العدو النبيل هو من يلتزم الصمت عند ذكر اسم عدوه، فلا يمدحه مشدودا لدفع المتوقع الجاهز لدي الآخرين بينما يشتعل صدره غيظا وحقدا وبغضا للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا مقولة جميلة وردت في روايته البديعة (ساعي بريد نيرودا) التي أصدرها سنة 1985 بعنوان الصدر الحارق، وغير عنوانها بعد ذلك، يقول فيها إذا أردت أنت تصبح شاعرا فابدأ بالتفكير ماشيا، وقد لمست هذه الجملة روحي، ليس رغبة في أن أصبح شاعرا، وإنما لأنها جاءت معبرة عما أحس به، وأقوم بفعله من صغري، فكثيرا ما كنت أقوم بذلك الأمر، أحدث نفسي ماشيا بصوت داخلي صامت، وغالبا ما كان يظهر أثر ذلك في قطرات عرق واضحة علي الوجه والجبهة نتيجة لانفتاح الذاكرة من منعطفات وأودية مختلفة، ونتيجة لمقاربة أي أمر من الأمور علي وجوهه المختلفة والنتائج المترتبة علي تلك الوجوه العديدة، ولكن في الفترة الأخيرة في بداية الصيف لم يعد ذلك الأمر ممكنا نظرا لارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، فأصبحت مغرما بركوب أتوبيس النقل العام ذهابا وعودة، لأناقش مسارات حياتي، وأناقش أموري مع ذاتي بشكل صامت، مراقبا هواء النافذة المنعش الذي يهدهد أثر الحرارة المرتفعة. صناعة النموذج الإثنين: شاهدت حفلة مسجلة للفنانة شيرين عبدالوهاب، وتأكدت من خلال الصوت والأداء أن لدينا فنانة مصرية قديرة، فهي تشكل ومعها بعض المطربين من أجيال سابقة مثل علي الحجار صاحب الصوت الرخيم الشجي، وأنغام، الماسة المصرية المتألقة البقية الباقية التي تكفل للأصوات المصرية التميز والتواجد اللافت. ولكني تساءلت لماذا لم يعد المصريون يتقنون فن صناعة النموذج الرائد في مجالات عديدة علي الرغم من توافر هذه الأسماء في مجالات متنوعة كما كانوا يتقنون ذلك الفن في النصف الأول من القرن العشرين، ففي تلك الفترة كان لدينا العقاد وطه حسين وأم كلثوم وآخرون بالضرورة، فماذا تغير في المصريين إذا كانت لدينا تلك النواة المميزة، ولماذا لم نعد قادرين علي تصدير هذا النموذج وصناعته قبل تصديره، ونجعله النموذج الأكمل أو الأقرب للكمال القادر علي التأثير؟ ربما يكون هناك نقص في الذكاء في بعض الأسماء، وخلل في ردود الأفعال في بعض المواقف، وربما يكون هناك اشتغال في استيلاء مراكز أخري فاعلة في بلدان عديدة لصناعة النموذج، ولكن هذين السببين موجودان من زمن طويل، ولم يعد أمامنا غير هذا التفسير الذي يشير إلي عجز عن الاستمرار في فن صناعة النموذج، آمل أن تكون هناك دراسات جادة حول هذا الأمر في كل المجالات، وأن نعيد ونراجع ونبحث عن تفسير لغياب هذا الدور الحيوي، الذي ظل ملازما للمصريين في فترات سابقة. همهمات لم نسمعها! الثلاثاء: لم أقابله مطلقا ولكن قراءة أعماله ومؤلفاته رسمت للرجل صورة خاصة في مخيلتي، صورة تكشف عن الجدية والرغبة في العمل المستمر. فوز