نعيش في القاهرة لكننا لا نراها، نسير في طرقاتها لكننا لا نراقبها. نسلك طرقا وإذا أغلقت أو سدت لأي سبب، نبحث عن غيرها مسيرين في مدينة لاتمنح فرصا للاختيار، مدينة تجبرنا علي النظر فقط نحو موطئ أقدامنا. لهذا صّدرت مدونة "كايرو أوبزيرفر"إصدارها الورقي الأول ب"دعوة للمراقبة". »كايرو أوبزيرفر« مدونة تهتم بالقاهرة كفضاء عام مفتوح ترصد كل شيء فيها من منطلق أن المدينة هي جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية. لا مفر من أن نسير في طرقاتها وأرصفتها (لو وجدت) ونستخدم مواصلاتها العامة ونقود سيارة بها ونحتل ميادين أو حدائق بها (لو وجدت) ونعيش ونعمل في مبانيها. المدينة هي جزء من حياتنا اليومية وكل ما يحدث بها يؤثر علينا. تنطلق المطبوعة من سؤال عام وكبير هو لماذا تتخذ المدينة شكلا معينا؟ وتحاول عبر أوراقها القليلة "الممتعة" أن تجيب علي هذا السؤال، تقول في المقال الافتتاحي الذي كتبه محررها محمد الشاهد أن الشكل الذي تتخذه المدينة لا يتأثر بعوامل الطبيعة فحسب وإنما بالقرارات التي يتخذها البشر. كل شيء تراه حولك في المدينة، كل مبني وكل شارع وكل ميدان، يوجد بشكل ما لأن شخصا ما قد اختار هذا الشكل. وعلينا نحن، سكان المدينة، لو أردنا أن نمسك بزمام حياتنا، أن تكون لنا كلمة في تلك القرارات البالغة التأثير. ولكي تكون لنا كلمة لابد أن نراقب الأمور عن كثب ونفكر في كل ما يجري حولنا. وعليه فإن "كايرو أوبزيرفر" لا تؤمن بأن الجوانب الفنية والمعمارية في حياتنا يجب أن تترك في يد الفنانين والمعماريين فحسب، فكلنا يهتم بالسياسة وحقوق الإنسان، وعلينا أيضا أن نهتم بشكل المدينة وطبيعتها. فشكل المدينة لا يتأثر فقط بالسياسة، بل هو السياسة ذاتها، فكل قرار يتخذ بشأن المدينة وأسلوب إدارتها هو قرار سياسي في المقام الأول. المدن هي المرآة التي تري من خلالها وجه المجتمع الذي تعيش فيه، وما تسعي إليه المطبوعة: استعادة اهتمام المواطن العادي بالمدينة وما يجري بها. يكتب الشاهد ذلك وهو مؤمن بأن القاهرة ليس لها نظير، فهي من وجهة نظرة واحدة من أكثر مدن العالم قيمة وتنوعا. وما يجعل القاهرة مكانا متميزا هو تلك الأشياء التي توجد بها بالفعل، وليس تلك الأشياء التي نقوم باستيرادها من أماكن أخري، سواء كانت باريس أو دبي أوكاليفورنيا. القاهرة هي مدينة عظيمة بسبب تنوعها العمراني والمباني التي توجد بها حاليا، ولا يجب أن نضحي بتراث تلك المدينة لكي نجعلها نسخة مكررة من مناطق أخري في العالم. ورغم ذلك يكتب الشاهد نفسه في مقاله الذي يحمل عنوان "باريس لم تكن أبدا علي ضفاف النيل" أن هناك كما هائلا من الكتب والمقالات التي تؤكد علي فكرة أن قاهرة القرن التاسع عشر ليست أكثر من محاولة لتقليد باريس أو نسخة باهتة منها. لقد بنيت مبانيها "علي عجل" وكان بعضها "ضعيف البنية" كما يؤكد الكثيرون ممن وصفوا قاهرة الخديو إسماعيل." والحقيقة هي أن باريس لم تكن أبدا علي ضفاف النيل، ولم تكن قاهرة القرن التاسع عشر تشارك باريس في أهدافها وتصميماتها أو حتي في روحها الاجتماعية والسياسية، ولا كان من المطلوب أن تقوم القاهرة بمنافسة باريس. يفند الشاهد رؤيته بمجموعة من النقاط ربما أهمها أن العلاقة بين المدينة التاريخية والتوسعات التي تمت في القرن التاسع عشر تختلف بشكل جذري في باريس عنها في القاهرة. في باريس، تمت إزالة المدينة القديمة بشكل كامل باستثناء عدد قليل جدا من المباني الأثرية التي تركت للذكري. وفي القاهرة، ظلت المدينة القديمة علي حالها بينما أضيفت بعض الشوارع الحديثة عن طريق عمليات