تكتب مي منسي فقط عما تعرفه، وهي تعرف الكثير. تكتب عن أوجاع وطن عاني الفرقة والانقسام وذاق مرارة الحروب ولا يزال، تكتب أيضا عن أوجاعها الشخصية الكثيرة والمتعددة، تقف علي الحافة بين النثر والشعر "أسلوب متدفّق ونثر نوعي، إضافة إلي نفحة شعرية تلائم الوجع الكوني الذي تعالجه" كما جاء في بيان لجنة تحكيم جائزة "البوكر" في دورتها الأولي الذي وصفها أيضا بأنها "تنجح دائما في تمجيد الذاكرة المثقلة بمآسي الحروب والفجيعة والفقدان في عالم اليوم". أما هي فرأت في وصول روايتها "أنتعل الغبار وأمشي" إلي اللائحة النهائية "لفتة تكريمية هامة" وتمييزا جميلا في إرثها الأدبي "وإن لم أكن أفكر بأن أكون يوما من بين المكرّمين". لكنها بعد هذا التقدير صارت أكثر ترقبا لجائزة "تعرّف عني وتتوجني بكرمها". تكتب علي لسان بطلتها في روايتها الأخيرة ماكنة الخياطة "لم تكن الكتابة يوما تسلية أو ترفيها. مغامرة كانت، عرقا من دم وماء" سألتها إلي أي مدي يتطابق ذلك مع رؤيتها الشخصية؟ بشكل أكثر مباشرة سألتها لماذا تكتبين؟ وأجابت:"حين امتلأت محبرتي بدم الأبرياء أمسكت ريشتي وغمستها في هذا القاني، لتشي علي تراجيدية الإنسان. ما أكتبه في صحيفتي اليومية لا يدع الأقلام تتفجر ينابيعها الدفينة. فضيلة الرواية، الحرية التي منحتني إياها لأروي ورقتي بأوجاع الإنسانية". قبل أربعة عشر عاما نشرت مي منسي روايتها الأولي "أوراق من دفاتر شجرة الرمان"، لكنها بدأت حياتها المهنية قبل ذلك بكثير، مع بدايات التليفزيون في لبنان عام 1959 مذيعة ومعدة لبرنامج "نساء اليوم" وبعده "حروف علي طريق الزوال"، وفي 1969 التحقت بجريدة النهار كناقدة أدبيه وموسيقية وفنيه ومازالت، لكن ورغم تجربتها الطويلة في عالم التليفزيون تقول إن كتابة الرواية فقط "جعلتني أرتد إلي ذاتي لأسألها عن هذه الفتاة التي كنت، عن أحلامها وخيباتها، عن ذكرياتها الحلوة والمرّة، بكلمة بسيطة، أن أسترجع "الأنا" التي فقدتها وأنا في عجلة لوضع حجر أساسي للمهنة والمعرفة". التليفزيون لم يغن طموحاتها الفكرية والأدبية لذا فكرت في دخول عالم الصحافة المليء بالتحديات "حين تكون الأقلام الذكورية في صحيفة النهار ملأت بصيتها العالي العالم العربي. كان عليّ أن أتعلّم من جديد، لأتطوّر فلا أكون مجرّد محررة أنثوية تكتب بقلم الأنثي بل أن أتساوي بالإنسان الكاتب رجلا كان أم امرأة". لكنها ورغم ذلك لاتؤمن بفكرة "الكتابة النسوية" تقول إن لأقلام النساء تاريخ من العطاء وإبداء الرأي والبروز في ساحات الصحافة والأعلام "لكني ضد الكتابة النسوية المتحزبة لجنس المرأة، إذ لا أري مجتمعا من نساء وحسب أو من رجال وحسب". اشتعال الحرب الضروس في لبنان فتح جرحا كبيرا فيها "جرح الوطن الذي لم يكن وأنا في غمرة تنقيب في أعمال الكتاب والفنانين والموسيقيين من أولويات كتاباتي". ومن وقتها بدأ عملها في الصحافة اليومية حيث كانت -ولم تزل- تضيئ بقلمها علي الآخرين، يتخذ منحي آخر "هاجس قلمي تحوّل إلي ما بات يقترفه الإنسان بأخيه الإنسان، وما يقترفه المسلحون الغرباء علي أرضي، هؤلاء الذين وجدوا في هذا الوطن مأوي لهم، فارتدوا عليه، يمعنون فيه قتلا وتشنيعا وتهجيرا". في تلك الأثناء والحرب تطول صار تفكيرها يرحل إلي كتابات تشي علي الجرائم والغزو والأحتلالات تبقي شاهدة علي ما جري في كتاب، حين لم يكن للصحيفة سوي يوم تعيش فيه. فكانت روايتها الأولي "أوراق من دفاتر شجرة رمان" الجامعة بين قدر عائلة لبنانية وقدر العاصمة بيروت التي تعيش فيها "إصابة أخي بانفصام في شخصيته، كانت شبيهة بانفصام العاصمة إلي شرقية وغربية، ما أسدي في قلبي طعنة أقوي شراسة من داء أخي". تخلص مي منسي للواقع، لما حدث فعلا، تكتب عما تعرف كما سبق واشرنا تقول:"روايتي الأولي هذه رأت النور عن دار النهار عام 1998 أي بعد انتهاء الحرب ومكوث الأخطار الحزبية والعقائدية فوق رؤوسنا. ومن الكتاب الأوّل الذي سيري النور في باريس مترجما إلي الفرنسية، انتقلت العدوي إلي روايات أخري مستوحاة كلها من واقع العنف والأجرام. "أوراق من دفاتر سجين" كان تحية كلها ألم للموسيقي الكبير الأب ألبير شرفان الذي اختطفته المخابرات السورية من