عبدالحكيم راضي بجائزة الدولة التقديرية إنصاف للجائزة، فالرجل يمثل تاريخا طويلا من العمل الجاد والمثابرة في الدرس الأدبي والأكاديمي، وحين أعلن فوزه بالجائزة لم نسمع همهمة أو استنكارا، تلك الهمهمة التي تعودنا عليها بعد أن يفوز بها أناس لا يجيدون سوي السعي والقدرة علي المطاوعة والتغير السريع والدائم والجاهز وفق منطلقات اللحظة الراهنة، أناس يمثلون حضورا باهتا لا يخلو من لزوجة واضحة، فوز عبدالحكيم راضي بالتقديرية عودة للإنصاف، لأنها صادفت مستحقا لها، ورفع من قيمة الجائزة الروحية، لأنها صادفت نبيلا، وما أكثر النبلاء الذين يستحقون الجائزة، ولكنهم تعودوا علي الإباء، وعدم الانزلاق إلي طريق يعرفه الجميع، ويرون الذين يسيرون فيه ويبتسمون، ويشعرون بالألم النفسي لقدرة هؤلاء علي الحركة الدائبة واللهاث، أتمني أن تصادف الجائزة في السنوات القادمة بعضا من مستحقيها مثل محمد فتوح أحمد وسليمان العطار ومحمد حسن عبدالله. أبي.. بطلا أسطوريا! الأربعاء: ما الذي يجمعني بأبي؟ الشبه في الوجه والطبع ورنة الصوت، دائما أكون مزدانا بالشوق في طريقي إليه تسبقني خطاي في كل عطلة أعود فيها إلي قريتي، لكن بمجرد وصولي وتقبيل يديه أشعر أن هذا الشعور قد خبا، ولم يعد له أثر، وتحيرت كثيرا في عدم قدرتي في التعبير عن حبي له وشوقي إليه بمجرد رؤيتي واطمئناني إلي أنه ما زال هناك في مجلسه. هل هي المهابة التي صنعتها السنوات؟ أم هي الرهبة التي لازمتني تجاهه منذ الصغر. في كل مرة أراه أتذكر مواقفه، وكيف كان دائما ذلك النموذج الذي كنت في طفولتي أراه بطلا أسطوريا، لن يطاله الوهن أو تؤثر فيه السنوات. ثم تغيرت الصورة تدريجيا، وأصبحت أراه إنسانا، فقط أراه إنسانا يحب الناس جميعا ليس لديه قدرة علي الشر، أدرك سريعا بتجربته الخاصة متي يكون جادا، ومتي يكون حانيا، وكنت أظن تلك الجدية نوعا من القسوة، ولكنه في كل الأحوال لم يرفض لي طلبا مطلقا، وهذا جعلني أعاين تجاربي بمعرفتي الخاصة النامية، وأصبحت مع تقدم العمر وبشوقي المكبوت، وتبدل الأدوار شبيها به في الشكل والوجه ورنة الصوت. تصورات جاهزة صباح الجمعة: من أين يأتي أصحاب الانتماءات الأيديولوجية الدينية بهذا اليقين الحاد في تصنيف البشر؟ أغلب الظن أن هذا اليقين الحاد تولد لديهم وقر في أذهانهم حتي صار عقيدة نتيجة لفكرة التراتب التي يضعونها وفق تصورات جاهزة في مدي الاقتراب من الله الذي أصبح وفق هذا التصور قريبا منهم، فهم يتخيلون أن التزامهم الديني- إن كانوا ملتزمين فعلا- يعطيهم نوعا من الاختلاف من جانب، ومن جانب آخر يعطيهم نوعا من الوصاية التي تؤدي بالضرورة انطلاقا من محددات هذه الوصاية ممارسة فعلية في تصنيف الآخرين المغايرين، ومن ثم كان النعت بالمروق وربما بالكفر حكما جاهزا علي ألسنتهم في وصف الآخرين من البشر. هذا التوجه في مقاربة الحياة