«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبرز ظواهر العام:
ثورة ميدان »الكوميكس«!
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 12 - 2011

في أول أيام يناير الماضي، انتشر علي جدران وسط البلد ملصق لا يخلو من قتامة، يحتله رسم نصفي، لأمين شرطة متجهم منكفئ بعينيه علي دفتر مخالفاته، وقد انهمك في تسجيل مخالفة. كان علي من أيقظه فضوله أن يقترب قليلاً، ليتعرف علي "اللوجو" المشهر فوق الرجل المتجهم: "توك توك".. وليطالع بخط أصغر، تفسيراً لا يقل غرابة عن الاسم: "محطة القصص المصورة".
التناقض الدلالي تم التعبير عنه بذكاء، بين العلامة، "توك توك"، التي تحيل مباشرة للعشوائية المقلقة للنظام، لخرق قانون المرور السياسي والفني، للأطفال الذين يتولون القيادة "الجمالية" بدلا عن "الكبار"، دون "رخصة" من مؤسسة، وبين الصورة، التي تجسد السلطة، وهي تسجل عقابها المنتظر ضد المخالفة "الجمالية".
كانت الحوائط الفقيرة مكان الدعاية المتاح، الذي لن توفره الأحياء "النظيفة".. وفي التاسع من يناير، اكتظ الشارع الضيق المواجه لتاون هاوس بشباب اصطفوا ليشتروا النسخ الأولي من المجلة الواعدة في حفل توقيعها، يستنشقون الهواء المتوتر لمدينة مختنقة متحفزة، ستندلع ثورتها بعد نحو أسبوعين.
كانت "توك توك" إذن تفتتح العام، حالمة ب"زحمة من القصص المصورة" كما أكد أصحابها في افتتاحية العدد.. زحمة ما لبثت أن تحققت، سواء بتوالي الصدور المنتظم للمجلة، (أربعة أعداد حتي الآن) أو بظهور تجارب "صديقة".
قبل أن ينتهي العام، كان سوق الكتاب، الراكد علي مستوي الأنواع الأدبية المتعارف عليها، قد استقبل مجلة أخري، وروايتين، ومجموعة قصصية، بل وديوان، تنتمي كلها لفن الكوميكس.
كأن الثورة حررت "الكوميكس"!.. فعام الثورة أكد علي حضور "الفن التاسع"، أو علي ضرورة حضوره، في سياق"فن شعبي" تتطلبه اللحظة، وتسمح برواجه.. مثلما فعل العام المختلف الشئ نفسه مع الجرافيتي. هكذا قدم الكوميكس نفسه في عام الثورة، بطلاً بعد أن كان ضيف شرف في السنوات القليلة الماضية، عبر كل الأشكال المتاحة، مقدماً تنوعاً كبيراً، وتراوحاً أيضاً في الجودة بطبيعة الحال.
علينا أن نلتفت لعدة ملحوظات دالة.. فكل هذه الأعمال صدرت إما عن دور نشر خاصة أو بجهود صانعيها، وأغلب هؤلاء في العشرينيات من العمر أو في مطلع الثلاثينيات، ومن يعملون بالصحافة منهم، ينتمون لصحف مستقلة.. إجمالاً، نحن أمام صناعة لا مكان فيها للشيوخ أو المؤسسات الرسمية، وأعتقد أن بقاءها هكذا سيكون أمراً جيداً ومطلوباً، لكي يظل هذا الفن الجاد خارج التدجين والأرواح التقليدية.
صورة مدينة ترانا ولا نراها
في العدد الأول من مجلة "توك توك"، دشن "التكتكيون" مطبوعتهم، راسمين فلسفتهم: " في ضواحي القاهرة الزحمة وشوارعها.. التوك توك ماشي بركابه.. وكل واحد مشواره.. تعمل توك توك علي تكوين زحمة من القصص المصورة، مرسومة بروح حرة ومعاصرة، ومحررة بأيدي رساميها أنفسهم".
شناوي، مخلوف، هشام رحمة، أنديل، توفيق.. مؤسسو المجلة وممولوها، أهدوا العدد الأول من محطتهم لروح الفنان الكبير محي الدين اللباد، الذي يبدو تأثيره واضحاً علي روح المطبوعة، التي استفادت من تجربته الثرية، وبالذات فيما يخص تطوير الخبرات الطباعية للرسام .
توك توك بدت لي بالفعل مجلة المدينة، لكن المدينة "غير الرسمية"، مدينة الشوارع الضيقة والعشوائيات المنسية والزحام.. مدينة الوجوه الكالحة المعروقة والأحلام البسيطة المغدورة. لا مكان في توك توك للبطل المنتصر، لا وجود للسوبر هيرو. "التوك توك"، ذلك الكائن العشوائي الصغير، يواجه، بتحركاته المربكة غير المتزنة، بمراهقته النزقة، السيارات الفارهة والشاحنات الضخمة.
