خيم السكون والليل علي »دحديرة« ابن طولون، ولفت الظلمة الحالكة كل شيء في الممر الضيق الملتوي الملتصق بجدار الجامع العتيق، وخلا الطريق من كل شيء إلا من وقع أقدام بعض الرجال المتعبين العائدين إلي منازلهم في أعلا الدحديرة، أو طفل يجلس القرفصاء بجوار الحائط يقضي حاجة. ولكن من أول الدحديرة كان يبدو نور قهوة المعلم سلطان باهرا كضوء الشمس، وصوت الراديو يلعلع من بعيد، وعلي الضوء كانت أشباح الجالسين في حلقات تظهر بوضوح، وهم يتبادلون الجوزة فيما بينهم في استرخاء طبيعي لذيذ. والواد برهومة يلف كالدبور حول الزبائن والكراسي وصوته يملأ الجوع الفاضي وع المليان، وعندما شاهد المعلم رضوان مقبلا من بعيد علي أول الدحديرة هتف وهو يضبط ساعته علي التاسعة تماما: - كراسي ياواد للمعلم رضوان وصحبته.. ومع انه لم يكن هناك واد سيلبي نداء برهومة، الا انها كانت عادته دائما كلما لمح المعلم رضوان مقبلا من بعيد. والمعلم رضوان زبون دائم منذ أكثر من عشرة أعوام، لم يتخلف يوما عن موعد حضوره إلي المقهي كل مساء في التاسعة تماما. فهو يعمل خبازا في فرن مجاور للمقهي، وهو يبدأ عمله في الثانية عشرة تماما، فهو يقضي في المقهي كل يوم ثلاث ساعات، وكانت فلسفته دائما التي يشرحها لكل من يسأله عن عسر مواظبته علي موعد المقهي: - وهنعمل ايه، عشان يبقي البيت جنب الغيط، مش أحسن ما نروح سيما ولانسكر ونعمل منكر ما يرضيش الله! والحقيقة ان المعلم رضوان لم يغضب الله أبدا.. فهو في الخمسين من عمره الآن، وهو منذ أن ماتت زوجته وهو يعيش حياته علي وتيرة واحدة. من الثانية عشرة حتي الصباح أمام النار يخبز العيش، ومن الصباح حتي غروب الشمس نائم في البيت، ومن التاسعة حتي بدء العمل في الفرن علي مقهي المعلم سلطان. وهو لا يأتي إلي المقهي وحده، بل دائما تحوطه شلة من الأصدقاء، هو دائما أعلمهم، ودائما أغناهم، فجميع الطلبات التي تنزل الأرضية علي حساب المعلم رضوان وفي ذلك المساء عندما حضر ومعه شلته اختاروا مكانا خارج المقهي وجلس صامتا يكركر في الشيشة العجمي التي لاتفارق فمه أبدا مادام هو موجود في مقهي المعلم سلطان، ولكنه فجأة قطع الصمت المخيم علي الجميع وهتف في صوت ممطوط: - أنا حلمت حلم النهاردة ربنا يجعله خير.. وهتف الكل في نفس واحد: - خير انشاء الله.. وعاد المعلم رضوان يقول في نفس الصوت المنغم الممطوط: - خير!! حلمت ان واحد جه صحاني م النوم وقاللي قوم يارضوان، قلتله علي فين، قاللي الي خلقك عاوزك، قلت سبحان الله لا اله الا الله. وبلا سبب أو مبرر مفهوم، هتف أحد الجالسين علي الفور: - يا سلام يامعلم.. يحيي العظام وهي رميم. - آمال، قدرة، الغرض أنا قمت معاه علي طول.. فضلنا ماشيين مع بعض لما صادفنا باب أخضر دخلنا منه. وقطع الحديث رجل آخر، هتف وجسمه كله يهتز من النشوة. - الله أكبر.. ربنا يوعدنا، حاكم الباب الاخضر ده خير. وفي ثقة واطمئنان، قال المعلم رضوان: - أمال!.. الغرض دخلنا م الباب الأخضر بصيت لقيتلك جناين علي كل لون. ورد، وزرع، وخضرة ترد الروح، وفواكه من كل صنف مالهاش سعر.. جوافة، وفول أخضر، وتفاح امريكاني م اللي كان بيجي هنا قبل الحرب، حاكم النوع اللي شفته ده في الحلم، عنيه ما شفتوش بعد الحرب أبدا.. ورد شاب صغير كان يجلس مع الجمع المحتشد حول المعلم رضوان: - يابخت اللي عاش قبل الحرب، ده أبويا بيقول ان العشر بيضات كانوا بقرش واحد. وعلق بعض الجالسين علي كلام الشاب بفتور.. وعاد المعلم رضوان فاستأنف حديثه علي الفور: - الغرض بصيت لقيت في الناحية التانية وحوش من كل نوع، غزلان تلاقي، سبوعة تلاقي، لبو