خمسة علي الأقل من المشايخ المنتسبين إلي الأزهر في مصر اقترنت أسماؤهم بطباعة »ألف ليلة« في القرن التاسع عشر، أضف إليهم ثلاثة علي الأقل من مشايخ الهنود الذين أشرفوا علي طباعتها في مدينة كلكتا بالهند، وهم مثال علي غيرهم في أقطار إسلامية متباينة، ومع ذلك لم يتحرج أحد هؤلاء من تصحيح متن الليالي وتقديمه إلي القراء، ولم يشعر واحد منهم بغضاضة في الإشادة بقيمة ذلك المتن وروايته بكل ما انطوي عليه من خصائص وأساليب، أوتضمنه من أحداث ووقائع وشخصيات ومشاهد ونزعات، بل أكد كل واحد منهم، كما أكد غيره، قيمة المتن الذي احتفي بطبيعته الأدبية في سماحة لاتعرف التزمت الأخلاقي، ورحابة وعي ينفر من لبسة الرياء والتصنع باسم أي نوع من أنواع التأويل الاعتقادي أوالتصلب الاجتماعي وكانوا جميعا يسيرون سيرة السلف الصالح في إرسال النفس علي السجية والرغبة بها عن التزمت والتصنع ولذلك كان من الطبيعي ألا يمتد الشيخ عبدالرحمن الصفتي، في طبعة بولاق الأولي ، بقلمه إلي المتن إلا ليصوِّب اللغة من «ركاكة الغلطات السخيفة» للعامية، مؤكدا إعراضه عن استهجان «المعاني الكثيفة» التي أدرك أنها بعض ما يلازم الخصائص الأدبية للمتن ويلزم عنها ومضي علي أثره الشيخ قطة العدوي في طبعة بولاق الثانية بما يدل علي تقديره للمتن الذي يتضمن من فنون النوادر والآثار وأنواع الحكايات والأخبار ما يتسلي به المحزون، ويفيد المتطلع إلي مافيه من حكم وفوائد ونصائح ومواعظ وقد بذل الشيخ من الجهد ما رآه ضروريا للوصول بلغة المتن إلي ما تؤدي به الغرض الذي وضع من أجله، وهوتحقيق الفائدة والمتعة من حكايات الليالي، لكل مطالع وناظر وسامع، سواء كان من الخواص الأعلام أوزمرة العامة العوام وفي الإشارة إلي «كل مطالع وسامع وناظر» مايدل علي تعدد مستويات تلقي ألف ليلة، ومراوحتها بين عوالم الخاصة والعامة، وتقلبها مابين آليات الإرسال الكتابي والشفاهي وقد مضي الشيخ طه محمود قطرية في اتجاه سلفه الشيخ قطة العدوي، فختم نسخة المطبعة الوهبية سنة 0881م بحمد الله الذي قص علي نبيه أحسن القصص، وأباح لأمته فنون الرخص من الحكايات التي تعينهم علي احتمال النوازل، مؤكدا مكانة الكتاب التي تغني عن الإطناب في مدحه، إذ العبارة تقصر عن الإحاطة بمحاسنه، والبليغ لا يتسهل له نعت ماكمن من اللطائف في مكامنه وفي إشارة الشيخ قطرية إلي «أحسن القصص» ما يؤكد علي سبيل التضمين أن فن القص من الفنون المندوب إليها، وأن فائدة الليالي المنتسبة إلي هذا الفن قرينة إباحته للناس، تحقيقاً لألوان المتعة والإفادة لعامة المسلمين وخواصهم أما الشيخ عثمان عبد الرازق صاحب المطبعة العثمانية فختم طبعته سنة 4881 بحمد الله علي طبع كتاب الليالي الذي يحوي من عجائب الأخبار ما يبهر العقول، ويضم من غرائب الأنباء ما يجاور بين بدائع المنقول والمعقول، فهوبغية أرباب الآداب ومرمي النظار والسمار والأحباب ، لأنه كتاب يكفي الطالب له عن كثير من دواوين الأخبار والتحرير وتلك هي الألفاظ نفسها التي نقلها الشيخ ابراهيم الفيومي في خاتمة الطبعة الثالثة من طبعات المطبعة الشرفية سنة 6981، غير بعيد عن المعني الذي فهمه هؤلاء جميعا عن مفتتح الليالي الذي جعل من سير الأولين عبرة للآخرين، لكي يري الانسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر، ويطالع