في أول أيام المؤتمر ومع دخولنا إلي مسرح الجراج بالجيزويت بالإسكندرية أبدي تيموثيوس فيرمولين أستاذ مساعد الدراسات الثقافية والنظرية اندهاشه من اتساع المسرح وسألني: "هل تعتقد أنه سيكون هناك جمهور كبير؟" عنوان المؤتمر "الزمن مندفع في اتجاه التغيير فكيف سيقابله الفن؟" وقائمة الضيوف تضم أسماء متنوعة من الفلاسفة والنقاد الفنانين من مختلف أنحاء العالم. وموضوع الجلسات متخصص جدا، لذا وبخبرة الصحفي الذي اعتاد علي تغطية الأحداث الثقافية أجبته "لا أظن أن المسرح سيمتلئ بالجمهور". لكن المفاجأة هي امتلاء القاعة علي مدار يومي 30 أبريل و 1 مايو بجمهور متنوع وإن كانت الغلبة لطلبة كليات فنون جميلة، وهو ما انعكس علي النقاشات التي دارت طوال المؤتمر، والتي بدأت بمحاضرة لروبن فان دن آكير أحد المنظرين لتيار "الميتا موديرن". يري روبن أن حركة ما بعد الحداثة التي ولدت كمنطق ثقافي ومزاج جمالي وقوة دفع نظرية- في سبيلها للأفول ليحل محلها "الميتا موديرن". في محاضرته حاول روبن توضيح نقاط الخلاف بين ما بعد الحداثة والميتا موديرنيزم. فما بعد الحداثة في رأيه كان عصر دولة الرفاهية، وحلم الطاقة النووية، وكروت الائتمان حيث يمكن شراء أي شيء حتي لو لم تمتلك المال. أما الآن فالرأسمالية تحاول تجديد نفسها من خلال حركة "فوق الحداثة" أو "الميتا موديرن" حيث نهاية عصر القروض وكروت الائتمان، وتزايد الفجوة في الأجور، وحلم الطاقة المتجددة. وحلم الدول الناهضة كحالة البرازيل والصين. أما المحاضرة التالية فقد تحدث فيها من ألمانيا آرون شوستر مستخدماً مناهج التحليل النفسي والتراث الفلسفي الكلاسيكي وعبر 18 نقطة حاول "شوستر" إيجاد حلول للمعضلة العصرية حيث "التغيير" أصبح جزءا من إيقاع الحياة وصفة من صفات الإنسان علي حد قول نيتشه لكن في الوقت ذاته تزداد الشكوي من أننا نعيد إنتاج نفس الأشياء بلا انقطاع والتغيير الذي يحدث يمس أشياء هامشية في الأشكال السياسية والاقتصادية المعاصرة ولا ينتج بدائل حقيقية، لذا يقترح آرون تغيير طريقة تفكيرنا في التغيير نفسه. الضيف الأبرز في المؤتمر كان الناشط الماركسي والفيلسوف الإيطالي فرانكو بيراردي الشهير باسم (بفيو)، في محاضرته حاول بفيو إيجاد أرضية مشتركة بين ما يحدث في أوروبا وما يحدث في مصر قائلاً: "في العالم كله الآن هوس بالهوية. فبعد ديكتاتورية الطبقة الرأسمالية يأتي الرجوع إلي الماضي إلي العنف والتمحور حول الذات. أنه شكل جديد من الفاشية لكنها ليست الفاشية التي عرفناها قبل ذلك". وأكد بفيو ضرورة التفكير في التغيير بمنطق مختلف قائلاً: "المشكلة ليس لها علاقة بطريقة حكم الناس في المجتمع، هذه خدعة الرأسمالية، يجب أن نفقد الأمل في التغيير من خلال استبدال مجموعة بمجموعة. فالمبني العالمي للاقتصاد ينهار الآن ويجب أن نخرج منه. يجب أن نتعلم كيف نخلق عالماً ليس موجوداً". وعن دور الفن في هذا الصراع وعملية خلق ما هو ليس موجوداً أوضح بفيو أن الفن في رأيه هو انعكاس أو تمثيل للمعاناة، نري فيه ما يشبه خريطة للمعاناة الإنسانية. هو في الوقت ذاته يمثل جزءاً من "العمل المعرفي" والذي تعرض خلال العقد الأخير لعملية من الانتقاص من قدرته وإخضاعه إلي أشكال من فقدان الثقة والبطالة الواسعة والإحباط الثقافي والوحدة والمرض النفسي. وعملية الهدم تلك في رأي بفيو لا تزال مستمرة. فالتحجر الذهني من جانب الأقليات والديكتاتورية المالية هما قوتان متعارضتان ولكنهما تسهمان بنفس القدر في دعم الظلامية المعاصرة. لذا فمكان الفن في رأي بفيو هو تفعيل جسد "العمل المعرفي" وفتح