(1) صلاة الجماعة قرنفلة المصاطب الفوّاحة تحت قبّة البرتقال تتّسع لأبناء الأنبياء الذين يحرسون قلعة السلام والقلوب، ولها أن تبدّل ثوبها الطفل من اللبن إلي العند حتي ينتهي الغروب بعنادٍ أشدّ من عناد الواهم، ولها أن تقيم صلاتها الفذّة حتي تكون الوردة بركاناً من حمم الجلّنارة العارمة، ولها بالنداء الخفيّ استدراج طيور بدر الأولي ليعودوا إلي أرض تليق بهم، وينزلوا إليها كل نهار وليلة قَدْرٍ ومسيرةٍ تطفو فوقها النعوش الطائرة. أبو سَلَمة خفيف الظل، ذو غمازتين حلوتين، واثق كل الثقة من أنّ للبيت ربّاً يحميه. فما إن يتحادث الرجال عن الشائعات التي تقول إن اليهود سيقومون باحتلال ما تبقّي من القدس، حتي يدير ظهره لهم، ويقول جملته البيضاء في وجه كلامهم الأسود، ومفادها: إن للحَرم ربّاً يحميه! أما في يوم الخامس من حزيران في ذلك العام المشؤوم 1967، فقد هُدمت قناعة الرجل عندما سمع جنوداً يرطنون بلغة غريبة تختلط مع قعقعة السلاح وأسماء لم يعهدها؟ ففتح أبو سلمة الشباك، ونظر إلي السماء، وقال: لماذا تحرجني؟ ماذا سيقول الناس عني؟ بعد شهور رأي الناس أبا سلمة يذهب عند أذان المغرب، ويقف بين شواهد القبور، في مقبرة الرحمة شرق البلدة القديمة، وحده، ثم يُقيم الصلاة وحده، أيضاً، ويقف إماماً وينظر يمينه ويساره ويقول: استقيموا إلي الصلاة يرحمكم الله، استووا واعتدلوا أثابنا وأثابكم الله، ويصلّي كأنَّ وراءه مُصلّين! وكم كان استغراب مَنْ رآه يصلّي إماماً في جماعةٍ وهو وحدَه ليس إلاّ. وتكررت صلاة أبي سلمة وإمامته في الناس غير المرئيين، وكان ذلك كل أسبوع تقريباً! وصادف أن أبا سلمة كلّما قام بصلاته تلك وقعت عملية فدائية؛ تفجير هنا وقنبلة هناك، ورصاص هنا وكمين هناك، وراح الناس يربطون بين إمامة أبي سلمة في المقبَرة والعملية البطولية التي ستقع بعدها بساعات!! وذُهل أهل المدينة غير مصدِّقين تلك العلاقة الحقيقية والمبهمة، والرابط الذهبي بين الصلاة والجهاد! ووصل الخبر إلي المخابرات الاحتلالية، فقامت باعتقال أبي سلمة، وأخضعته لتحقيق مكثف وشرس وطويل، غير أنها خرجت خالية الوفاض، ولم تتمكن من استخراج حرف واحد من فم أبي سلمة، فوضعته في زنزانته وحيداً مُنعزلاً .. وراحت تراقبه! كانت المخابرات قد وضعت عدسة كاميرا تراقب أبي سلمة ليلا ًونهاراً، وتعدّ عليه أنفاسه، وتراقب صلواته ودعواته ونومه وقضاء حاجته! وأخيراً، لاحظوا أن أبا سلمة قام ووسّع المكان الضيق في زنزانته، ونفخ غبارها ومسحه بيده، ووقف في زاوية الزنزانة وكبّر وأقام الصلاة، ونظر خلفه يميناً ويساراً وقال: استقيموا إلي الصلاة يرحمنا ويرحمكم الله، استووا واعتدلوا أثابنا وأثابكم الله، وراح يُصلّي جهراً صلاة المغرب كأنّ أسراباً خلفه تؤمّن علي ما يقوله من كتاب الله العظيم، وفي اليوم التالي كانت عملية فدائية قد خسفت تجمعاً لجنود الاحتلال! فأعادوا أبا سلمة إلي التحقيق، ولكن دون جدوي! (2) أبو شيبان ثمة زوبعة ناعمة تدور في الطرقات كأنها غمامة عطر لا يراها أحد، بل يسمع حفيفها، ويشم نرجسها الشتوي. وثمة قلب صاغه الخالقُ من خالص رحمته، وصبّ فيه فضّة المآذن والنداءات البعيدة ودروب الآلام، وَتَوَّجَهُ قُبّرةً علي ذروة الجُلجلة، فشفّ وأنار، وماثل الندي في أحداق البراعم والأجراس، فكيف له أن يكون حجراً صلداً؟ حاول أن يكون كذلك، لكن الحجر ذاب في صدره، وعاد أكثر رقّة من لمسة العروس لمفاتنها المقدسة. لعل إيمانَ أبي شيبان لم يحتمل أن يري "اليهود في القدس"! ويسقط عليه هذا الأمر قدراً ثقيلاً! فالأهون عليه أن يغادر هذا الواقع والقدر المحتوم ويغادر وَعْيه، لأن هذا الوعي لا يستوعب قسوة "الحقيقة" المناقضة لكل وَعْيه واحتمالاته. وبمغادرته إلي عوالم كثيرة، فإنه يكون في حالة دفاع دائم عن إيمانه الذي تقهقر أمام ذلك الحدث الداهم الثقيل. وبالتأكيد، فإن إيمان أبي شيبان لم يتغيّر، لكنه هُزم كشخص. فثمة مؤمنون لا يحتمل إيمانهم أن يُهزم، لأنهم يدركون أن هناك مُجبرات وفجائع وحقائق مبهظة في الحياة، لهذا يقاومونها ويرفضونها ويتألمون لذلك، وقد يُهزَمون كأشخاص، لكن إيمانهم لا يُهزم! لأنهم علي يقين أن الإيمان كينونة وليس كائناً. نشعر بندم شديد! لكننا كنّا صغاراً لا نُدرك أن اجتماعنا ولحاقنا بأبي شيبان وصراخنا خلفه مستهزئين سيورثنا هذا الندم الممضّ! كان رجلاً قد تجاوز السبعين، يمشي هائماً علي وجهه المفزوع بلحية شائكة بيضاء، وسروال متّسخ، حافياً زائغاً، وكثيراً ما كانت روزته تنفتح فتبدو كالعباءة علي كتفيه، فتظهر شلحته المتسخة وسرواله الفضفاض المُهترئ. وأبو شيبان كان رجلاً ولا كل الرجال.. عاقلاً.. دمثاً.. قليل الكلام.. محتشماً.. خجولاً.. ذا مروءة وكرم، لكن صبيحة اليوم الثاني من نكسة حزيران العام 1967 كانت كافية لأن يخرج أبو شيبان علي غير هدي إلي الناس يسألهم عمّا جري، فصار يمسك بقبّة هذا ويد ذاك، ويلكز هذا ويصرخ في وجه ذاك، وهو غير مُصدّق، ويكرّر جُملته الواحدة: هل هُم في القدس الآن؟ ثم يصرخ: اليهود في القدس.. يا باي، ويلطم علي وجهه، ويبكي! فيضرب الناس كفّاً بكفّ ويقولون: لقد جُنّ أبو شيبان! وظلّ أبو شيبان ينظر في الوجوه، ويتفحّص الخلائق الذين انغمسوا في أعمالهم صارخاً في وجوههم، يشدّ مَنْ يجده، حتي باتوا يتحاشونه، كأنهم يفرّون من سؤاله الذابح! كان طبيعياً أن تصدف أبا شيبان دائراً كالزوبعة في الأزقة والشوارع، يتمتم بكلامه المُبهم وخطواته السريعة التائهة، حتي غاب عن الأنظار، ولم يفطن أحد لغيابه، فقد وجدوه متكلّساً في حقل الليمون جوار البلدة لشِدّة البرد، فظنوه مجمّداً أو مغمياً عليه، لكن طبيب الوحدة الصحية أكد أنه ميت منذ ما يزيد علي شهر، والعجيب أن جثته لم تتعفّن ولم تتغضّن، وظلت بطراوتها وأنفاسها الدافئة كأنه حيّ يرزق. وظلّت البلدة دون سؤال! (3) حَبْشين "بيّارته أكبر من البحر"، كانت تقولها لنا أُمّي عندما يأتي يوم العيد، ويسلّم عليها ويعيّدها دون أن تتبدّل ملامحه الحجرية الصارمة، ويخرج مكتفياً بكاسة شاي. ويبدو أنه ارتخي للنهاية اليائسة، فاستسلم، كمريض، لا يتغيّا الشفاء! وربما كان يعتقد أن شَجَرهُ مروحةُ الدنيا، وأن بيّارته أغنية خضراء، ولكن الخنازير قد أخذت قالب الحلوي، ولن يرحمه غيرُ هذا الصمت والحرمان اللذين أعطياه الموازنة الدقيقة بين البقاء والفناء، مثلما أعطياه مقاربةً يظل معها شهيداً في بيت عزائه الذي لن يُغلق إلي أبد الداهرين. ربما يبتسم، لكنه لا يضحك ولا تُري أسنانه! ولم