تلاقي.. انما هادية وواقفة ساكتة بأمر ربها، سألت الجدع اللي معايا في الحلم، قلتله احنا فين؟.. قاللي احنا في الجنة ياعبيط، وهو قال الكلمتين دول.. وبصيت مالقتوش قدامي وصحيت م النوم قلت اللهم اجعله خير يارب. وهتف الجميع في نفس واحد: - خير انشاء الله.. وقال واحد: - ده ربنا كتبلك طولة العمر، حاكم الموت في الحلم يعني عمر طويل.. كل شيء يبقي عكسه في الأحلام. وضحك المعلم رضوان في فتور.. وقال: - والا الموت ياسيدي، ما كلنا لها، حد بيخلل فيها. وقال برهومة الجرسون، وكان قد سمع شطرا من الحديث: - أبدا وحياتك يامعلم.. شقي وآخرتها قطنة، وياريت تطولها. وجذب المعلم رضوان عدة أنفاس متلاحقة محمومة من الشيشة، ثم قال في هدوء: - ياعم والله بنتمناها، هيه مقابلة ربنا حد يطولها.. بس ربنا يجعل آخرتنا حلوة، ونشوف الجنة.. وسكت قليلا قبل ان يقول: - دي الجنة حلوة ياجدعان، اللهم صلي علي اجدع نبي.. ثم رفع يديه فجأة إلي السماء.. وهتف علي الفور: - الفاتحة علي روح أمواتنا وأموات المسلمين.. ورفع الجميع أيديهم إلي السماء، وقرأوا الفاتحة في صوت خفيض ثم مسحوا وجوههم بأيديهم وجلسوا صامتين، وقطع الصمت واحد منهم، قال فجأة وكأنه يريد أن يطمئن نفسه: - الجنة حلوة، بس مين يطولها يامعلم. وفي الحال رفع المعلم رضوان ساقه ووضعها علي الساق الأخري، ومال بنصفه الأعلي إلي الأمام، ونظر بعينيه الضيقتين إلي محدثه، وقال في هدوء شديد: - كل المسلمين هيطلوها، حاكم النبي بتاعنا متشفع لنا، ووارد في الكتب حديث عن النبي بيقول »يارب أمة المسلمين أنا متشفع لها«. وفتح السائل فمه في دهشة وعجب، وقال: - ياسلام ع القدرة ياجدعان، بقي يعني الواحد هيشوف الجنة، سبحان الله. أنا كنت بقول الجماعة الفقرا اللي زي حالتنا عمرهم ما هيشوفوا ميتها.. وقال المعلم رضوان في ثقة العالم بالأمور: - كذب، مافيش حاجة اسمها غني وفقير عند ربنا، كله يوم القيامة واحد. نقف في طابور واحد قدام بابين، باب اخضر وباب احمر. الباب الأخضر ده الجنة، والأحمر النار والعياذ بالله. اللي مكتوبله الجنة يخش م الباب الأخضر، واللي بعيد عنكم مكتوب عليه النار يخش م الباب الأحمر. اللي هيخش م الباب الأخضر يبص يلاقي علي طول الجناين في وشه. جناين مالهاش حدود، ويلاقي السرايات علي الجنبين كل واحد يستلم سراية، وحاكم سرايات الجنة مش كبيرة. يدوبك علي أد الواحد. وهيه كل الحكاية دورين. أول دور من غير مؤاخذة للاكل بس، وتاني دور للنوم. وهناك نظام مفيش بعد كده. الواحد يصحي الساعة حداشر، اتناشر.. علي مهله، مفيش شغل هناك، وساعة ما يصحي ينزل يغسل وشه، ويلبس جلابية بيضة ضيقة، ويقعد ع السفرة زي الناس الذوات. يبص يلاقي ع السفرة دي كل شيء قلبك يحبه من خيرات الله. فول زي الألماز مهروس في الزبدة البقري الحلوة، وعسل وطحينة، وجبنة حلوم بخيرها، واللبن اللي لسه محلوب من بز أمه، والدقة إللي معمولة بصنعة نضيفة. والعيش الأبيض اللي زي الفل، وجرجير وفجل من خيرات ربنا اللي في الجنينة. قول ياكل ده بده، ويقوم يتمشي شوية في الجناين، أو يقعد جنب الشباك المفتوح ع البحري يجيب تراوة ترد الروح، حاكم كل الشبابيك اللي في الجنة ع البحري. والجو دايما هناك خريف يرد الروح، ولا تراب تلاقي، ولاعفارة تلاقي، حاجة نضافة مفيش بعد كده بقدرة ربنا.. كان الجمع المحتشد قد أصغي بكل ما فيه من حواس لحديث المعلم رضوان، وأشرف الجميع علي مقاعدهم يستمعون في نشوة واعجاب وهم يلعقون ألسنتهم تارة، ويهرشون بين أفخاذهم تارة أخري ويتثاءبون علي الدوام. ولم يحاول أحدهم أن يقاطع المعلم رضوان، فعاد الأخير يسرد