الماضى والحاضر والمستقبل 1951 دكان الحلاق دخلت دكان الحلاق بعد أن غبت عنه هذه المرة أكثر من شهر حتي طال شعر رأسي من الجانبين ومن القفا لدرجة ملحوظة. وكان محمد صبي الأسطي الحلاق هو الذي يعرف سر شعري واتجاه المقص بداخله حتي يعيده إلي حالته الطبيعية وجلست أنتظر دوري وأهش الذباب الذي تراكم عند باب الدكان بمجلة الصباح التي رماها إلي الصبي لأقتل بها الوقت وأخذت أقلبها في كسل لعلي أعثر فيها علي خبر مهم يذهب عني مضايقة الذباب ورائحة الزبائن. ووقع بصري علي هذه الجملة (مسابقة القصة) وقرأت تفاصيلها في غير اهتمام ودارت في رأسي فكرة الاشتراك في المسابقة ولكن قلت لنفسي أنت لست كاتبا أو قصاصا إنك رسام وفنان بالألوان والخطوط وطريقة تعبيرك هي الصورة لا الكتابة والكتابة لها خبازوها كما أن التصوير والرسم والموسيقي كل له مبدعه الذي تخصص فيه فمن العبث أن تحاول الكتابة وتضحك الناس عليك وأي كتابة ؟! إنها قصة وليست كتابة خطاب إلي صديق أو مذكرة بشأن طلب ترقية من وزارة المعارف فارم عنك هذه الفكرة ولا تزج بنفسك فيما لا يعنيك. وحينئذ انتهي زبون وجلس زبون آخر بعد أن عزم علي فقطع حبل تفكيري في موضوع المسابقة ولكن الأمر كان هينا فهذا زبون يريد تنظيف ذقنه فقط من شعرها الكثيف وعاودتني فكرة المسابقة وكتابة القصة فقلت لماذا لا يكون الإنسان كاتبا ورساما ولماذا لا يكون أكثر من ذلك موسيقيا مثلا أو شاعرا أو غيره ولماذا لا يجمع صفات معينة داخل نفسه، أليست كل الفنون مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعضها البعض؟ أليست منابع الإلهام الفني واحدة في كل الأشياء ؟ وهل الإنسان خلق وعليه ختم أحمر أو أزرق بنوع موهبته إذا كانت هناك موهبة ؟ فلماذا لا تحاول هذه المرة؟ وبفرض إنك أخفقت فماذا ستخسر ؟ لا شئ أما إذا كان لك حظ وأنت من الفائزين فسوف...... وعندئذ انتهي الزبون الثاني وجاء دوري. فقلب الصبي الوسادة وحرك المقعد ودخلت فيه ثم استدار وفرش الفوط حول رقبتي وجسدها فوق صدري وأخذت أنظر في المرآة إلي شكلي لعلي أجد فيه شيئا جديدا ولكن للأسف لم أجد شيئا. وكل مرة ينظر فيها الإنسان لا يجد شيئا جديدا ولكن من أين إذا هذا التغير الذي طرأ علينا منذ أن كنا أطفالا صغارا ننظر في المرآة حتي صارت لنا هذه الذقون وهذه التجاعيد. آه إنه الزمن الذي لا نحس به. فالذي لا ينظر في المرآة أبدا هو الذي لا يشعر بالزمن أما الذي ينظر دائما في المرآه فسوف لا يحس بالزمن لأن سحنته تتغير تغيرا بطيئا والتغير البطيء لا وجود له في الحالة النفسية عند الإنسان والحيوان ولكن له وجود في العقل وعند العلماء والتجار والمشتغلين بالسياسة. وقطع الصبي حبل تفكيري عندما سألني عن كمية الشعر التي أريد إزالتها فقلت له هذه مهنتك وأنت حر تصرف في رأسي كما شئت ولكن بشكل فني أليس هذا هو اختصاصك؟ وعاودتني فكرة المسابقة مرة أخري وكيف أنني كنت في هذه المرة أفكر في الحظ عندما أفوز في المسابقة وينشر اسمي وقصتي ويقرؤها آلاف الناس ويستمتعون بها ويتعجبون لها ليس هذا فقط وإنما حتما سأحصل علي فوائد مادية وعندئذ أستطيع أن أجمع هذا المبلغ وأضعه علي العشرين جنيها التي اقتصدتها في ثلاثة أعوام من مرتبي كمدرس بالفنون. إذن فهو مهر كامل أستطيع الزواج به وكنت في كل مرة أفكر فيها في الزواج تنتابني حمي شديدة من المهر وأتراجع حتي يعدلها المولي الكريم إذن فهي فرصتك فتقدم بالقصة. ودخل زبون جديد وقال نعيما مقدما فقلت أنعم الله عليكم يا سيدي. وجلس الزبون في ركن وتناول مجلة الصباح التي كنت قد وضعتها بجانبي وأخذ يقلبها وينظر إلي صورة الممثلة التي علي الغلاف. أه إنها جميله ولكن دمها ارد وألقي بالمجلة ثم أخذ يهش الذباب ويلعن الصبي لإهماله وعدم تنظيف الدكان بالماء (والفنيك) وانتهي الصبي من رأسي وأخذ يلطخ الصابون علي صدغي وذقني وسن الموس ويقلبه علي شريط من الجلد وعاودتني فكرة القصة وقلت لنفسي هذه المرة تشجع وأكتب قصتك. وأخذت أفكر أي قصة سأكتب لقد جاءت القصة وأخذت صور كثيرة من الحياة تمر أمام خاطري بعضها واقعي لدرجة الخيال وبعضها خيالي لدرجة الحقيقة. أأكتب عن الناس ونفوسهم وعلاقاتهم وطبائعهم أأكتب عن الحياة ومآسيها حلوها ومرها. هل يستطيع إنسان أن ينسي ما يدور داخل البيوت والمستشفيات والمصالح الحكومية. هل يقدر بطل أن يتحدي المدنية التي يعيش فيها ويفر إلي الصحراء لينجو من فوضي المواصلات. إن العالم يدور والحرب الباردة لا تبرد بين الكتلتين والدول الصغيرة تريد أن تحنو عليها وتدثرها حتي لا يصيبها هذا البرد أين العاطفة والإنسانية أين الرجولة والكرامة أين الديموقراطية الحقة أين الوعود أين... أين أين القصة. نعيما هكذا واستيقظت علي هذه الكلمة أنعم الله عليكم ودفعت له الحساب وذهبت إلي منزلي وأنا أفكر في القصة وتذكرت أنها لا بد أن تكون قصة وطنية ترمز إلي التضحية وإنكار الذات وفي هذه اللحظة ركبني شعور غريب أخذ يتسلل إلي سراديب نفسي وضحكت ولكن من داخل عظامي وشراييني ولو اجتمع علماء النفس من جميع بقاع الأرض ليفسروا هذا الشعور ومعني هذه الضحكة لباءوا جميعا بالفشل. ولكن الحقيقة هو أنني أحسست في تلك اللحظة معني الوطنية وإنكار الذات. أحسست هذا المعني ولكن من عمق وتجريد. أدركت أن الوطنية وإنكار الذات هما أن يكون الفرد إنسانا والإنسانية هي أن يحب الإنسان كل ما حوله من جماد ونبات وحيوان وإنسان. أدركت أن الإنسان خلق في هذا الوجود ليحب لا ليكره ويبغض وهذا الحب مقرون بالعمل والإخلاص من أجل الواحد من أجل الله سبحانه وتعالي.