يحضر عُرْساً، ولم يشارك في زفَّة أو سامر. يؤدي يومه بآلية رتيبة، ويجلس في حسبته يبيع الخضار والفاكهة، ويظل صامتاً في ذاته ومشاويره الغامضة الزائغة. كان لقبه "حَبْشين"، ولا يدري أحدٌ ما معناه ومنْ أطلقه عليه، لكنهم ينادونه بأبي زهدي. وأبو زهدي الذي كان يملك بحراً من بيارات يافا الممتدة حتي أراضي اللد والرّملة.. هاجر إلي بلدتنا وافتتح حسبته، وحرّم علي نفسه أكل البرتقال أو شرب عصيره ما دامت البلاد تحت دياجير الاحتلال. لكن جار أبي زهدي الذي يعرف أنه يشرب من إبريق الفخّار الموضوع علي بسطة الشباك الكبير.. قد عصر كمية من البرتقال، وصبّها في الإبريق رحمةً بأبي زهدي ليتذوق فاكهته التي حرّمها علي نفسه! وكالعادة، مشي أبو زهدي إلي إبريقه، ووضعه علي فمه، وكرع جرعةً، ثم ألقي بالإبريق بعيداً، فتهشّم! نزلت جرعةُ البرتقال إلي أمعاء أبي زهدي كأنها سمٌّ زعاف، فتلوَّي، فحملوه إلي المستشفي، فضاقت أنفاسه، ولم يلبث يومين حتي مات! (4) دون شاهد أراني صبياً، في التاسعة، أُمسك يد أخي الكبير، وأمشي فوق الشوك والحصي المسنّن، علي غير هدي، نركض حيناً، ونهرول حيناً، حتي لا تلحقنا الطائرات، التي ترمي منشورات تدعو أهالي البلدة إلي تركها، وأن يمضوا شرقاً... هذا سرب طويل من النازحين لا ينتهي، ولا يكاد حتي هذه الساعة! فالنكسة لم تنته بعد! غير أن المرأة التي جاءها المخاض، ونزّ دم رحمها، قد أخذتها النسوة تحت الخرُّوبة لتضع حملها الذي كان أُنثي.. وها أنذا مع الصبية أتلصص النظر، من وراء البطانية التي التفت سوراً حولها، لأري كيف تلد النساء! ماتت الوالدة تحت الخروبة وغطّي دمُها الورقَ الناشف المتساقط، وذبلت حتي حفروا لها قبراً ووضعوها، كما هي، دون صلاة أو كفن! وعادت بعض الجموع، بعد شهرين، إلي البلدة التي كانت قد احترقت وانهدمت، وأري أمي، رحمها الله، تدفن رأسها بين كفّيها وتجوح، وألحظ أبي، رحمه الله، يقتعد درج البيت، ساهماً لا يتحرك كأنه تمثال موزّع الأهواء، مأخوذاً بما لم أدركه.. حينها! لكنني لم أرَ ما كانت تقصّه أمّي علينا من حكاية الأفعي الذهبية التي لاعبتني علي أرضيّة المطبخ ذات صيف! تقول: تركتك، وأنتَ ابن عام تقريباً، علي جنبية فرشتها فوق الحصيرة في المطبخ، وكان شباك المطبخ مشرعاً والباب مفتوحاً، وذهبتُ أنشر الخَلقَات علي حبل الغسيل في حوش الدار، ورجعت لآخذ باقي الأواعي (الملابس) لنشرها، فوجدتك قاعداً تغرغر ضاحكاً وتعبث مع أفعي ضخمة صفراء ذهبية، تتلوّي حولك، فتلاعبها وتدور حواليك وتلفّ فتكركر، فصرختُ وأُغمي عليّ!! وعندما استيقظت، وحولي أبوك والجيران، هرعت إليك، فرأيتك مبتسماً.. ولا أثر للأفعي! ومكثتُ يومين أبكي، لا أدري فرحاً أم خوفاً.. غير أن خيطاً عريضاً ذهبياً، كأنه نمش لزج أو دهان خفيف قد تركته الأفعي علي فمك وذراعيك ورأسك، هو أثر الأفعي عليك، فقمت بغسلك مرة إثر مرة، ولم يغب ذلك الأثر إلاّ بعد أشهر طويلة. والأفعي لم نعثر علي أثرٍ لها حتي اليوم، لكن أباك ذبح عجلاً ووزّعه عقيقةً عنك، حتي يحفظك الله من كل سوء. سمعتُ هذه القصّة مئات المرات، وما زلتُ أدّخر امتناناً كبيراً لتلك الحيّة العظيمة التي لاعبتني في غياب أمي، وتركت علي شفتيّ ذهبها ووهج ثوبها المجيد.