ماجري للأمم السالفة فينزجر ولم يفت ذلك المعني الشيخ أحمد كبير الذي أشرف علي طبعة كلكتا الثانية في الهند، فاستهل الربع الثالث منها بالإشادة بما تتضمنه الليالي من الحكايات والروايات التي يستلذ بظواهرها أرباب الظواهر، ويشتغل بمبادئها أصحاب النواظر في البواطن، فيعتبر بمعانيها من له نظر في عواقب الأمور، بوصفها كتاب عبرة لمن اعتبر، وخبرة لمن استخبر، ومسرة لمن تضجر، ومشغلة لمن تنغص بالغير ولايمكن لكتاب يستحق أن يكتب بالإبر علي آماق البصر أن ينشغل بظواهره الباحث عن بواطنه، أويتحرج من بعض دواله من يفهم معاني مدلولاته، فالسماحة في تقبله هي الوجه الآخر من إدراك غاياته، فهزله بعض جده، وإحماضه سبب إجمامه، ومضحكاته لوازم مبكياته، ومايشد العامة إليه هوأول الظاهر الذي يستدل به الخاصة علي ماوراءه وذلك موقف يستند في تبريره إلي المعقول والمنقول، ويتواصل مع التقاليد النقدية والبلاغية التي دافعت عن الأدب في وجه الهجمات الأخلاقية التي استند بعضها إلي تأويلات اعتقادية جامدة وبقدر ماجمعت هذه التقاليد بين الشعر والنثر، ووصلت فتنة النظم بمتعة السرد، أكدت قدرة الإبداع عموما علي الكشف عن »الأخلاقي« فيما يبدوخارجا علي الأخلاق المألوفة،وأبرزت أهمية استنارة العقل في عدم الانغلاق بالنص علي معني واحد وميزت بين المعاني الأولي الخاصة بظواهر الكلام والمعاني الثواني التي هي المقاصد الباطنة من الكلام، بما يفتح النص الأدبي علي أفقه الخاص، بعيدا عن المعاني الحرفية والنواهي التسلطية والقوالب الجامدة لمن ينصبون أنفسهم أوصياء علي غيرهم، ظنا منهم أنهم يحتكرون معرفة الحقيقة دون سواهم
ولم يكن المشايخ الذين قاموا علي تصحيح «ألف ليلة» في حاجة إلي الدفاع عنها ضد من يقذفها بالباطل، أويتهمها بإفساد الأخلاق، أويسعي إلي مصادرتها من الأسواق، أوتجريم من يطبعها ويقوم بتوزيعها، لسبب بسيط هوأنه لم يكن في زمن هؤلاء المشايخ من يستنكر الليالي، أويستقبح متنها أوبعض عباراتها وألفاظها ولم يجد هؤلاء المشايخ في تراثهم هجوما علي الليالي أوعلي مادخل في بابها مما هوشبيه بها، أوحتي علي ماتوغل في المناطق المظلمة لبحور المعاني الكثيفة التي حامت الليالي علي سواحلها، فقد استقر في خلد الجميع ما انتهت إليه الأفهام الثاقبة من التمييز بين الجمالي والأخلاقي، حتي لووقع تداخل بينهما، فالأول ينتمي إلي عالم الفن الذي يتوسل بالرمز والمجاز، التمثيل والإشارة، ولايعرف ثبات الدلالة أوالمعني الحرفي، ويعلوعلي المعني الضيق للمنفعة الاجتماعية المباشرة أوالتوصيف الجامد للأخلاق الوقتية والثاني لايتصل بالأول إلا اتصال المدلول الواحد بالدال الذي تتعدد مدلولاته في الدلالة التي ترتقي بالانسان من مستوي الضرورة إلي مستوي الحرية، عبر وسائط مراوغة، وتقنيات متنوعة، وأساليب لا ضفاف لثرائها في تحقيق غاياتها التي هي عبرة لمن اعتبر وآية ذلك ما ردّ به ابن المعتز الشاعر الناقد علي أبي بكر نطاحة الفقيه الذي هاجم الشعراء لخروجهم علي الأخلاق، فكتب إليه ابن المعتز يذكره بأن الشعر لم يؤسس علي أن يكون المبرز في ميدانه من لم يغو بصبوة، أويرخص في هفوة، أويكسب شعره معارض الحق ولوسلك أحد بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتُقدمين أمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد العبادي، إذ كانا أكثر تذكيرا وتحذيرا ومواعظ في أشعارهما من امرئ القيس والنابغة والأعشي وهل يتناشد الناس أشعار هؤلاء وأمثالهم، علي تعيهرهم فيما يقول ابن المعتز، إلا علي ملأ من الناس وفي حلق المساجد؟ وهل يروي ذلك إلا العلماء الثقات الموثوق بصدقهم؟ ومانهي النبي صلعم ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر
وقد امتد أبوبكر الصولي بعبارات ابن المعتز إلي بعد آخر من أبعادها في قوله الموجز الدال »ماظننت أن كفرا ينقص من شعر ولا أن إيمانا يزيد فيه« وهوقول يصل بالتمييز بين الشعري من ناحية وبين الأخلاقي أوالاعتقادي من ناحية ثانية إلي ما يؤسس مبدأ عاما يتميز به الفن في أفقه الخاص الذي لايتناقض مع الأخلاق أوالاعتقاد بالضرورة، بل يتميز عنهما في وسائطه وتقنياته وعلاقات دلالاته بنوع خاص من معرفة المتعة أومتعة المعرفة التي لا تتحقق إلا بالفن وأتصور أن الجاحظ كان علي قدر كبير من الوعي بهذا النوع من المتعة التي يحققها الفن بأدواته الخاصة، وعلي رأسها النظم والصورة، في كل ألوان الفن الأدبي، فتحدث عن الشعر الذي يتميز بأنه ضرب من النسج وجنس من التصوير، وذلك بالقدر الذي أوضح به أهمية الصورة والنظم في مجالات النثر بعامة والسرد القصصي بخاصة، ولذلك أكد في غير موضع من كتاباته أن الإعراب يفسد نوادر المولِّدين، كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب، لأن سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة وتلك العادة، فإذا أدخلت علي هذا الأمر مايغير منه انقلب المعني مع انقلاب نظمه وتبدل صورته ووصل الجاحظ بين خصائص الكلام ومقتضي الأحوال بما أبرز العلاقة بين الصياغة والمقام، وبين النظم والوظيفة، وبين تعدد المقامات السردية وتنوع مستويات اللغة الحوارية، فذهب إلي أن لكل ضرب من الحديث ضربا من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوعا من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والإفصاح في مواضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والسخافة في موضعها الذي لايختلط بالجزالة، قط، أويأخذ بأكظامها وبقدر تأكيد الجاحظ الأفق الفني الخاص الذي تتميز به بلاغة السرد، وذلك ضمن اهتمامه بأنواع القص الصاعدة في عصره، هاجم الذين يميلون إلي التصنع في التورع، وينفرون من صراحة السرد في موضوعات الجنس علي وجه التحديد، فرماهم في كتابه «الحيوان» بالرياء والنفاق اللذين يكشفان عن لؤم مستعمل ونذالة متمكنة، وروي عن الصحابة والسلف الصالح من الأبيات والأقوال التي لا حياء في معانيها أوإشاراتها الجنسية مالا تسمح به الرقابة المعاصرة، ومالا يمكن أن تنشره «الحياة» اليوم، وقد أنشد بعضها عن عبدالله بن عباس الذي قالها في المسجد الحرام دون غيره، وذلك كله ليثبت بالنقل، إلي جانب العقل، أنه لاحرج في إنشاد الشعر أورواية القص مهما حمل من كلمات أوعبارات، وأن تباين مقامات السرد يفرض تباين أحوال الأساليب والمسميات، ومن ثم حرية النظم وصراحته في صياغة صور المواقف السردية متغايرة الخواص ولقد سار علي أفكار الجاحظ المعتزلي تلميذه ابن قتيبه الذي انقلب عليه وانحاز إلي أهل النقل من الحنابلة، لكنه ظل يؤكد ماسبق أن تعلمه عن الجاحظ، وما أصبح تقليدا متبعا في البلاغة