دخل شد الحبل بين سلطات مدريد والانفصاليين في كاطالونيا منعطفا جديدا بعد مجمل التطورات التي تراكمت في هذا الملف الملتهب خلال الأسابيع القليلة الماضية. وأشرت المستجدات في صدده بإصرار قوي لكل طرف علي المضي قدما إلي الأمام بمواقفه المتشددة بغض النظر عن التكلفة التي يمكن أن تترتب عما سيحدث في المدي المنظور. سلطات مدريد التي بدت متفهمة لمطالب الانفصال في أقطار أخري من العالم، تحولت إلي نقيض ذلك ما أن أمسكت بيديها بجمرة هذا الانفصال الحارقة واكتوت بلهيبها، إذ لم تدخر جهدا في سبيل إقبار هذا المشروع الذي يهدد وحدة وسيادة بلاد شبه الجزيرة الإيبيرية. وهكذا بدت حاسمة وحازمة في مواجهة هذا الخطر الداهم، مما دفع بالقضية إلي منعرجات يتأكد حاليا أن مهمة السياقة فيها لن تكون سهلة ولا مريحة، وأنها تتطلب سائقين محترفين بمهارات فائقة جدا. أهم هذه المنعرجات بدأت قبل أيام بإلقاء الأمن الألماني القبض علي رئيس حكومة كاطالونيا السابق السيد كارلس بوكديمون في محطة استراحة في إحدي الطرق السيارة قريبا من الحدود مع الدانمارك. واتضح أن الاعتقال الذي باشرته الأجهزة الأمنية الألمانية جاء نتيجة وجود مذكرة بحث أوروبية تقدم بها القضاء الإسباني ضد المسؤول الانفصالي الإسباني وتضمنت مذكرة البحث تهما ثقيلة ضده من قبيل التمرد وتحويل أموال عمومية. ويذكر أن رئيس الحكومة الكاطالانية السابق فر إلي الديار البلجيكية، بعدما أصر علي تنظيم استفتاء استقلال إقليم كاطالونيا في الفاتح من أكتوبر الماضي، واستعصي علي السلطات الأمنية والقضائية الإسبانية الوصول إليه في الأراضي البلجيكية لسبب واحد يتمثل في أن القانون البلجيكي لا يجرم فعل التمرد وبالتالي لا يرتب عنه أي جزاء، وربما لهذا السبب اختار السيد بوكديمون الاختباء في هذا البلد. لكنه سقط في المحظور حينما غادر بلجيكا في طريقه إلي الدانمارك، لتصطاده الأجهزة الأمنية الألمانية لحظات قليلة جدا قبل دخوله التراب الدانماركي. والحال مختلف في ألمانيا التي تصنف الفقرة 82 من قانونها الجنائي جريمة التمرد ضمن ( الخيانة العظمي تجاه دولة ما ) وترتب عقوبة قد تصل في مداها إلي عشر سنوات سجنا نافذا. ولعل هذا ما يفسر ردود الفعل المتعددة التي تلت خبر الاعتقال، فإذا كانت وزيرة العدل في حكومة السيدة ميركل نأت بحكومتها عن التدخل في قضية قالت إنها معروضة علي القضاء، فإن المعارضة الألمانية خصوصا من قوي اليسار الراديكالي اعتبرت الاعتقال »سياسيا» بيد أن إحدي الجرائد الألمانية اختارت عنوانا رئيسيا لحادث الاعتقال له أكثر من دلالة، حينما كتبت بالبنط العريض » أول معتقل سياسي في ألمانيا ». ولم تنجح الضغوط التي مارسها أنصار بوكديمون بكاطالونيا في إخلاء سبيل زعيمهم، فلا خروج أكثر من خمسين ألف مناصر في تظاهرة ببرشلونة، عاصمة إقليم كاطالونيا واحتجاجهم أمام سفارتي ألمانيا والاتحاد الأوروبي مما قاد إلي مواجهات عنيفة مع قوات الأمن الإسبانية، ولا التصريح الناري لرفيق بوكديمون السيد روجي طوران المرشح لقيادة الحكومة الكاطالانية والذي قال فيه »ليس لأي قاض مشروعية الهجوم علي رئيس كل الكاطالانيين » أخرج زعيمهم من السجن. سلطات مدريد التي تنتظر أن تتسلم هذا الصيد الثمين كانت قد ألقت بالعديد من القادة الانفصاليين في السجن، فقد كانت المحكمة الإسبانية العليا قد قررت في الثالث والعشرين من مارس الجاري وضع خمسة من القادة الرئيسيين للانفصال رهن الاعتقال ضمنهم المرشح لرئاسة كاطالونيا السيد روجي تيرال، في حين اختار آخرون التواري عن الأنظار عبر الهروب إلي الخارج. هكذا قرر المسؤولون في مدريد الحسم النهائي في هذا النزاع الداخلي الذي وضع بلاد شبه الجزيرة الإيبيرية فوق صفيح ملتهب جدا، لأن الانفصال يعني إضعاف البلاد، وأنه لن يقتصر علي منطقة كاطالونيا لوحدها، فنظام الحكم في هذا البلد الذي اعتمد جهوية جد متقدمة زرع في بنيتها بذور الانفصال. ولذلك لم يعد مجالا لاعتبارات حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير، لأنه حينما تهدد هذه الحقوق مصالح المجتمع برمته لا بد من إلغائها ولو بإعمال وسائل عنف من قبيل تسخير القوة العمومية والاعتقال وإيداع السجن. ومهم أن نسحل أن جميع الدول الأوروبية تقريبا رجحت قراءة مدريد الرسمية لما يحدث، وسارعت في اجتماع رسمي للاتحاد الأوروبي إلي إعلان مساندتها بشكل رسمي وواضح. وهو سلوك غير معتاد من منظومة أوروبية قدمت للرأي العام الدولي مشاهد مخالفة ومواقف نقيضة في التعامل مع نفس الظاهرة في مناطق أخري من العالم. وبدا واضحا أن الدول الأوروبية بإعلانها مثل هذه المواقف فإنما تئد أجنة إنفصالية مارقة في أحشائها. • نقيب الصحفيين المغاربة