جراحية محدودة في صميم الكتلة العمرانية. ولا يجب أن ننسي أن شارع كلوت بك وشارع محمد علي وغيرها من الشوارع التي تم إدخالها في نسيج المدينة القائمة ظهرت ببطء وتم إنجازها علي فترات طويلة امتدت 40 عاما في بعض الأحيان. ويلاحظ أن تلك الشوارع تم إنشاؤها وفقا لسياسات عمرانية بدأت مع قوانين "النظام" التي أصدرها محمد علي بهدف التحديث العمراني، وبهذا المعني يكون الخديو إسماعيل قد نفذ سياسات كانت موجودة من قبله ولم يخترع أفكاره في التوسع العمراني من العدم. يقول أيضا إن الخطة العمرانية التي أعدها هوسمان لنابوليون الثالث كانت تستهدف مساعدة الجيش الفرنسي علي الحركة في شوارع واسعة في حالة ما لو قام الفرنسيون بثورة أخري. ذلك البعد السياسي الواضح في تصميم باريس لم يخطر علي ذهن مخططي القاهرة. نابوليون الثالث كان يقود نظاما سلطويا يستخدم شكل المدينة كأداة لدفع المجتمع تجاه الطريق الرأسمالي في الحياة، حيث يسود نمط معين من الملابس ونمط معين من السلوك ونمط معين من الاستهلاك يؤكد عليه شكل المدينة ذاتها. تلك الميول السلطوية لم يكن لها مكان في قاهرة الخديوي اسماعيل التي كان يمكن فيها للجمال والمعيز أن تتجول بحرية في طرقات المناطق الجديدة وكانت الحياة التجارية تستمر في المدينة بشكلها المعتاد مع اضافة المحلات الكبري التي تناسب حركة التطور الدولية (والتي لا تمحو العلاقات التجارية والأجتماعية الأقدم عنها). بالنسبة لعلي مبارك واسماعيل لم يكن تطوير باريس أكثر من محاولة لحل المشاكل التي كانت قائمة في مدن كثيرة في العام: المساحات غير الصحية، الازدحام، مشاكل الصرف الصحي، قلة المساحات العامة، إلخ. الخطأ الأساسي في فكرة "باريس علي ضفاف النيل" من وجهة نظر الشاهد هو الاعتقاد بأن المدينتين (القاهرة وباريس) توجدان في فراغ. أولئك الذين يؤمنون بتلك العبارة أيضا يتناسون مثلا علاقة القاهرة بمدينة عظيمة أخري، هي إسطنبول. الواقع أن هناك الكثير من المدن في العالم التي مرت بتحولات متشابهة لأسباب متنوعة وقامت فيها نظم مختلفة نقل نماذج عمرانية معينة بمختلف الأساليب. كل من فيينا وبرلين ومكسيكو سيتي (الكولونيالية) وبوينس آيرس قد جربت حظها مع نماذج التحديث العمراني وقيل لاحقا إنها اتبعت فكر "هوسمان". تلك المدن وغيرها تطورت بتأثير التغيرات المعاصرة في عالم تتزايد فيه الروابط. وهناك مدن أخري مثل تورينو (الحرب) وبرشلونة (التوسع) وسان بطرسبرج (الامبريالية) مرت أيضا بتجارب عمرانية وصفت بعد ذلك بأنها باريسية. إن هيمنة باريس علي صفة "المدينة الحديثة" هي فكرة سياسية نبعت من أوهام السيطرة الامبريالية والثقافية التي حان الوقت للتخلص منها. يخلص المحرر في النهاية إلي نتيجته النهائية ألا وهي أن القاهرة هي القاهرة مهما حدث أو يحدث. ما يصنع مدينة ليس هو المباني وشكل الطرقات، ولكن الناس الذين يبنون ويعملون ويعيشون ويتنقلون بها، وسكان القاهرة سوف يظلون دائما قاهريين وليسوا باريسيين. نعم لا تبدو قاهرة القرن التاسع عشر مثل بقية أماكن المدينة التي بنيت قبل ذلك بقرون. وبالطبع كان مخططو القاهرة علي علم بما يحدث في باريس وغيرها من مدن العالم. ولكن افتراض أن وسط البلد أو القاهرة الخديوية هي أقل مصرية من بقية المدينة هو افتراض غير حقيقي وقد أدي ربما إلي إهمالها. أين نرسم الخط الفاصل؟ هل المعمار المملوكي أكثر مصرية عن العثماني أو حتي عن الخليط الانتقائي لوسط البلد؟ عبقرية مصر هي أنها لا تحتاج لأن تختار حقبة معينة من الماضي لتمثلها. قاهرة القرن التاسع عشر هي مصرية مثل في ذلك مثل أي منطقة اخري من المدينة ويجب أن تتم حمايتها. باريس لم تكن أبدا علي ضفاف النيل، ونحمد الله علي ذلك. أغلب المقالات التي تتضمنها المطبوعة تركز علي فكرة التنوع والاختلاف في القاهرة فمثلا يري ماكس رودينبيك أن القاهرة حازت المراكز الأولي في مستوي الضجيج "أنا مستعد لدفع معاش قائد في الجيش أو ما يوازيه لمن يعثر علي مكان آخر يتفوق علي القاهرة في الضجيج الصادر عن كل متر وشبر بها". يراقب رودينبيك السيارات وميكرفونات المساجد وحتي الأصوات العادية "عندما يتبادل الناس النكات فهم لا يضحكون أو حتي يقهقهون فحسب، بل يطلقون العنان لحناجرهم علي الغارب، وليس هذا نتاجا لحالتهم الصحية والمزاجية فحسب، ولكنه يعود أيضا إلي وفرة الأشياء التي يمكنهم السخرية منها إلي ما شاء الله". في حين يراها عبد الرحمن الطلياوي من منظور مختلف يسأل: "الأرصفة والشوارع، ملك من؟" ويكتشف من خلال حوار مع سايس أنها ليست ملكا "للشعب" كما نتصور بل هي ملك "للمحافظة" التي تنيب الحي في إدارة الشوارع، والتي تؤجرها بدورها لبعض الأشخاص بعقود إيجار ليعود الريع مرة أخري للمحافظة للتصرف به، حتي يصل إلي نتيجة نهائية مفادها أن السياسات الحكومية أدت إلي خصخصة أرصفة الشوارع لأفراد لكي يشاركوها الانتفاع، وأدت إلي زيادة اغتراب المواطن في المدينة التي يفترض أنه يملك شوارعها ويدفع من ضرائبه لصيانتها وخلق نظام بها، فتحول المواطن في علاقته بمرافق المدينة من أن يكون مالكا لخدمة عامة يديرها الحي، إلي مستأجر لخدمة خاصة يملكها الحي، ويفوض الآخرين للانتفاع بها-بالمشاركة معه! دروس العمران المصري متعددة تورد المجلة منها نموذجين فقط هما شارع المعز وجامع السلطان حسن، في الأول يوضح فريدريك ديكناتيل فداحة الجرم الذي ارتكب فيما قيل عنه "إعادة إحياء الشارع التاريخي" يقول إن الأرقام النهائية لتكلفة المشروع مبهمة "كما هو الحال في المشروعات التي تتولاها البيروقراطية المصرية" ولكن الرقم الشائع هو أن ميزانية مشروع القاهرة التاريخية بلغت أكثر من 850 مليون جنيه "تم إنفاق أكثرها علي المباني التاريخية في شارع المعز وبعض أعمال التجميل الخالية من المعني في محلات شارع المعز الحديثة". يري فريدريك أن المشروع كان هو المحطة الأولي في مسار الرؤية الاستعلائية للقاهرة التي تود تحويل الأحياء القديمة للمدينة بما فيها من ورش وحرفيين تقليديين وغير تقليديين يعيشون بين مساجد القرون الوسطي والمقابر والقصور المنسية إلي مجرد "متحف مفتوح" خال من المرور ومن الباعة الذين يفاصلون علي الأسعار. يورد كاتب المقال جملة من افتتاحية الوزير فاروق حسني في كتاب "الشارع الأعظم" يقول فيها "لكي نستعيد الحيوية إلي هذا الطريق علينا أن نقوم بإحياء أصالته" ثم يتساءل فريدريك ماهي فكرة النظام عن الأصالة؟ هل هي أن تتاح لوزير الثقافة الفرصة كي يستضيف أمسيات وحفلات الصفوة في مجموعة قلاوون بعد تجديدها؟ هل هي أن تتحول كل وكالة يتم ترميمها إلي مركز ثقافي يظل خاويا معظم الوقت؟ ويخلص في النهاية إلي أنه تم إخلاء المحلات التجارية الواقعة في القسم الشمالي من المعز، بقرب مسجد الحاكم وباب الفتوح، من أسواق البصل والليمون العامرة بالنشاط لكي تحل مكانها محلات الشيشة "مدينة العصور الوسطي تحولت إلي سوق للشيشة"!! النموذج الثاني الذي نشرته المجلة في الصفحة المقابلة للمعز هو مسجد السلطان حسن والرفاعي ربما للتأكيد علي فداحة الجرم المرتكب في المعز خاصة ان كاتب المقال يورد في نهايته جملة لامعة ذات دلالة حين يقول "لا تجد في الرفاعي أي نقص في المعرفة بشأن التراث الثقافي