كنت في بداية عملي كصحفية تليفزيونية بالتليفزيون المصري، حينما عملت علي تحقيق تليفزيوني عن صلاح جاهين، وما أدراك بصلاح جاهين. وكعادة أي محقق لابد أن يعرف كل شيء من الألف الي الياء. بحثت ودققت كثيرا، لكنني أتذكر جيدا أن هناك مرحلة جاهينية لم أستطع فهمها وقتها، أو للدقة كان لدي قصور في استيعابها. ألا وهي مرحلة ما بعد النكسة، مرحلة الاكتئاب التي لم يبددها أي شيء. كنت بالطبع قد درست شيئا من علم النفس بالجامعة وعرفت أن البشر منقسمون الي أنواع نفسية، ومن بين هذه الأنواع الشخصية الاكتئابية. لكن شتان بين المعرفة في ذاتها، وادراك تلك المعرفة بلحمها وشحمها. لم أستطع وقتها فهم تلك الحالة التي قد تودي بصاحبها، وبخاصة لم أستطع أن أجدها متطابقة مع الصورة الذهنية التي كونتها أنا عن جاهين. والتي لا أخجل أن أعترف أنها فنية بامتياز، كيف لمن كتب وشارك وأنتج هذه الأعمال » خلي بالك من زوزو، أميرة حبي أنا، عودة الابن الضال، هو وهي» والتي كانت مصدرا للمرح والسخرية وعدم أخذ الحياة أبدا علي محمل الجد. وكان ظهوره في بعضها »شهيد الحب الالهي،لا وقت للحب، المماليك، اللص والكلاب» ضحوكا مبتهجا حتي وإن لم يضحك،كيف يكون اكتئابيا؟ وإن لم يكن،كيف سمح جاهين لروح الحزن والاكتئاب أن تسيطر عليه؟ ظل السؤال عالقا بذهني » لماذا يقع أشخاص بهذا الثراء والتفرد فريسة الاكتئاب؟ ولماذا يتعلق اكتئابهم بحالة الوطن. ظلت نكسة جاهين وآخرين مؤثرة ومثيرة للتساؤل حتي وإن شابهتها نكسات لا تقل عنها مدعاة للحيرة والسؤال، كنكسة أروي صالح صاحبة التجربة النقدية الفذة والسياسية المتفجرة شجاعة وألقا، أروي صالح التي كتبت أدبا ونقدا وترجمة، وتركت عملا ناقدا ومحللا للحركة الطلابية في السبيعينيات »المبتسرون» تصنف فيه مثقفي جيل الستينيات والسبعينيات ثم الجيل الجديد حيث تقول: »لقد ورث الجيل الجديد تلك القدرة المقيتة علي النقاش بلا نهاية دون فعل لفرط انتفاخ الذات الناتج عن العجز. جاهين تعلق بحلم صنعه شخص أمن هو أنه الزعيم الملهم المخلص وتغني به وله، وتعلقت أروي بحلم انتصار الطلاب في تغيير الواقع كما فعل طلاب فرنسا فثارت وتحدت» وعندما هزم الحلم هزم كلاهما. جاهين قتل روحه الاكتئاب أما أروي فقد دفعها الاكتئاب الي الانتحار. هنا يتوقف علماء النفس كي يؤكدوا ببساطة ان قتل الإرادة أو قتل النفس هي نتيجة حتمية لمرضي الاكتئاب. كقاعدة علمية لا تقبل النقاش، ولم يزل عقلي يشكك فيها إلي الآن. حتي وإن كنت أدركت جيدا صدق لحظة أن تتوحد بحلم ما، وتصير أنت والحلم كيانا واحدا. أدركت هذه اللحظة بشحمها ولحمها في ميدان التحرير في يناير 2011، في ثمانية عشر يوما، تماهي فيها أهل الميدان مع التحرير والتحرر، وتعلقوا بحلم انتصار هوية تدرك ذاتها وحضارتها وثقافتها وتفردها، هوية لن تسمح أبدا بأن يعبث بها كائن ما كان. انتهي الانتصار وتوالت الانكسارات وخبرت معها وخبرنا كيف لمن تعلق بانتصار الحلم، ألا يحتمل هزيمته. لكننا بشكل أو بآخر، لم يسيطر علينا اكتئاب مرضي ولَم يدفعنا الواقع بعد إلي الانتحار، فلماذا؟. ربما لأننا جيل مدين لمن سبقونا فنا وتحديا وإرادة، جيل لم يعلق أحلامه علي أشخاص لأن التاريخ علمنا الشك، وربما لأننا جيل انفتح علي العالم رغما عن إرادته فنضج قبل أوانه بأوان، أو لأننا جيل تماهينا مع الوطن، وعندما تصير أنت الوطن والوطن أنت، فمحال أن ينسيك شخص أو هزيمة يقين هذه اللحظة. يبدو لي الآن صلاح جاهين يسير متكئا علي كتف أروي صالح يصلان باتجاه النيل بعد أن مرا بميدان التحرير، ويدور بينهما حديث طويل عن هزيمته،وهزيمتها، وهزائمنا، ينهيه جاهين بسخريته المعتادة قائلا » والله العيال دول أجدع مننا ميت مرة، شوفتي عدي عليهم كام هزيمة ولا انتحروش »ويمضي مقهقها حتي البكاء».