الحكاية أن كاتبا يفقد ثقته بالكلمة إلي حد اعتبارها قد تعهرت، فيتمني لو أنه يرسم، بل ويحاول الرسم فعلا، وفنان مغترب لم يعد يكتفي بلغة الخط واللون والكتلة، ويريد "البوح" بالكلمات. تبادل الثنائي عشرات الخطابات التي أفرزت في النهاية واحدا من أمتع كتب الرسائل وأكثرها عمقا. الكاتب هو عبد الرحمن منيف، والرسام هو مروان قصاب والكتاب صاحب العنوان الموفق جدا هو "أدب الصداقة" والصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار التنوير. الرسائل لم تكتب بغرض النشر كما يوضح د.فواز طرابسي في تقديمه للكتاب، لكن تقرر نشرها بعد وفاة منيف بمبادرة من سعاد قوادري منيف ومروان "ولاشك عندي بأن عبد الرحمن كان سيوافق لو سئل". بدأت المراسلات حين استعصت الكلمات علي منيف، أو فل نقل بعد أن اكتشف كذبها وعبثها، اكتشف أن اللون وحده لايزال قادرا علي أن يقول الأشياء بشكل جديد ومختلف، في حين أصبحت كل الوسائل الأخري من فرط ما استعملت- غير قادرة علي أن تقول شيئا "لاتزيد علي كونها ممارسه للعادة السرية" وهذا ربما سر عبثها وقسوتها معا، وهذا ما يجعلها عصيه في أحيان كثيرة علي إعادة التكوين والتجدد "كلمات..كلمات..كلمات ولاشيء في النهاية". الرسم أمنيه منيف التي لم تتحق، أو فل نقل أنها لم تتحقق كما أراد، فالكاتب الذي ذادت اعماله علي العشر روايات كان يتمني أن يصير رساما! هو نفسه يعترف بذلك "لو لم أكتب لرسمت" لكن وحدها الموهبة جعلته يتردد ويتراجع، في الوقت نفسه تقتله الكلمات بعهرها وكذبها "الغليان الذي يملؤني، والذي يفيض باستمرار لا يمكن أن تستوعبه الكلمة المعهرة والتي أصبحت شائعة إلي درجة أنها لا تقول شيئا البتة، أو تقول الأشياء كلها دفعه واحدة، وبالتالي لا معني لها. هذه خاصية الكلمة، إنها طريقة استعماليه إلي درجة آلية، مما يفقدها سحرها، بكارتها، لحظة انفجارها، وربما كان التشكيل وحده يمتلك خاصية تجعله مختلفا". التقت مسيرتا منيف ومروان في منتصف الخمسينات في اطار مجموعة من المثقفين الشباب التي كانت تنشط من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي في دمشق. عندما غادر مروان إلي برلين ومنيف إلي بلجراد، انتقطع الاتصال بينهما حتي عام 1992 حين دعي منيف الي القاء محاضره في برلين وزار مروان في مشغله، كانت تلك الزيارة بمثابة توطيد لصداقة حميمه ومديدة، وبقيا بعدها علي اتصال عبر الرسائل يتبادلان فيها الاراء حول الادب والفن والعالم والكون، حافظ منيف في رسائله الحارة التي كانت تحمل معاني الصداقة الحقيقة علي قواعد المراسلة بينما اتخذت رسائل مروان شكل يوميات تضمنت تدفقا للمشاعر والوعي مع رسوم ولوحات صغيرة، طريقة في الكتابه وصفها منيف بأنها كلقاء المسافرون في المحطات، يتبادلون الأخبار السريعة لكن لا يمهلهم الوقت أبدا "أصبحت حالنا كذلك، إذ لا يكاد الواحد يبدأ حديثا حتي يحين وقت السفر، ولابد أن يلتحق بالقافلة" وهكذا دائما تبقي الأحاديث مبتورة، سريعة، وبحاجة الي وقفات أطول لكي تستكمل، وكان واضحا من خلال المراسلة بينهما أنهما سيحققان