بعد إصداره عددًا من المجموعات القصصية المتتالية اللافتة للنظر، من قبيل »أشياء تمرّ دون أن تحدث فعلا» و»السيد ريباخا» و»البرشمان» وغيرها من مجموعات وكتب قصصية تبدو مغايرة للمألوف، جمع أربعًا منها هي »مصحّة الدمي» و»أريج البستان في تصاريف العميان» و»الشركة المغربية لنقل الأموات» و»اعتقال الغابة في زجاجة» في طبعة تجميعية صدرت عن دار العين بالقاهرة تحت عنوان »متحف العاهات» »2017»، يُصدر القاصّ المغربي المعاصر أنيس الرافعي كتابه القصصي الجديد تحت عنوان »خيّاط الهيئات: تحريّات قصصية مضادة في ظواهر رهاب الكون» »الصادر عن دار العين بالقاهرة، عام 2018». وهو في هذا الكتاب يستأنف سرديّته التجريبية التي تلفت الانتباه إلي نفسها وإلي الطريقة التي يُشيّد بها أنيس الرافعي كتبه القصصية في هدوء مثلما يفعل الحائك أو »الخيّاط»، و»الكتابة ضرب من الخياطة» كما يقول كيليطو الذي لا يخيط المألوف من الألبسة والأردية كما اعتاد أصحاب حوانيت الخياطة بل تراه يحيك الحكايات والأخبار والتأمّلات العليا، مستعينًا بأقمشة اللغة ودبابيسها ونسائلها. اللافت لنظر القارئ منذ الوهلة الأولي هو تخلّص المؤلف في أغلب كتبه من مصطلحي القصة القصيرة أو الحكاية بمعناهما التقليدي القائم علي الحدث المتسلسل الذي يستند بالضرورة إلي حبكة شائقة، ومستبدلًا بهما مصطلحات »عبر-نوعية» »سواء استخدمنا لغة الروائي والناقد الكبير إدوار الخراط، وهو أيضا واحد من كبار المُجرِّبين المُدهشين في مسيرة السردية العربية، أو إذا استدعينا نصوص محمد المخزنجي الذي يعدّ واحدا أيضا من التجريبيّن المتميزين في المشهد السردي العربي المعاصر» مثل »تمارين قصصية»، »ملاحظات قصصية»، »طقس قصصي»، »فوتوغرام حكائي»، »تحريات قصصية». من هذه الزاوية القصدية المُعلَنة علي أغلفة الكتب التي يرمي من خلالها المؤلف إلي البحث عن غير المألوف، أو تمديد مفهوم الحكاية أو القصة عبر حيل وأساليب لغوية ومعرفية مختلفة، يمكن مقاربة كتابه الأخير »خياط الهيئات». ينقسم »خياط الهيئات» إلي نص افتتاحي بعنوان »الكُشتبان» »وهو القُمع الذي يغطّي طرف إصبع الخيّاط ليقيه وخز الإبرة»، وبعض قطع القماش علي شكل أربع نسائل متصلة منفصلة »نسيلة1: حاشية حردة الرقبة، نسيلة2: حاشية دائرة الوسط، نسيلة3: حاشية تقويرة الكمّين، نسيلة4: حاشية حافتي البنطلون)، يجمع بينها في وحدة »الثوب/النص» الدبّاسة وثلاث غرز علي مسافات مقدّرة »الغرزة المتصلة، والغرزة التشريحية، وغرزة ساق الغراب». وما بين كل نسيلة وأخري تأتي الحكايات ذات النزوع السردي المطوّل إلي حد ما؛ لتُختَتَم ب »قفل المشابك» الذي يعلن فيه المؤلف عن ذاته المرجعية. فضلا عن ذلك، فثمة نصوص بصرية موزّعة داخل متن الكتاب لا يمكن تجاهلها؛ بعضها صور للروائي المغربي محمد شكري، وصور بعض الفنادق المغربية المرتبطة بعالم رواية شكري الأثيرة »الخبز الحافي»، وصورة واحدة للمؤلف والمترجم الأمريكي بول بولز الذي قضي شطرا كبيرا من حياته في مدينة طنجة المغربية، وأربع صور للمندالا علي شكل دائرة أو قرص، وتمثّل عددا من الرموز التي كانت تستعملها الثقافات القديمة تعبيرا عن قلق الإنسان من ميتافيزيقا الكون وغموض العالم المحيط، وكأنها تميمة كانت تقي إنسان ذلك الزمان من شر المجهول، وربما تقي قارئ هذا الكتاب أيضا أو مؤلفه من قبله. في هذا الكتاب أربع لوحات لأربع مندالات؛ واحدة من أمريكا اللاتينية وواحدة أوروبية وواحدة أفريقية وواحدة بوذية، وكأنّ كل واحدة منها تحرس زاوية من زوايا الكون أو جهات الأرض الأربعة »الشمال، الشرق، الجنوب، الغرب». ثمة مرجعيّات عدّة اعتمد عليها المؤلف في تشييد سرديته المراوغة؛ أولاها مرجعية موسيقية تجعل من حكايات الكتاب ونصوصه القصيرة وفيّة لمفهوم »الإيقاع» و»الديمومة» وهما مفهومان زمنيا يجمعان بين بنية النص السردي وبنية اللحن الموسيقي، وثانيتهما مرجعية بصرية تقتبس من الفن التشكيلي وعالم السينما، ومرجعية أدبية وثقافية تمزج الأدب بمقولات الفلسفة والفيزياء. لا يراهن أنيس الرافعي بمثل هذا اللون من الكتابة السردية علي قارئ عابر، عجول، جماهيري، وليس له أن يفعل، بل يصبو إلي قارئ يشبه خيّاط الهيئات ذاته الذي اعتاد الجلوس طويلا إلي أدواته وأقمشته ونسائله متحدّيا فعل الزمن والقلق الوجودي الذي ينطوي عليه إنسان العصر الحديث. هكذا، تشتغل سرديّة »خيّاط الهيئات»علي مبدأ ممارسة الكتابة الإبداعية بوصفها »نسيجا» أو »خياطة» لجُماع من هيئات وحالات إنسانية، يومية أو كونية، ذاتية أو غيرية أو حتي افتراضية تأمّلية. فمن جهة أولي، ينهض هذا الكتاب »المُغاير»، في شكله وفي تقصِّي مرجعياته الثقافية، العربية والغربية، والذي تتشكَّل بنيته الهندسية الرباعية علي هيئة ثوب قُدَّ من نسائل اللغة ومن خيوط مجازاتها وتراكيبها، علي استلهام طاقة النثر العربي القديم والوسيط، المعجون بنكهةٍ سرديةٍ حديثةٍ، تمثّلت في توظيف تقنيات السرد العربي إلي أقصي درجة. كما ينهض، من جهة مقابلة، علي تمثّل أشكال الحكي الصوفي التأمّلي، ومساءلته، أكثر من ركونه إلي المبدأ الذي يتغيّا لذّة سرد المواقف الغريبة أو وصف الأحداث المدهشة، رغم كونه -في غير زاوية من زواياه- لا يخلو من تتبُّع تلك الهيئات القصصية التي يطلق عليها بمهارة »تحريّات قصصية مضادة في ظواهر رهاب الكونيّات».