الدير الذي يقيم فيه وأخفت أثره كما فعلت مع العديد من اللبنانيين. وقد حوّلت السجين هذا في روايتي إلي السجون الإسرائيلية، لما في نفوسنا من عداء وكراهية لإسرائيل مذ تهجر الفلسطينيون من أرضهم ومضوا في أرض الشتات. كذلك كانت روايتها الثالثة "المشهد الأخير" استذكارا لمسرح بعلبك الذي وضع الأسس لمسرح حديث أضاء بأهميته علي العالم العربي في التأليف والإخراج والتمثيل. وبولادة حفيدتيها سارة ولورا، عاد الفرح المنسي إلي قلبها، ومن وحي أسئلتهما أصدرت عملين مصوّرين بالفرنسية "في حديقة سارة" و"الروح لماذا علينا إعادتها" كتابان كانا بالنسبة لها "إجازة من الحرب والوجع" عادت بعدهما إلي دراما الحياة "وفي بالي المجزرة التي خلص منها إيلي الصغير بعد أن أفدته أمه بجسدها فكان كتاب "أنتعل الغبار وأمشي" الذي تبعه "الساعة الرملية" ثم "حين يشق الفجر قميصه" وصولا إلي ماكنة الخياطة". في هذا العمل الأخير ومنذ الصفحات الأولي يلح علي سؤال السيرة الذاتية، سألتها وأجابت:"ماكنة الخياطة هي تحية لأمي التي ودعت الدنيا والسؤال علي شفتيها المرتجفتين: أين ماكنة الخياطة؟ في السيرة الذاتية يتدخل الخيال، يتلاعب بالزمن، بالإطار الذي قامت عليه الحكاية ويبقي المضمون من واقع عشته وظل يوسوس في بالي بعد وفاة والدتي إلي أن رأي النور". تضيف أن الرواية هي فن الابتكار والاسترسال في المخيّلة الخصبة التي تدر علي القلم ما تعجز السيرة الذاتية عن الصرفة التلاعب به "أن نطعّم حياة عشناها بخيالنا، هذا ما يجعل التجاسر علي الحميميات ممكنا، والدخول في حيثيات شخصية بوحا يقرأه القاريء كهمسات وكأن البوح له وحده دون سواه. أنا أكتب لقاريء واحد أراه قبالتي، يرافق فصول الحكاية مشجعا". "بيروت فيّ ولست أنا فيها" تقول ردا علي سؤالي حول المدينة التي تدور فيها كل أعمالها وتضيف:"لقد اختصرتها في قلمي ووجداني وذاكرتي. ولدت فيها ودرست في مدارسها وعشت مواسمها وحفظتها عن غيب. أول موعد حب لي كان علي كورنيش عين المريسة. وأول مسرحية شاهدتها كانت في مسرح بيروت، حين اقتحمتها الوحوش وراحت تنهش لحمها، حملتها بجراحها، عصفورا صغيرا وخبأتها في صدري. بعد إعمارها، ظلت ذاكرتها القديمة في عيني، وعدت من أمسي أمشي في شوارعها وأسمع نزار قباني يتغزّل بها "يا بيروت، يا أم الدنيا يا بيروت فإذا كان للمسرح إطارا فإطار رواياتي هو بيروت". سؤال السياسة واقعا لا يمكن تجاهله سألتها عن رؤيتها للواقع العربي الآن، وهل كانت تتوقع أن يحدث ما حدث؟ وقالت إن عالمنا العربي ما زال قاصرا في تعامله مع القضايا الكبري "كأن الثورات لعبة في أيدي الصغار لا يعرفون أين ستقودهم" تؤمن بأن "اقتلاع الديكتاتوريات تدفع ثمنه الشعوب موتا وفقرا وتشردا وتدمير بلد من أسسه. وغالبا ما يدفع ثمن الثورات الأبرياء". تستشهد بالتاريخ القريب أبان الثورة البولشيفية تقول "ما زال درسا تراجيديا رهيبا علينا الاحتذاء به. عندما اشتعلت الثورة في مصر كان الصحافيون في بلدي يحييونها وكنت من عدم إلمامي بالسياسات الكبري أخاف علي مصر من بعد الثورة، لا سيما وأن ما من ثورة إلا وخلّفت ثورات من الصعب إطفاءها" لذا فإنها تؤكد علي أن ما يجري في سوريا وليبيا ومصر وتونس واليمن "لا يعد بربيع عربي في الوقت الحالي. فكم من السنين وكم من المواسم حتي تعتدل الأمور ويجد السلام مكانا له؟". ما خلفته تلك الثورات من صعود للتيارات الإسلامية كان ملمحا أساسيا وواضحا تستهجنه مي منسي لأن الإسلام في وجهة نظرها "دين له ركائزه الاجتماعية والإنسانية والفلسفية في ضمائر الشعوب الإسلامية لذا أستهجن أن يتحوّل كل هذا إلي تيارات تحارب وتناضل باسم الدين" فالدين كما تراه "صلاة وصوم وزكاة وإيمان ومحبة ومشاركة بين الإنسان وأخيه.، لا سياسات تعسفية، تقف عائقا أما تطور المرأة وحقوقها، وتفرش جناحها رقابة تعسفية علي الإبداع والخلق والتقدم".هي برغم هذا كله متفائلة فيما يخص مستقبل الكتابة، تقول:"مع كل ثورة وحرب يولد أدب يتشرب من الأحداث فيتفاعل معها إلي أن تعطي منها ثمرا علي الفكر والفن والإبداع. الأدب سيكمل طريقه كما في السابق، لكنه سيضيف إلي محصوله السابق محاصيل جديدة تغني اللغة والأسلوب".