحيي يخلف). لقد كان سيد البحراوي يمتلك بطولة القيم، والعقل الإبداعي المتجدد، والقلب النبيل، والروح الجميلة. في العاشر من مايو الماضي جاءني طلب صداقة علي الفيس بوك مذهل. إنّه سيد البحراوي،التقي بي من خلال الرواية، وها نحن نلتقي علي صفحة تواصل اجتماعي. وأفرحني أنّه تواصل معي عندما عثر علي موقعي، لكنّها فرحة لم تكتمل فقد أحزنني عندما عرفت بعدها أنّه يعاني من مرض السرطان. أعدنا تجديد الصداقة، وتواصلنا وتبادلنا التحية والمحبة والتقدير، وشكرته علي مقاله عن روايتي: نهر يستحم في البحيرة، فرد قائلا : هي رواية جميلة مثل كل كتاباتك . ووعدته أن أزوره في أول زيارة قادمة الي القاهرة، فرحب بذلك بحرارة ( ما زلت احتفظ بهذه الرسائل). ثم انقطع فجأة تواصلنا، وبدأت أقرأ من عن علي صفحات التواصل عن حالته الحرجة، وكتبت علي صفحتي تمنياتي له بالشفاء وموفور الصحة. وكانت الصدمة عندما جاء نبأ وفاته. رحل سيد البحراوي، رحل المبدع والناقد، وصاحب المواقف والسلوك والبساطه والتسامح والتواضع والمحب والإنسان النزيه، فأحر التعازي والمواساة لعائلته ومحبيه وللحركة الثقافية المصرية والعربية والإنسانية. يرحل المبدع لكنّ إبداعه لا يرحل.