حين يُنشر كتابٌ بعنوان غير عنوانه ، وباسم مؤلفٍ غيرِ مؤلفه ، يُوصف هذا الصنيعُ بأنه خطأ علمي ، لكن إذا عُرف اسم الكتاب واسم المؤلف علي الحقيقة ، ثمَّ ظلت دور النشر تُصدر الكتاب مرة تلو المرة لمدة تزيد علي نصف قرن.. فإنَّ هذا الصنيع يصدُق عليه أنه كارثةٌ علميةٌ وأخلاقيةٌ في آن واحد . إنَّ ما أسميه الغيبوبة حالة تعتري بعض المنتمين إلي الحقل الثقافي، وبعض القائمين علي توجيه دفته. من أمثلة هذه الغيبوبة أنَّ الدارس لا يلتفت إلاّ إلي جانب واحد أو جهة واحدة في فهم ما يقرأ، ومن هنا تغيب عنه بقية الجوانب أو الجهات . ومن أمثلتها أن الدارس ينتزع النصَّ من سياقه ،أو لا يهتم أصلاً بمعرفة هذا السياق، ثم يفهم النص القابل للعديد من الدلالات علي الجهة التي تروق له وإنْ كانت هذه الجهة منافيةً لمعناها. الأسماء المتماثلة أو المتشابهة وكذلك الألقاب والكُني ،شرَك يسقط فيه الغافلون والمتسرِّعون إلي هاوية الخطأ حين ينسبون الرأي إلي غير قائله، أو ينسبون إلي القائل ما لم يقل به. الدخول إلي بحث المسائل بآراء سابقة شرَك آخر يُوقع في حَمْل النصوص علي غير مراد أصحابها لأدني ملابسة أو لأدني شُبهة هذه بعض آفات التعامل مع تراثنا العربي ، وهي تعود غالبًا إلي عيوب في قاريء التراث. بعضها الآخر يعود إلي ظروف وصول هذا التراث إلينا عن طريق الرواية الشفوية أولاً، ثم عن طريق كتابةٍ غير مكتملة الضَّبْط لفترة لاحقة، ثم عبْر مخطوطات لم تحظَ بالعناية الكافية والتصنيف الضابط والحفظ من التشتُّت والضياع الكامل أو الجزئي .
الظاهرة الأخيرة لعبت دورًا خطيرًا في نسبة النصوص إلي غير أصحابها، أمثلة كثيرة لهذه الظاهرة شهدتها الساحة الثقافية العربية . . في سنة 1963م نشر الأستاذ إبراهيم الإبياري كتابًا حققه بعنوان (إعراب القرآن) وقال إنه (منسوب) إلي الزجّاج (ت311ه) وكان في هذا أعني في كلمة (المنسوب إلي الزجّاج) تحرّز منه وشكّ في نسبة الكتاب إلي ذلك المؤلف، ولقد اتضح بعد ذلك أنّ اسم الكتاب هو (جواهر القرآن) وأن مؤلِّفه هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الباقولي (ت 543ه) . وهناك كتاب كان يُنسب لابن القيَّم (ت751ه) تحت عنوان (الفوائد المشوِّق إلي علوم القرآن وعلم البيان) ،وقد اتضح مؤخرًا أن الكتاب عبارة عن مقدمة لأحد تفاسير القرآن الكريم، وأنه - مع مقدمته من تأليف أبي عبد الله جمال الدين محمد بن سليمان الشهير بابن النقيب (ت698ه) وقد نشرت هذه المقدمةَ مكتبةُ الخانجي في مصر سنة 1994م بتحقيق الدكتور زكريا سعيد علي . وكنا في شبابنا نقرأ ضمن مجموعة (رسائل البلغاء) التي نشرها المرحوم الأستاذ محمد كرد علي رسالة بعنوان (الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة ) منسوبةً إلي أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد الله بن المدبّر (ت 279ه)، وفي سنة 1988م أعلن أستاذُنا الدكتور محمود علي مكي في مقالة له بمجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة أن المؤلِّف الحقيقي للرسالة هو أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني (ت 