الأفق للحواس، فالهدف الأهم دائما للديكتاتورية هو تدمير الحواس. الفن ضد الديكتاتورية ونمطية الرأسمالية اليوم الثاني من أيام المؤتمر حمل عنوان "لو كان الزمن تغير، ما الذي يعنيه هذا بالنسبة للفن؟" وعرضت فيه مجموعة متنوعة من التجارب التي ترصد حالة الفن في لحظة التغيير. فمن تركيا تحدث "إيردن كوسوفا" عن الفن في التسعينات. فالفن التركي الحديث كان من أكثر الفنون التي عملت علي تقويض بنيان الدولة والقيم المفروضة من قبل السلطة لكن في الوقت ذاته بدأت البنوك والشركات التجارية الكبري في تأسيس مساحات للفنون المعاصرة والموسيقي. تحول الفن التركي في التسعينات إلي أداة مهمة في المعركة السياسية كما أوضح "كوسوفا" فمع تزايد محاولات الحكومة التركية للاندماج ودخول الاتحاد الأوروبي تم استخدام الفن كحلية غربية في ثوب السلطة. كما لعبت البرجوازية التركية وخصوصاً عائلة "كوتشو" دوراً مهماً في ساحة الفن التركي المعاصر ليس فقط من خلال الاقتناء وافتتاح الجاليريهات بل أيضاً إنشاء المساحات الفنية ومتحف الفن الحديث في اسطنبول. لذا تحاول الآن المجموعات اليسارية الفنية الشابة التمرد علي هذا الوضع بأساليب وطرق فنية مبتكرة، فعلي سبيل المثال قامت مجموعة من الفنانين بإرسال دعوة افتتاح إحدي الفعاليات الفنية وعليها جزء يمكن خدشه لتظهر رسالة أخري مخفية توضح الأدوار التي لعبتها هذه العائلات في خدمة السلطة. من لبنان تحدثت رشا السلطي عن وسائل التعبير المختلفة التي أنتجتها الحالة السورية وهي في رأيها تختلف عن بقية الثورات العربية حيث استمرت لأكثر من عام بالتالي فأثر ما هو سياسي مستمر وتأثيره عميق علي الحياة اليومية. وأضافت رشا قائلة: "الصور المنتجة الآن من سوريا ليست صوراً إعلامية فقط، فالكثير من هذه الصور بلا مذيع أو فريق إنتاج بل ناس عادية يتظاهرون ويحتفلون ويقتلون بالتالي تشعر كأنك جزء من الحدث وليس مجرد متفرج. رشا في كلمتها لم تركز فقط علي الصور المنتجة من قبل المعارضة بل أوضحت كيف يحاول نظام بشار الأسد استخدام نفس السلاح، ويتجسد هذا فيما يعرف بالجيش السوري الإلكتروني الذي يقود الدعاية لصالح نظام بشار واستخدامهم لصورة حيوان الأسد في معظم تصميماتهم الدعائية. كشفت السلطي أيضاً في محاضرتها كيف يستخدم الفنانون السوريون الفن كوسيلة للاحتجاج مع التحايل علي الرقابة والسلطة. فمنذ بضعة أشهر قام مجموعة من الفنانين السوريين بشراء أكثر من ثلاثة آلاف كرة "بينج بونج". وحيث أن قصر رئاسة بشار الأسد وحاشيته العسكرية يقع في منتصف جبل قاسيون، قام الفنانون بكتابة شعارات الثورة السوريا علي كرات "البينج بونج" ثم الصعود لأعلي الجبل وقذف الآلاف من تلك الكرات التي انتهي بها المطاف للسقوط في باحات قصر الأسد وشركائه من الجنرالات. المحاضرة التالية كانت لكريستينا لي بوديسفا وحاولت فيها تفكيك نظام التقييم والمواصفات الفنية الذي علي أساسه يتم تقييم الفن في سياق السوق والبيناليهات والمجلات والمؤسسات الأكاديمية. أما تيموثيوس فيرمولين الشريك المؤسس لروبن فان دن آكير في مجموعة "ميتا مودرن" حيث توقف أمام عدد من المنتجات الفنية المتنوعة التي ظهرت في الفترة الأخيرة وتجسد في رأيه هذه الاتجاه الفني العالمي في عودة الروايات الكبري. الجزء الثاني من اليوم حفل بالعروض الأدائية والبصرية والموسيقية التي حاول من خلالها الفنانون المشاركون تتبع أثر مرور الزمن وانعكاسه علي ممارساتهم الفنية وقدم خلالها بوريس أوندريشكا، أحمد ناجي، إيلي جا، هومبرتو فيليز، وحسن خان كل علي حدة عملاً منفرداً.