والبشر لا يكشف إلا عن محدودية الرؤية، وضيق الأفق، فالالتزام الديني أو الأخلاقي ليس سببا كافيا لكي تطالب الآخرين بأن ينظروا إليك علي أنك شخص مختلف، وأن يتعاملوا معك علي أن هذا الالتزام يستوجب وضعا مغايرا، وأسبقية جاهزة تجعلك مقدما علي آخرين يشاركونك العمل، لأن الالتزام علاقة خاصة بين الإنسان وربه، ولا يتبقي منها في منطق الحياة وطبيعتها إلا ما يترسب في طريقة معاملة البشر، وكون هذا الالتزام كاشفا عن التعامل الإنساني في مداه الرحب الذي يكفل للإنسان مهما كان دينه أو مذهبه بساطا واحدا من المساواة في الحقوق والواجبات. إن خطورة التصنيف علي أساس ديني أو علي أساس أيديولوجي تتمثل في الدور السلبي الذي يتكون في إطاره، فالبشر يتحولون وفق هذا التصور إلي مراتب، ومن ثم يأخذ بعض الناس قيمة وهالة لا يستحقونها، وبالمقابل يفقد الآخرون- حتي الذين يشملهم هذا التراتب- جزءا كبيرا من حريتهم، لأنهم يتحركون وفق جذر أيديولوجي شبيه بالسنن المحدد الذي يقيس مساحة الحركة وطبيعة التوجه. وتتمثل الخطورة أيضا في جانب آخر، في كون القدرة علي التصنيف تعطي بالتدريج سلطة فاعلة ومؤثرة، حتي لو كان فعل هذه السلطة لا يتم بشكل ظاهر وواضح للعيان، وإنما يتم وفق اتفاق ضمني، خاصة إذا كان عدد هؤلاء المنتمين في مكان ما كبيرا، ولها قيادة تمارس تأثيرا وتصنيفا منطلقة من السلطة المرتبطة بالإذعان الجاهز. ليس عدوا أو صديقا! السبت هناك صنف من البشر لا يمكن أن يكون عدوا، ولا يمكن أن يكون صديقا، فلا يقدر علي تبعات الصداقة بالنبل والمحبة الكافيين للإقرار بوجودها الفارق، ولا يستطيع- وهذا هو المهم- أن يكون عدوا، لأن العداوة في منطق الإنسانية علي النسيج الفردي تتطلب وعيا وأخلاقا ليسا متاحين للجميع، وهنا بالضرورة لا نقصد شرف الخصومة، لأن وجودها لا ينفي الخصومة وتبعاتها المثقلة بالرغبة في إلحاق الضرر أو الإيذاء، فشرف الخصومة قد يكون حاضرا، ولكن صاحبها في الآن ذاته لا يصلح أن يكون عدوا، فالمقصود من الإشارة إلي وجود أناس لا يصلحون أن يكونوا من الأعداء يرتبط بأن يكون عدوك نبيلا، يعرف لك حقك، ويحفظ لك قدرك ومكانتك، ولا يقلل أبدا من تلك المكانة، وإن كان تحققها لن يجلب له نفعا. العدو النبيل هو من يلتزم الصمت عند ذكر اسم عدوه، فلا يمدحه مشدودا لدفع المتوقع الجاهز لدي الآخرين بينما يشتعل صدره غيظا وحقدا وبغضا، العدو النبيل يحتاج لكي يتشكل إلي أفق رحب، وإلي إنسان واسع الرؤية، يلمس العداوة والكراهية لدي أناس يتحركون أمامه كقنافذ مذعورة تخفي لحمها بشوك وتتعاظم وينمو شوكها وتبخ سمومها ليلا، ولكن تلك العداوة وهذه الكراهية لا تثقل صدره، فتحدث تغييرا في ملامح تفكيره، ونسق عقله، وطبيعة توجهه نحو البشر والحياة، بل يظل علي حال واحدة مهما كثر الشر واشتد نير السعاية بالكيد. • وكيل كلية دار العلوم جامعة الفيوم