"صدفة" ألقت بالباحث الأمريكي الشهير والتر أرمبروست إلي مصر في وقت الثورة. بروست الذي يعمل استاذا بجامعة أوكسفورد جاء قبل ستة شهور من الثورة من أجل مشروع بحثي عن " تاريخ وسائل الإعلام المصرية منذ نهاية الحرب العالمية وحتي عام 1975) .. ولكنه وجد نفسه في قلب " ثورة"، لم يكن من قبل مهتما بالسياسة بالأساس، اهتماماته ثقافية وفنية وتشهد بذلك كتاباته السابقة الهامة: (الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر)، (الرجولة المتخيلة) الذي يفكك فيه نموذجي الممثل فريد شوقي وصدام حسين باعتبارهما نموذجا للذكورة السائدة في الوطن العربي، (مقاربات حول الثقافة الشعبية في الشرق والأوسط) ..فضلا عن مئات الأبحاث حول السينما المصرية والثقافة الشعبية. ورغم عمله في مشروعه الاساسي الذي جاء من أجله، إلا أنه بدأ أيضا في التفكير في عدد من الأبحاث حول الثورة المصرية..كانت البداية دراسة مطولة بعنوان :" سالي زهران: أيقونة الثورة"، " الثورة ضد الليبرالية الجديدة"... كما يعمل علي دراسات أخري تحديدا عن " التصور الطبقي للشهداء". -1- في 25 يناير ، ذهب والتر بابنه الصغير إلي "حضانته" في الزمالك، وعاد سيرا إلي وسط القاهرة حيث يقيم، في الطريق كانت التكثيفات الأمنية شديدة وغير معتادة حتي في التظاهرات العادية، ثمة توتر واضح في أداء الجنود. يومه أدرك أن هناك شيئا مختلفا في الطريق ..عاد مرة أخري الي الصغير ليعيده الي البيت .. هل توقع أن الشئ المختلف هو الثورة؟ يضحك: " الناشطون أنفسهم لم يتوقعوا ثورة، خرجوا فقط من أجل إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، وإدانة التعذيب في سجون النظام". ولكن كيف يقرأ أرمبورست ما جري من تحولات للثورة خلال ما يقرب من عام ؟ يجيب: "بالنسبة لي فإن الثورة مرت بمنحنيات وتعرجات، يوم سعيد ويوم حزين ..في بداية رمضان علي سبيل المثال تصورت أن الثورة فشلت بعد أن احتل الجيش صينية التحرير، كما أنني عندما التقي الكثير من المواطنين العاديين كانوا يتحدثون " كفاية اعتصامات عايزين استقرار".. تصورت وقتها أن الثوار أصبحوا أقلية.. ولكن الثورة استمرت، الجمعة الماضي كان العدد كبيرا يدعو للتفاؤل ، واستمرار الثورة .." .. سبب آخر يدعو للتفاؤل من وجهة نظر والتر " مظاهرات العباسية" .. التي ذهب إليها في الصباح قبل أن يتجه الي "التحرير" : " مظاهرات العباسية تمثيلية، منزوعة الروح والطاقة بعكس التحرير .. الإبداع هنا في التحرير". -2- تابع والتر بحكم اهتمامه، وبحكم سكنه في التحرير الثورة، منذ بداياتها، وحدها اشتباكات شارع محمد محمود. كان خارج مصر للمشاركة في أحد المؤتمرات. اسأله هل انتجت الثورة خيالا جديدا؟ يجيب: الفن كان مهما جدا في الثورة المصرية، في التحرير كان هناك إبداع، مساحات ليقول كل شخص ما يريد. ولكن كان هناك ربط بين القديم والجديد، بين الماضي والمستقبل، يعني تم استدعاء قصائد أمل دنقل، ونجم وفؤاد حداد .. وهذا شيء جيد وهام، وهناك آخرون يريدون عمل شيء جديد باعتبار أننا نعيش في زمن ثورة لابد أن تولد فنون جديدة". وما الفنون التي لفتتك نظرك ثوريا؟ يجيب: الموسيقي والجرافيتي، وفن " اليفط" بشعاراتها والقصائد، واللعب بالكلمات ..يمكن أن نسميها "فن الشارع". بعد أن تنتهي الثورة، سيكون من الصعوبة نقل الفن من الشارع إلي المؤسسات ، سيكون صعبا جدا". اساله: إذن تتوقع استيعاب هذه الفنون بعد " استقرار" الثورة؟ يجيب: بالتأكيد، لابد أن يحدث ذلك، سيكون هناك تيار كبير ، والفنون الثورية الجيدة والمتميزة ستكون هوامش ، والكثير من هذه الهوامش الجيدة. اسأله: هل الذي سيصمد ما سيتميز بالفنية العالية أم الثورية العالية؟ يجيب: هناك تيار سيبقي ثوريا علي الهامش وسيتميز بالفنية العالية. ولكن لن تصمد الفنون غير الفنية مثلا، التماثيل التي تباع في التحرير ذات فنية غير عالية لن تبقي. وأتوقع أن يكون هناك هيكل مؤسسي يشجع التيارات الثورية .. لا يخشي والتر الذي جاء الي مصر للدراسة في الجامعة الأمريكية للمرة الأولي عام 1983 من وصول الإخوان المسلمين إلي السلطة، من وجهة نظره هم ليسوا "مجانين" حتي يمارسوا الرقابة والقمع كما كان يحدث في عهد مبارك .. يقول: " لا يمكن أن تعود البلد كما كانت في عهد مبارك .. لن يتوقف من قاموا بالثورة عن المطالبة بحقوقهم، بالتأكيد سيكون هناك صراع حول سياسات الرقابة، وسيكون حولها صراع طويل، وكثيرون ممن شاركوا في الثورة كانوا من الفنانين والمخرجين الذين يقفون ضد الرقابة ويريدون بعد الثورة أن يقدموا أعمالا جديدة وجريئة، ولكن لن تكون الأمور كما كانت في السابق.." -3- لم يهتم والتر قبل الثورة المصرية بالسياسة، أو بالثورات الأخري، زواجه من الباحثة لوشيا ريزوفا التشيكية جعل بينهما نقاشات حول الثورتين المصرية والتشيكية. يقول: الوضع الدولي في الثورة التشيكية كان مختلفا، الاتحاد السوفيتي والدول الأوروبية وقتها كانت تدرك أنه لابد أنه سيكون هناك تغير كبير، لابد منه، لذا لم يقاوم النظام القديم بشراسة كما يحدث في مصر. الثورة المصرية أصعب وأهم وأخطر للعالم كله ، نجاح الثورة المصرية سينتقل للعالم كله،. ". أساله لهذا قلت أن الثورة هي إعلان فشل لليبرالية الجديدة؟ يجيب: بالتأكيد، الثورة المصرية ألهمت العالم كله، ثمة حركات عالمية في أمريكا وأوروبا مثل "احتلوا وول استريت" مستلهمة من الثورة المصرية، وأعتقد لولا ما جري في مصر ما كان لهذه الحركات أن تنشأ،". كتب أرمبورست :(المنادة بالليبرالية الجديدة سيكون علي أي حال مأساة للحركة المطالبة بالديمقراطية. مطالب المتظاهرين كانت واضحة وسياسية في الأساس: إسقاط النظام، إنهاء قانون الطوارئ، إيقاف التعذيب، إجراء انتخابات حرة ونزيهة. ولكن كان متضمنا في هذه المطالب من البداية (وقطعا قبل النهاية) توقع عدالة اجتماعية واقتصادية أكبر. الوسائط الاجتماعية ربما أمكنها أن تساعد علي تنظيم نواة لحركة أطاحت في النهاية بمبارك، ولكن عنصر كبير أتي بما يكفي من الناس إلي الشوارع للتغلب في النهاية علي قوات أمن الدولة. كانت التظلمات الاقتصادية، جوهرية بالنسبة لليبرالية الجديدة. هذه التظلمات لا يمكن اختزالها في الفقر المدقع، لأن الثورات لا يقوم بها أبدا أفقر الفقراء. بل كان الأمر إحساس بأن بعض المجالات الإنسانية يجب أن تكون خارج منطق الأسواق. مصر مبارك حطت من شأن المدارس والمستشفيات وضمنت أجورا غير متكافئة علي نحو فظيع، خاصة في القطاع الخاص الذي لا يكف عن الاتساع. كان هذا ما حوّل مئات النشطاء المخلصين لملايين من المتظاهرين ذوي العزم. إذا لم ينتج عن ثورة الخامس والعشرين من يناير أكثر من مجرد خفض نفقات الليبرالية الجديدة، أو حتي تكثيفها، فهذه الملايين سيكون قد تم خداعها. يمكن أن يتم خداع بقية العالم أيضا. مصر وتونس هما أول شعبين ينفذان ثورة ناجحة ضد الأنظمة الليبرالية الجديدة. يمكن أن يتعلم الأمريكيون من المصريين. بالفعل، هناك علامات علي أنهم يتعلمون. حمل المتظاهرون في أمريكا لافتات تساوي مبارك بمحافظهم. ربما يمكن للمصريين أن يقولوا لأمريكا "عقبالك") أسأله: هل تتوقع إذن أن تقوم ثورة في أمريكا مستلهمة الثورة المصرية؟ يجيب: أمريكا لا تزال في البداية، ولن تكون هناك ثورة في أمريكا قريبا، ولكن هناك تغيرات حدثت في أمريكا بعد الثورة المصرية، الخيال الأمريكي اتسع لم تعد الأشياء قاصرة علي الأغنياء وحدهم، بدأ هناك تفكير خارج الصندوق ، وبدأت السلطات هناك تفكر في أساليب جديدة لحل الأزمات، والناس نفسها بدأت تسأل أسئلة جديدة حول النظام والسياسة..وهذه بداية. -4- من ضمن الموضوعات التي يعمل عليها والتر في اللحظة كتاب عن " الشهداء" ..