العربية، من ضرورة الحفاظ علي تباين أحوال المقال بتباين مقتضيات المقام، فاستهل ابن قتيبة كتابه «عيون الأخبار» بتحذير المتزمتين والمتنسكين والمتشددين فيما يترخص فيه غيرهم، مؤكدا أنه لم يكتب كتابه لهم وحدهم، وإنما كتبه لكل من يمكن أن يطالعه أويقبل عليه، كأنه مائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين ولذلك راوح الكتاب علي طريقة الجاحظ بين الهزل والجد علي قاعدة روحوا عن القلوب فإن لها سآمة كسآمة الأبدان وأفصح في ذكر العورات لأن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب وترخص ابن قتيبة في إرسال اللسان بالرفث عند كل حكاية أورواية تذهب بطلاوتها الكناية عنها، ويفسد متعتها التعريض بدل التصريح وأبقي علي اللحن في نوادر الأعراب التي يذهب الإعراب بما فيها من موضع الاستطراف وأكد ابن قتيبة أنه يجري في ذلك كله علي عادة السلف الصالح في إرسال النفس علي السجية والرغبة عن لبسة الرياء والتصنع وليست هذه النتيجة بعيدة عما انتهي إليه أبوالحسين بن وهب في كتابه »البرهان في وجود البيان« في القرن الرابع للهجرة، خصوصا حين جمع بين الشعر والنثر في مبدأ واحد، هومبدأ التنوع الذي يبقي علي نشاط الذهن وحيوية النفس، مدركا أن تلقي أنواع الفن المختلفة يحتاج إلي ترخص خاص به، يراعي تباين مقامات الأداء وتغير شروط الاستقبال، فمخاطبة الناس علي مقادير عقولهم تستدعي هذه المباينة، مثلها مثل حكاية الأحوال التي تؤديها الرواية ولذلك استخدم الحكماء السخيف من الكلام في خطاب من لا يعرف غيره من العامة، وحكي المؤدون الألفاظ السخيفة علي ماهي عليه في النوادر والمضاحك وما أشبهها من الحكايات التي متي حكاها الانسان علي غير ماهي عليه خرجت عن معني ما أريد بها، وبردت عند المستمع إليها، فليس علي حاكيها عيب في سخافة لفظها، بل العيب عليه إذا قلب الكلام عن جهته وقد تواصلت هذه الأفكار التي تحولت إلي تقليد ثابت ومبدأ مقبول في بلاغة السرديات العربية، فلم نسمع عن هجوم قديم علي الليالي، أوتزمت متصنع في الكتابة عن الجنس أوغيره من محرمات عصرنا، أوحجر علي أحد بدعوي الأخلاق في الكتابة، فقد اتفقت الاجتهادات الأساسية في الحضارة العربية علي إرسال النفس علي سجيتها في الإبداع، ومراعاة تباين أحوال المقال بتباين أحوال المقام، سواء في الشعر أوفي النثر، في أشكال السرد العام أوألوان السرد القصصي الخاص ودليل ذلك اتفاق ابن المعتز السنيّ الحنبلي مع الجاحظ الاعتزالي، واتفاق ابن قتيبة النقلي مع نقيضه الجاحظ العقلاني، واتفاق ابن وهب الشيعي مع نظائره المتأخرين من أهل السنة أوالمعتزلة أوغيرهم من طوائف المؤلفين والكتاب الذين لم أذكرهم اكتفاء بالأمثلة الدالة عليهم، في تنوع المذهب وتباين الانتماء الفكري أوالاعتقادي أوالسياسي، فالقاسم المشترك بين الجميع هوالتسامح في المقال بما يتيح الاستجابة إلي تباين المقام، وفهم أحوال المقام بما يصل بين سياقات النص الداخلية وسياقاته الخارجية، في عملية الاستقبال والتلقي التي هي معطوفة علي عملية الإرسال والإنتاج ولذلك لم يشعر المشايخ الأزهرية الذين قاموا بتصحيح »ألف ليلة« وتقديمها إلي الجمهور بما تضيق به صدورهم، وكانت استجاباتهم السمحة إليها استجابة من يعرف تراثه ويتمثل تقاليده الرحبة في إطلاق إبداع النفس علي سجيته