مشاريع مشتركة، وقد حدث. بدأ منيف في مراسلة صديقه يحدثه عن الفن، والرسم والكلمات، حتي انه نفسه لم يكن يعرف لماذا يكتب عن هذه الأشياء بالتحديد ولا إلي أين تقوده الرسائل، إلي أن يقرر تأليف كتاب عن صديقه الفنان، ويوافق الفنان علي أن يبوح بما لديه عن حياته وفنه، وهكذا يدور القسم الأول من المراسلات، التي ظهرت بعد ذلك في مشروع الكتاب الذي صدر بعنوان "مروان قصاب باشي:رحلة الحياة والفن" عام 1966 لكن أسئلة منيف التي كانت النواة لهذا الكتاب لم تكن اسئله عادية يسأل مثلا: هل كان أحد في العائلة يهتم بالفن، بالمعني العام والواسع:الغناء، الزخرفه، العزف علي آله موسيقيه؟ ثم في الرسالة نفسها- إذا طلب منك أن تختار لونا الرسم؟ حتي تصل الاسئلة إلي ما هو الله؟ وماذا يعني لك الزمن؟. عشرات الاسئلة تتوالد تلقائيا في راسه اعتبرها دفعه أولي والفنان الساكن برلين منذ عقود، يجيب في رجع ذاتي إلي طفوله في جنه مفقودة اسمها دمشق. حيث ترك مروان مسقط رأسه دمشق عام 1957 لدراسة الفن في كلية الفنون ببرلين وعين فيما بعد أستاذا في ذات الجامعة ودخل عالم الفن هناك من أوسع أبوابه، وكسب شهرة عالمية، ويعتبر مروان من أكثر الفنانين الذين كتب عنهم منيف، وفي المقابل ومنذ منتصف التسعينيات ساهم مروان بتصميم وإخراج كتب منيف بشكل كامل، وباتت رسوماته تظهر علي أغلفه هذه الكتب وأحيانا في صفحاتها الداخلية، ومعظم هذه الرسوم كانت مرسومة خصيصا لكتب منيف. منيف أحد رواد الرواية الأكثر التزاما والأوفر انتاجا بعد نجيب محفوظ، ويحظي بمتابعة شريحة واسعه من القراء العرب، كما أنه حصل علي جائزة سلطان العويس، لكنه ربما كان قليل الظهور والكلام، أصدقائه المقربين ونقاد أدبه يؤكدون أنه عرف دائما بمشاعر إنسانيه عميقه وطاقه واستقلاليه قلما تجد لها مثيلا، وبكونه روائيا مخلصا للحقيقة، الكتاب يكشف جانبا ربما كان غامضا في شخصيه منيف، كيف كان يكتب؟ وكيف كان يتعامل مع ما يكتبه؟ في إحدي رسائله يتحدث عن رواية "أرض السواد" درة أعماله فيقول إنه ظل سنوات يبحث عن "مفتاح" الرواية، وانه بعد أن وجد هذا المفتاح تولدت لديه غبطه هائلة، حاله انقشاع كامل للضباب والغيوم والحيرة والضيق، اللافت أنه يذكر انه كان قد كتب بالفعل فصولا في هذه الرواية لكنه بعد أن وجد المفتاح حاول أن يقنع نفسه بأن كل مافعله كان مجرد "تسخين..مثل لاعبي كرة القدم حين يهرولون دون وعي ودون هدف، فقط من أجل أن يستعدوا للدخول إلي الملعب". المفتاح بالنسبة لكن كان مجرد ضوء يؤكد له انه يسير علي الطريق الصحيح "أقول بصراحة أنني أري ضوءا، لكن لا اعرف إلي ما يقود، والي اي ساحل، سأدع تلك الحاسة الغامضة تقودني، ولابد أن أصل". الواضح أيضا أنه لم يكن ممن يرضون عن أعمالهم، فرغم ما حققته "أرض السواد" من نجاح إلا أنه وبعد أن انتهي منها أراد أن يتوقف وقفه طويله، لكي يجرب ويتأمل احتمالات أخري "صحيح أن ماكتبته مجرد مقدمه، لأن ما سيلي أهم بكثير، لكن لا أجد في نفسي الاستعداد أو المزاج الكافي لذلك، وعليه لابد من وقفه، وإعادة النظر".