تحديدا عن " الشهداء والنظام الطبقي".. و "تاريخ الشهداء في التاريخ المصري المعاصر" كانت بداية الفكرة سالي زهران. أسأله: لماذا سالي زهران ايقونة للثورة؟ يجيب: صدفة أيضا، في الجمعة التي تلت رحيل مبارك كنت أقف أمام إحدي " صحف الحائط " التي احتوت علي العديد من البيانات والأعمال الفنية. وبينما كنت أحاول اتخاذ قرار حيال ما إذا كانت محاولة تصوير تلك المطبوعة الصغيرة من البيانات أمرا يستحق، ارتفع فجأة علي نحو غاضب صوت الرجل من خلفي قائلاً: " انظر ماذا فعل الإخوان المسلمون؟! أولاد الكلاب هؤلاء لقد شطبوا صورتها لمجرد أنها لا ترتدي حجابا". وكان يشيرإلي أحد ملصقات الشهداء الذين سقطوا يوم 25 يناير. كانت المشكلة في هذا الملصق، والسبب في الغضب الذي عَبر عنه الرجال الواقفون خلفي، أن احد وجوه الشهداء في الملصق قد تم خربشتها بقلم يميل إلي الزرقة. كان الوجه المخربش للمرأة الوحيدة في الملصق: سالي زهران". شخصية سالي تثير الاشتباكات الاجتماعية المسكوت عنها في مصر، هي لم تكن محجبة وأهلها أرادوا تحجيبها عبر نشر صورها بالحجاب بعد الوفاة، ثمة شكوك في مكان رحيلها هل رحلت في التحرير؟ أم في بلدها سوهاج ... . فعلياً لا يوجد جانب من جوانب قصة سالي زهران دون تناقضات، ولكنها بالتحديد كانت تناقضات جعلت من فعاليتها موضوعا للصراع بين مختلف الأطراف التي كانت تحاول التأثير علي مسار ومعني الثورة. لم تشتمل الصراعات الداخلية بين فصائل بدت لفترة وجيزة علي أنها جبهة موحدة مؤيدة للديمقراطية وبين الحركة المؤيدة للديمقراطية نفسها والذين كانوا بشكل عملي أو سلبي معارضين للثورة وبقايا النظام وحسب، لكن أيضاً الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخري. ويضيف: " أن أهمية سالي زهران كانت في أنها رمز لرفض التقليدية الرجعية، خصوصاً التوحد في التعامل المحافظ مع المرأة في العاصمة القاهرة مع عادات الصعيد المصري. و التوترات بين الأجيال. ولكل هذا هي من وجهة نظري أيقونة منتجة ". يضيف والتر: للاسف أيضا عندما نريد تمثيلا للثورة نختار من الشخصيات التي استشهدت فيها شخصيات بارزة، فنانين أو رجال دين ، طلبة هندسة وطب ..وكأن هناك تقسيما طبقيا للشهداء". يضيف والتر: " أخشي أن يكون العمل علي إحياء ذكري الشهداء بداية لعملية نسيان انتقائية، بما أن قائمة الشهداء تحجب شيئا فشيئا الدور الحقيقي الذي لعبة الشهداء في الثورة لصالح إعلان نهاية الثورة". أساله: بداية من أحداث شارع محمد محمود بدأ الحديث عن استشهاد ابناء الطبقات الشعبية؟ يجيب: هؤلاء كانوا موجودين طوال أيام الثورة، وأظن لولاهم لفشلت الثورة، لأنهم اقتحموا أقسام الشرطة وحدثت اشتباكات عنيفة في هذه المناطق الشعبية، هم جاءوا إلي الميدان ليس بدافع إيديولوجي، وإنما لأن بينهم وبين الشرطة ثآرات عديدة ..وقدموا شهداء كثر.. لهم حكاية ينبغي أن تحكي ، أنا سأبدأ علي تحليل مدونة " الفقراء أولا" .. لأن هؤلاء الفقراء هم الذين يتعرضون للعنف". اسأله: إذا كان عنف الشرطة مبررا في الأيام الأولي للثورة ... لماذا هذا العنف من المجلس العسكري؟ يجيب: أنا اعتقد ان المجلس العسكري من البداية ضد الثورة، هم أرادوا استغلال الثورة لإزاحه مبارك ومنع التوريث، وتصورا أن الأمور ستعود إلي ما كانت عليه في السابق. ثم حاولوا إثاره الصراع بين القوي الدينية والقوي المدينة وأظن أنهم فشلوا في ذلك، لأن شباب السلفيين والإخوان متواجدين بشكل كبير في التحرير. تقريبا لا يمكن تصوّر أن جنرالات المجلس العسكري سوف يسمحون طواعية بأكثر من تغييرات تجميلية في الاقتصاد السياسي لمصر. ولكن يمكن إجبارهم علي فعل هذا، علي مضض. الجيش قوة غير حادة، ليست مناسبة للسيطرة علي حشود المتظاهرين. واعتقد أيضا أن معركة الدستور القادمة مهمة، لو تم تأسيس دولة عسكرية داخل الدولة المدنية عبر الدستور فهذا يعني أن تبدأ ثورة ثانية، أو تستمر هذه الثورة.