هل من حق البرلمان أن يحدد سياسيات التعليم، أو بشكل أكثر تحديدا هل من حق الفصيل السياسي الفائز بالاغلبية أن يقرر كيف ستكون العملية التعليمية خلال الفترة التي يتولي فيها هذا الفصيل حق ادارة الامور بحكم كونه يشكل "الاغلبية البرلمانية"؟ ربما تبدو هذه الاسئلة بديهية بالنسبة للبعض، فالاغلبية في البرلمان وخاصة في الدول ذات النظام البرلماني هي التي تشكل الحكومة وبالتالي تدير كافة أمور البلاد من السياسة الخارجية الي الاقتصاد وايضا التعليم. ربما في الحالة المصرية تبدو هذه الاسئلة "البديهية" في حاجة الي مزيد من الطرح والي التخلي عن الحكم ببديهيتها، لان البرلمان الحالي لم يأت عبر عملية انتخابية عادية تجري في مصر منذ زمن طويل، ولكن البرلمان الحالي كما هو مفترض جاء نتيجة "ثورة" يفترض انها اطاحت بنظام سابق ويفترض ايضا انها ستحدد معالم نظام جديد يختلف عن النظام الساقط. ايضا حالة "الاغلبية" الفائزة في البرلمان المصري المتشكل حديثا، حالة خاصة فالاغلبية الاسلامية في البرلمان من اخوان وسلفيين، عانت بالفعل لعقود طويلة من القمع والاستبعاد من العملية السياسية، وايضا دخلت لعقود طويلة في مفاوضات وتوافقات مع النظام السابق من اجل الاستحواذ علي مساحات تسمح لها بالتأثير المجتمعي، فاذا كانت تفشل في الوصول للبرلمان، فهي لم تفشل في الاستحواذ علي النقابات المهنية، برعاية النظام ايضا. لم يكن الاسلاميون يستطيعون الظهور في اعلام دولة مبارك، ولكن اجهزة تلك الدولة سمحت لهم بالاستيلاء علي المساجد في كل ربوع مصر تقريبا، وهو الامر الذي مكنهم من بسط مناخ لن نقول انه مناخ اسلامي تماما ولكنه مناخ محافظ دينيا بشكل كبير. اذن كانت اللعبة طوال الوقت تدور حول السيطرة علي "القوة الناعمة" في المجتمع، من يستطيع تشكيل ذهنية المجتمع وبأي وسيلة، لذا تأتي مطالبات الاخوان والسلفيين بتولي وزارتي التعليم والاعلام من اجل احكام السيطرة علي مصادر القوة الناعمة وهذه المرة سيسيطرون علي مصادر الدولة نفسها. في هذا السياق ربما تبدو الاحاديث التي تصدر من حين لآخر علي لسان إحدي القيادات الاخوانية او السلفية حول منع شرب الخمر، او منع ارتداء المايوهات، او حتي تغطية التماثيل العارية، امورا كوميدية، يمكن مقاومتها بسهولة، لكن عندما يتولي هذا الفصيل السياسي تحديد سياسات التعليم وبالتالي تشكيل عقول اجيال قادمة، يصبح هذا الامر اكثر عمقا وخطورة اذ ان المسالة تتعلق هنا بما يمكن ان نسميه تغييراً في جينات المصريين. وهو ما يضعنا امام تساؤل اخر ماذا لو لم تستطع الاغلبية الحالية انجاز ما يطلبه جمهور الناخبين خلال الفترة البرلمانية التي كانت فيها اغلبية، وبالتالي اختار الناخبون في الانتخابات المقبلة فصيلا سياسيا آخر، له رؤي وسياسيت مختلفة او مناقضة للاسلاميين، هل سيتم تغيير كل ما سبق، الا يقودنا مثل هذا الامر الي حالة من الضياع والاهتزاز. ربما لا يزال الكثير يتذكر حالة الارتباك التي صنعها كل من فتحي سرور، وحسين كامل بهاء الدين حال توليهما وزارة التربية والتعليم، حيث قام الاول بالغاء سنة من التعليم الابتدائي، ليأتي الاخر بعد عدد من السنوات ليعيد السنة الملغية، ومهرجان "سنوات التحسين" في الشهادة الثانوية التي افرزت جيلا من الطلبة المساكين الذين يحصلون علي 110٪. هذه العينة من الارتباكات تمت علي مستوي الاجراءات بينما ظل لب العملية التعلمية كما هو بدون اجراء اي تطوير ملموس. وتضعنا مطالبات الاسلاميين الان بالحصول علي وزارة التعليم، امام حالة ارتباك اوسع اذ من المنطقي ان يطالبوا ايضا بتغيير المناهج التعليمية بما يتفق مع رؤيتهم للمجتمع. وهذا يضعنا مرة أخري امام "السؤال البديهي" الاول هل من حق الاغلبية ان تشكل عقل المجتمع؟ وفي حال جاءت اغلبية اخري، ماذا سيحدث لهذا العقل؟ أمل حمادة الاستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تفرق بداية بين "سياسات التعليم" وبين "مناهج التعليم" فسياسات التعليم هنا تتعلق بانشاء مدارس جديدة، او الاستقرار علي العدد الحالي، بتحسين اوضاع المدرسين، بتحديد اي من التخصصات العلمية يحتاجها المجتمع في المرحلة التي يتولي فيها هذا الفصيل السياسي او غيره توجيه دفة البلاد بحسب رؤيته الايديولوجية لهذه الادارة. بينما "مناهج التعليم" مسألة اخري علي الاقل نظريا يضعها مجموعة من الخبراء والمتخصصين بحسب الرؤية العامة للدولة، وتواصل أمل حديثها قائلة "في الدول ذات النظام الديموقراطي المستقر هناك نوعيم من الاحتياجات التي تراعي عند وضع المناهج التعليمية النوع الاول من الاحتياجات هو ما يحمل طابع قوميا، والنوع الثاني يحمل طابعا جغرافيا، ففي الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال لا يوجد منهج تعليمي واحد في كل الولايات، ولكن هناك قيم عامة يتم مراعاتها في جميع البلاد وهي ما تتعلق بالمواطنة والديموقراطية الامريكية، بينما تحتفظ كل ولاية بحقها في صياغة هذه القيم بالشكل المناسب مع وضعها الجغرافي لذا يمكن ان نجد تشديدا اكثر علي قيم مثل قبول الاخر، والتسامح في الولايات ذات التعدد العرقي والاثني مثل نيويورك اكثر مما يمكن ان نجده في مناهج ولاية اخري اكثر انعزالا وهدوءا. انطلاقا من هذا يصبح من حق الاغلبية الاسلامية في البرلمان ان تحدد سياسيات التعليم في مصر في الفترة القادمة، لكن مناهج التعليم اذا كانت الاغلبية تحترم تاريخ هذه البلاد فمن المفترض ان يضعها خبراء متخصصون في التعليم بمعزل عن تقلبات العملية السياسية. وحول امكانية تشوية او حذف او صياغة المناهج التعليمية بما يتفق مع الرؤية السياسية للاغلبية، تري أمل ان هذا ربما يكون متوقعا لان "المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ". احمد عبد ربه استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة يتفق مع حمادة في كثير من النقاط ويري ان محور الصراع دائما يتعلق بمواد "التاريخ" و"التربية القومية"و "الدين"، ويذكر عبد ربه بتجربة دولة ناصر التي اعادت صياغة هذه المناهج لتبدو مصر وكأنها خلقت فقط عام 1952، لكن يري احمد ايضا انه من الصعب الحكم حتي الان علي ما ينتوي الاسلاميون فعله في العملية التعليمية، لانهم لو ادركوا معني العملية الديمواقراطية، وما تفرضه من تغيير دائم، واحترام لعقول المجتمع الذي جاء بهم كأغلبية ويمكن ايضا ان يأتي بغيرهم، فلن يلعبوا في هذه المساحة. أمل حمادة تري ان هناك فرقا كبيرا بين ما حدث في 1952 وما يحدث الان، ففي الاولي التغيير جاء من اعلي وبالتالي كان "الشعب" مفعولا به، لكن هذه المرة المسألة مختلفة، فالناس هي التي صنعت التغيير، وايضا تأتي مسألة الحصول علي المعلومات لتصنع فارقا اخر ضخما، ففي الخمسينات كانت الدولة هي المصدر الرئيسي للحصول علي المعلومات وبالتالي كانت تستطيع التحكم في المجتمع، بينما الان الجميع يستطيع الوصول الي المعلومات وبالتالي يصعب جدا علي اي سلطة حتي لو كانت سلطة الاغلبية ان تتصور انها قادرة علي اللعب منفردة.