المتراكم للقاهرة. ولا تجد به أي أزمة هوية معمارية. المبني لا يحاول أن يكون شيئا بخلاف نفسه أو أن يستورد شيئا لا يمت إليه بصلة. وإنما علي العكس تجد في الرفاعي فهما كاملا لتاريخ القاهرة المعمارية واهتماما عميقا بدور التراث في بناء صرح جديد. لم يترك بناة هذا المسجد أنفسهم يقعون أسري التاريخ ولا حاولوا أن يعيدوا نسخ أو بناء ما يعتبرونه "أصلي" بدون الإسهام الخلاق فيه. وإنما علي العكس، نجحوا في تحقيق التوازن بين الإبداع والبيئة المحيطة". "من ينقذ أرشيفات مصر؟" أحد أهم مقالات المجلة يكتب حسين عمر محاولا إيجاد إجابة علي سؤاله فيقول إن سيطرة أمن الدولة أوقع الأرشيف القومي في قبضة السلطات الرسمية. فأجهزة أمن الدولة (والتي أطلق عليها لاحقا الأمن القومي) هي الآمر الناهي في القرارات الخاصة بإتاحة مواد الأرشيف. وبسبب القيود التي فرضتها الدولة، وأيضا الاحتياطات التي اتخذها المثقفون، وصل تداول المواد الأرشيفية إلي طريق مسدود. وباستثناء قلة قليلة من المتفائلين، لم يعد هناك من يثق بقدرة الدولة علي القيام بدور الوصي علي تراث الشعب (وبالذات التراث الحديث). وفي المقابل قام الجيل الجديد من الباحثين، بمحاولة للالتفاف حول القيود التي يضعها "حراس التاريخ المصري" بالتركيز ليس علي شئون الدولة ولكن علي أحوال المواطنين. والملاحظ أن أهم الأعمال التي كتبت مؤخرا في الغرب بشأن تاريخ مصر ارتكزت بشكل رئيسي علي المطبوعات الدورية أو المواد المتوافرة في معاهد الأبحاث الأوربية والأمريكية أو في المجموعات الخاصة. يضرب الكاتب مثلا بالعاصفة التي أثيرت بعد محاولة بيع أرشيفات نجيب محفوظ يقول إنها أوضحت مدي عجز الدولة عن حماية تراثها "الحديث" إذا كانت تنظر له علي أنه تراث من الأساس- ومع أن دار مزادات "سوثبي" قد ألغي عملية البيع فما زال كثير من المصريين ذوي الإحساس الوطني يشعرون بالضيق الشديد. لقد أثارت الصحف المصرية تساؤلات حول الكيفية التي تمت بها بيع مسودات الروائي المصري الحائز علي جائزة نوبل إلي دار مزادات عالمي ولماذا لم تتدخل الدولة لحماية تلك الوثائق. ومع هذا فإن تلك الأزمة تطرح تساؤلا أهم بخصوص طريقة التعامل مع الأوراق الخاصة للشخصيات المصرية العامة، فمؤخرا توفي الروائي إبراهيم أصلان، مخلفا وراءه أوراقا وكتابات غير منشورة. كيف يمكن لورثته، لو شاءوا، أن يضعوا تلك المواد تحت تصرف الباحثين والمهتمين؟ المسألة كما هو واضح- ليست عمرانية فقط فكما يقول محرر المجلة في تقديمه ففي الخمسين سنة الماضية، فشلت الدولة في الحفاظ علي طابع القاهرة المعماري وفشلت أيضا في التخطيط لنمو المدينة بشكل لائق. وبالتالي فقد أضاعت علي المواطنين فرصة السكني في مدينة جميلة وصالحة للحياة. وللعلم فإن الكثير من السياسات المسيئة التي تمت كان من الممكن تفاديها لو كانت الحقائق قد وصلت إلي الناس ولو كانوا قالوا رأيهم في القرارات الخاصة بتطوير مدينتهم. لذا فإن حماية المدينة والدفاع عن طريقة تطويرها هو أمر يخص سكان القاهرة أنفسهم ولا يجب أن يترك في يد وزارة الثقافة أو المجلس الأعلي للآثار أو وزارة الاستثمار. يجب علي سكان القاهرة أن يفتحوا أعينهم ليروا امكانيات القاهرة غير المحدودة ويجب أن يأخذوا المبادرة بشأن ماضي مدينتهم وحاضرها ومستقبلها. مشكلة يلخصها الشاهد في جملة واحدة من مقاله " بداية جديدة للسياحة المصرية" حين يقول " في عهد مبارك، كانت الحكومة تعامل القاهرة وكأنها شخص من عائلتنا نفضل أن ننساه، شخص نتجاهل وجوده ولا نقدمه لأصدقائنا" وهي جملة صادمة لكنها صحيحة وصادقة تماما.