298ه) وأن تشابه الأسماء قد أفضي إلي الخطأ في نسبة هذا العمل إلي غير مؤلفه . والغريب أنه في سنة 2005م أعاد الدكتور يوسف محمد عبد الوهاب تحقيق هذه الرسالة تحت اسم مؤلفها الحقيقي الذي نبه إليه الأستاذ الدكتور مكي قبل هذا التاريخ بحوالي سبعة عشر عامًا ، دون أدني إشارة إلي صاحب السبق في اكتشاف المؤلف الحقيقي. تلك صوَر من الخطأ في التعامل مع التراث ، بعضها له ما يفسِّره، وبعضها الآخر لا عذر فيه . . كالحالة الأخيرة التي أُعيد فيها نشر العمل تحت اسم مؤلفه الحقيقي دون إشارة إما بقصد أو بغير قصد إلي صاحب الكشف الأول عن الاسم الحقيقي لمؤلف الرسالة . أمَّا ما تصدق عليه حالة الغيبوبة بحق فهي حالة ذلك الكتاب الذي نُشر جزء منه في عام 1932م ضمن منشورات كلية الآداب جامعة القاهرة، حاملاً عنوانًا غير عنوانه الحقيقي، ومنسوبًا إلي مؤلف غير مؤلفه الفعلي، مع إشارة قاطعة من أحد محققي الكتاب يستبعد فيها أن يكون مؤلف الكتاب هو صاحب الاسم الوارد علي غلافه . العنوان الذي نشر به الكتاب لأول مرة هو(نقد النثر)، والمؤلف الذي نُسب إليه وقتها هو قدامة بن جعفر (ت337ه) صاحب كتاب (نقد الشعر) وقد حمل غلاف الكتاب اسمين كبيرين هما اسم طه حسين واسم عبد الحميد العبادي، باعتبارهما محققي الكتاب . والطريف أن الأستاذين الكبيرين قد توافقا علي تحقيق الكتاب ونشره، ولكنهما لم يتفقا فيما يتعلق بمؤلف الكتاب ... أما العبادي فقد جهد جهدَه في جمع ما يساند رأيه في اسم الكتاب واسم مؤلفه. أما طه حسين فكان قد قطع في بحث ألقاه بالفرنسية في أحد مؤتمرات المستشرقين قبل أن يترجمه العبادي إلي العربية ليُنشر في مقدمة الكتاب المذكور لقد قطع طه حسين بأن الكتاب، أو هذه الرسالة - كما سماها في بحثه لا يمكن أن تكون لقدامة، وقال بالحرف الواحد : إن "المُطّلع عليها يري أنها لا يمكن أن تكون له، بل هي في الغالب لكاتب شيعيّ ظاهر التشيّع، قد صنف كتبًا عدة في الفقه وعلوم الدين يشير إليها ويحيل عليها في شيء من الطمأنينة ".
لم تذهب التفاتةُ طه حسين أدراج الرياح، لقد أيد شكَّه في الكتاب الأستاذُ محمد كرد علي الذي ذكر في مقال له بمجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1948 م أن (نقد النثر) ليس لقدامة وإنما هو منحول عليه . وفي سنة 1949م أعلن الدكتور علي حسن عبد القادر في المجلة ذاتها أنه عثر علي النص الكامل للكتاب الذي انتُزِع منه الجزءُ المنشور خطأ تحت اسم (نقد النثر) ، وقد ذكر أن الاسم الحقيقي للكتاب هو (البرهان في وجوه البيان) وأن مؤلفه الفعلي هو أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب . كان من المفروض بعد هذا الكشف- أن يتوقف طبع الكتاب القديم، ولكن الذي حدث هو أنْ سار التعامل مع الكتاب في مسارين، أحدهما : هو الطريق الخاطئ، وذلك بطبع الكتاب ثم إعادة تصويره ، أكثر من مرة في مصر، ومرارًا كثيرة في بيروت . أما الطريق الآخر وهو الطريق الصحيح فقد بدأ بالتصدي لتحقيق الكتاب الكامل الذي أعلن عنه الدكتور علي حسن عبد القادر، لقد جاء ذلك في النصف الثاني من الستينيات من القرن العشرين عندما حققه الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثي في العراق سنة 1967م ، ثم حققه الدكتور حفني محمد شرف في مصر سنة 1969م . وكان طبيعيًّا أنَّ نشر الكتاب نشرًا علميّا علي نطاق واسع، وكذلك الإعلان من قبل منذ سنة 1949 م عن نسخته الحقيقية الكاملة وعنوانه الأصلي .. إلي جانب الإشارات الكثيرة إليه سواء قبل تحقيقه وبعده كل ذلك كان من شأنه أن يوقف المسار الآخر للطبعة الخاطئة، تلك التي تحمل عبارة (نقد النثر) عنوانًا للكتاب و (قدامة بن جعفر ) اسمًا لمؤلفه . غير أن واقعة جديدة أخيرة قد داهمت المجتمع الثقافي فيما يتعلق بذلك الكتاب . الواقعة الجديدة قادمة هذه المرة من تونس .. ومن مدينة سوسة بالذات، حيث توجد دار المعارف للطباعة والنشر (وهي غير دار المعارف المصرية) التي تُصدر ما تسميه (سلسلة كتب طه حسين ) التي عَرَّفتْها بأنها: سلسلة كتب ثقافية تختص بأدب طه حسين وبما يُكتب عنه . لقد أصدرت دار المعارف التونسية كتاب (نقد النثر) مصوَّرًا عن طبعته القديمة بتحقيق طه حسين والعبادي، ومنسوبًا رغم أنف الجميع إلي قدامة بن جعفر، وهي الطبعة التي تحمل بعد صفحات قليلة من الغلاف تنبيهَ طه حسين وتأكيدَه أنّ هذا العنوان ليس عنوان الكتاب، وأن المؤلف الذي ينسب إليه ليس مؤلفه الحقيقي .. هذا التأكيد الذي مضي عليه - عند صدور طبعة تونس في سنة 2004 م- أكثرُ من سبعين عامًا ، كما مضي أكثرُ من خمسة وخمسين عامًا علي اكتشاف الكتاب الأصلي بواسطة علي حسن عبد القادر، وأكثر من خمسة وثلاثين عامًا علي تحقيق الكتاب في العراق علي يد مطلوب والحديثي سنة 1967م ، ثم في مصر علي يد حفني محمد شرف سنة 1969م. هذا إلي جانب الإشارات الكثيرة في الكتب المختلفة إلي عنوان الكتاب الأصلي واسم مؤلفه الحقيقي . بالرغم من كل ذلك تجيء دار معارف تونس في سنة 2004 م وتنشر الكتاب وهو في الأصل عملُُ ناقص باسمٍ غير اسمه، ومؤلفٍ غير مؤلفه، وكأن الدار والمسئولين فيها يعيشون في نفق تحت الأرض أو علي ظهر كوكب من عالم آخر . والغريب أن هذه النشرة تحمل رقم (14) مما أسموه (مكتبة طه حسين) وقد ذكروا أنها (سلسلة كتب ثقافية تختص بأدب طه حسين وبما يُكتب عنه) مع أنه ليس في هذا العمل أعني (نقد النثر) شيء يمتُّ إلي طه حسين سوي تصريحه بخطأ نسبة الكتاب إلي صاحب الاسم الذي يحمله غلافُه، وبالتالي فطه حسين بريء تمامًا من هذا العمل الذي أعلن رأيه فيه مُسلِمًا المسئوليةَ في نسبة الكتاب إلي زميله العبادي . وبفرض أن طه حسين قد أخطأ - وهو فرض غير صحيح - ألم يكن من الطبيعي أن يتوقف الأخذُ بهذا الخطأ والاستمرارُ فيه لتتحول هذه الواقعةُ بعد تصحيحها إلي جزء من التاريخ، وهو نفس الموقف الواجب مع العبادي أيضًا؟!. ما الذي يمكن للمتابع أن يطلقه من الأسماء أو الصفات علي هذا السلوك؟ لقد بدأتُ في العنوان والسطور الأولي بكلمة الغيبوبة، لكن الغيبوبة لا تبدو وصفًا دقيقًا لما حدث .. إنَّنا أمام سلوك أقرب إلي التضليل أو إذا شئنا الدقة إنه غياب الضمير العلمي إلي الدرجة التي تحجب كل شيء عن أعين أصحاب دور النشر وعن أسماعهم اللهم إلا بريق الدراهم ورنين الدنانير .