النقد الاجتماعي والسياسي هدف مباشر للمجلة كما يتضح في جل نصوصها المتعالقة بعمق بالواقع المصري. الثورة المصرية، التي أهدي العدد الثاني من المجلة لها، "لأرواح الشهداء وأبطال مصر الشجعان"، هي محور العديد من القصص، بمعالجات مختلفة، وكذلك اللغط السياسي في الشارع، من إشكاليات الحكم العسكري، والدستور، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، كل هذه موضوعات حاضرة في المجلة، المنحازة في النهاية للفرد الهامشي والمنسي، المتسائل، والذي يفشل مرة بعد أخري في الحصول علي إجابة حقيقية.
كذلك تستلهم المجلة شخصية شهيرة هي "السنافر"، ليعاد تمصيرها، من خلال "مخلوف"، الذي يجعل السنافر هم المصريين، بكل طوائفهم وانتماءاتهم، فيظهر سنفور المثقف، وسنفور المواطن، وسنفور الإسلامي، وسنفور العسكري.... إلخ. وتخصص المجلة في كل عدد بورتريه لمطرب ثوري، مثل الجزائري "أمازيغ كاتب"، والمالي "تكن جاه فاكولي، بما يؤسس لذائقة خاصة في الغناء الثوري.
المجلة لم تغفل "آبائها الشرعيين"، مؤكدة انحيازاتها لمن يصلحون "آباء" لدمها الشاب. العدد الأول، أهدي إلي محي الدين اللباد، وخصص له ملفاً.. واستقبل العدد الثاني المجلة ملفاً لحجازي ولعمله الملهم "تنابلة السلطان" الذي كان رائداً في تأسيس كوميكس مصري، أما العدد الثالث، فشهد الاحتفاء بأب أكثر شبابا، وربما لا يلتفت له الكثيرون، هو "خالد الصفتي" وتجربته "فلاش" التي أثرت في قطاع عريض من رسامي الكوميكس اليوم، ممن قرأوه أطفالاً في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
العدد الرابع من توك توك، تجرأ ليستفز قارئه، أو ليواجهه بما يجب أن يكونه إن أراد أن يكون "تكتكياً"، عبر "استيفا" دشنت للعدد: "عارف هترشح مين في دايرتك؟ جددت بطاقتك الشخصية؟ دبحت في العيد؟ دورت ع الجزمة مع اللي دوروا؟ شيرت أي فيديو ع الفيس بوك؟ شفت فيلم تان تان؟ لو كانت معظم إجاباتك لأ، برجاء إعادة هذا العدد للبائع، علشان كدة هتبقي من القوم التانيين". ورغم أن معظم إجاباتي جاءت ب"لا"، إلا أنني لم أعد العدد للبائع، وقرأته كالمنبوذ!.

اعرف حقوقك
الدشمة هي أول مجلة في الدنيا يصدر عددها الثاني دون أن يصدر منها عدد أول!.. السبب، كما أعلنه صناعها، هو أنهم كانوا أعدوا عددها الأول، لكنه لم يصدر بسبب قيام الثورة.. وبعد نجاحها، كان لابد وأن يصدر عدد جديد. الملفت، أن جهة إنتاج المجلة هي "مركز هشام مبارك للقانون ".. وهو مؤشر بالغ الأهمية علي قدرة الكوميكس علي التعريف والتأثير فيما يخص حقوق الإنسان، والتفات جهة قانونية حقوقية لذلك.
أحد مؤسسي المجلة هو "مجدي الشافعي"، صاحب الرواية المصورة "مترو" التي تعرضت لمتاعب كثيرة في عهد النظام السابق، انتهت بمصادرتها ومقاضاة صاحبها. كذلك ضمت المجلة عدداً من الكتاب القادمين من منطقة الأدب، مثل "نائل الطوخي" و"أحمد ناجي"، أما ما يحسب للتجربة بشكل حقيقي، فهو تقديم أسماء جديدة في مجال الكوميكس، ومن خارج القاهرة، فحضر فنانون من الإسكندرية والإسماعيلية والشرقية.. وهو مؤشر جيد علي توسيع رقعة المشتغلين في فن الكوميكس، خاصة وأن أغلب ورش الكوميكس وفعالياتها تقتصر حتي الآن علي العاصمة.
خروج مجلة علي هذا النحو من جهة حقوقية، يأتي في ظني كخطوة حقيقية لتقريب المسافة بين الشارع والمبادئ الحقوقية غير الموجودة حتي علي مستوي التعاملات بين الناس، عبر عمل فني مسل وممتع. الأمنية الوحيدة لدشمة أن تنتظم في الصدور، حتي لا نضطر لقراءة العدد الرابع قبل صدور الثالث!