القصة في حماس هاديء جميل: - المهم بعد كده، الواحد يطلع تاني ينام، ما هو مفيش شغل هناك، ولا قوم روح الفرن ولاشوف العجين ولا كافة حاجة من دي، كل واحد حر نفسه، فعلي طول الواحد يطلع ينام تاني لحد الساعة خمسة، الساعة ستة، علي كيفه. وعند ما يصحي يلاقي السفرة متحضرة، فراخ عتاقي محمرة، كتاكيت مشوية، أرانب بالملوخية، كبده علي كلاوي.. حاجات م اللي تجري الدم في عروق الواحد وتخلي عنيه تفنجل. ولعق المعلم رضوان ريقه، وكذلك فعل بقية الموجودين.. وسأله واحد: - مفيش شوية طرشي يامعلم؟.. ورد المعلم في ثقة بالغة: - دي مسألة مزاجات بقي، عاوز طرشي يجبولك، كافة شيأ ترغبه نفسك يحضر علي طول، أمال هيه جنه ليه؟! ثم عاد المعلم رضوان يسرد قصته الجميلة.. والآخرون يستمعون في لذة فائقة: - بعد الأكل بقي الواحد يغسل ايديه، مفيش هناك حاجة اسمها تكسل تغسل ايديك، النضافة واجبة هناك، وبعد كده يجيلك الحور العين، ستات زي البقلاوة، حاجة تفتح النفس، مش زي الستات اللي الواحد بيشوفهم في السكك دول، ما يغركش الأحمر والأبيض، دي مسائل بوليتيكا كلها، انما هناك حاجة طبيعي بتاعة ربنا، وكل واحد يختار اللي علي كيفه، حلاله. وعلي أد الواحد ما يحرم نفسه من الدنيا دي، علي أد ما يمتع نفسه هناك، والعين بالعين والسن بالسن.. وهتف واحد من الجالسين: - الله أكبر يامعلم.. اد كده.. ورد المعلم علي الفور: - أمال، ما هو يعني ايه حكاية العين بالعين دي، يعني زي ما تعمل تلاقي. تهيص في الدنيا وتلعب تنشوي في نار جهنم، تمشي عدل وتشوف أوامر ربنا، تتمتع زي ما بيقولك دلوقت بالظبط.. وسكت المعلم رضوان قليلا، ريثما أزاح عمامته إلي الخلف قليلا قبل أن يقول: - المهم الساعة اتناشر بالليل يكون العشا جاهز في الجنة تنزل تتعشي لقمة خفيفة، شوية لبن، حتة مربي، حتة جبنه، شوية زتون، لقمة عيش فينو. وتطلع تتمشي شوية في التراوة، وفي القمر الحلو.. حاكم القمر ما يختفيش أبدا في الجنة. يتنه منور علي طول. عاوز تشوف حد، تود حد، عاوز تزور جماعة صحابك، جماعة كده كده.. زي مانت عاوز.. وهرش واحد من الجالسين قبل أن يسأل المعلم رضوان سؤال محير: - لكن الجنة واسعة قوي يامعلم.. الواحد هيزور الناس فيها ازاي؟ - لا ما هو كل جماعة صحاب جنب بعض، وع العموم ان كنت عاوز تشوف حد في الجنة بس تتمني في نفسك.. علي طول تشوفه. - ازاي دي بقي؟ وارتباك المعلم رضوان قليلا قبل أن يقول: - الله!! أهو دا اللي حصل بقي. انت شريكه. وسكت الرجل، فقد أفحمه منطق المعلم رضوان.. ودار الهمس بين الجميع، وتحركت ألسنتهم بتعليقات شتي: - صحيح ياناس ربنا قادر علي كل شيء.. - سبحانه.. هوه الغني.. -0 يعز من يشاء، ويذل من يشاء.. - ده ربك كبير.. وعندما سكتت الأصوات، وهم المعلم رضوان باستئناف الحديث من جديد، زعق الواد برهمومة كالغراب: - يامعلم رضوان، الساعة بقت اتناشر.. وضرب المعلم يده في جيب الصديري فانتزع ساعته الضخمة القديمة.. كانت الثانية عشرة تماما.. فأعادها إلي جيبه من جديد، وقام فانتحي ببرهومة جانبا وحاسبه علي المشاريب، ثم حيا الجميع من بعيد، وراح يحث الخطي علي بلاط الدحديرة حتي وصل إلي الفرن. وعندما أصبح في فم الباب أحس بوهج النار تكاد تلهب بحرارتها حتي الجدران، ونسي المعلم رضوان كل شيء ووثب نحو الداخل علي عجل، وخلع جلبابه فعلقه في رأس المسمار، ثم قفز إلي أسفل وفتح باب الفرن، فأحس كأنه فتح بوابة جهنم، وتصبب العرق علي جبهته بغزارة وهو يتناول أرغفة العيش ليقذف بها داخل النار، وفي رأسه تطوف كل الصور التي رسمها بنفسه للجنة التي لابد وان يراها في يوم من الأيام..