خارج السيطرة
قبل عدة أشهر، اجتمع 19 كاتب ورسام علي قلب فنان واحد، مؤسسين لورشة عمل بعنوان "كادرات". كان الهدف الخروج بعمل جماعي، مشروع متسق له رؤية وتصور عن القصة المصورة، لكنه لا يلغي التنوع. بعد عدة أشهر من العمل خرج كتاب يحمل عنواناً دالاً: "خارج السيطرة". أفضل ما في المسألة أن الورشة عملت منذ البداية مع الناشر "فاطمة البودي" والمحرر العام للكتاب، "أشرف يوسف"، بحيث يتحقق التكامل بين العناصر مبكراً.
الغلاف سواد سادر، ما يوحي بعالم قاتم، لا يعد بالبهجة المتوقعة لكتاب قصص مصورة.. ولا يحتفي بالرسم علي صدره، رغم أن الرسم هو بطل الكتاب. اكتفي الغلاف بتفصيلة صغيرة للرسام هشام رحمة، قبعت علي استحياء في قاع الغلاف. العنوان المكتوب بالأصفر وبيانات الكتاب المكتوبة بالأبيض، مع الخلفية، انحازت لتقشف لوني واضح، هو في الحقيقة موقف جمالي.. فليس الكوميكس غابة من الألوان، لكنه استغلال عميق لرقعة ألوان المحدودة، تظل قادرة علي إعادة رسم العالم غير المتسق في ألوانه المبهرجة.
العالم الموزع علي القصص في الكتاب، هو بالفعل عالم قاتم، يحتله أشخاص ضائعون: مجانين ومساجين، أشخاص هامشيون مسحوقون. المثير للملاحظة في نصوص الكتاب، أنها كلها استُبِقت بتصديرات، لكتاب وفلاسفة وفنانين، كأنها أرادت التأصيل الفكري والفلسفي لعوالمها، وربط القصص التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها بمعان أبعد. إنه ولع بالتأصيل، عبر الأفكار المجردة، القادمة من عالم اللغة الطبيعية، للعالم التشخيصي المتجسد الذي تعكسه الصورة. من هذه التفصيلة تجلت إحدي معالم "الورشة" أو الاشتغال الجماعي علي الأفكار، بمحاولة قراءتها أولاً ثم تحويلها لحكايات مرسومة. إنه تأصيل آخر، ربما، لفكرة أن الكوميكس ليس فقط فنا "خفيفا" هدفه التسلية والإمتاع، لكنه قادر علي التفاعل مع عدد من الأسئلة الوجودية المشتبكة بالأسئلة المجتمعية والسياقية المباشرة.
تبدو قصة "السجن" التي كتبها ورسمها "هشام رحمة" في ظاهرها مجرد نص كابوسي لشاب سجين يحلم بالخروج من محبسه، وعندما ينجح، يقرر الهرب من مصر علي سفينة، فيغرق. قصة يعرفها واقعنا الحزين جيداً، لكن النص في الحقيقة تعامل مع النص بعدد من الآليات عمقت أبعاده الفنية. فالعالم السوداوي الذي نجح "رحمة" في رسمه، اتخذ شكل العبث، وبدا "كافكاوياً" في إعتامه، بحيث يقدم السجين ببساطة طلبا للخروج. النص يمنح السجن بعدا فلسفيا، عبر صوت يعلق علي المشهد الأول" سهل قوي انك تتخلق جوه السجن لكن صعب إنك تخرج منه.. زي ما كل حاجة وليها ريس.. كمان السجن ليه ريس.. قاعد فوق.. واحنا تحت ملناش علاقة بالريس اللي فوق". ثمة بعد ميتافيزيقي هنا، يحيل إلي الدنيا كسجن، إلي السلطة البوليسية كسلطة إلهية، الفرد سجين الدنيا يبدو متورطاً في محاولة يائسة للهرب من إلهه، تنتهي حتماً بالموت.
علي جانب آخر، حضر تيار أكثر انخراطاً في الحياة الواقعية للمصريين، يدلف مباشرة إلي مشكلات كالفقر والبطالة وعلاقات العمل الجائرة.. وبحيث جاءت التجربة إجمالاً منفتحة علي السياقين الكبيرين اللذين يحياهما الفرد، سياق الوجود الداخلي الذي يتوهم العالم، والوجود الخارجي الذي يحول الفرد الواقعي نفسه إلي وهم.

قصائد في بالونات
قبل أيام، ظهر علي أرفف المكتبات غلاف ملفت، لا يشك من يراه أنه لكتاب كوميكس، فهو يضم "كادرين" مرسومين، ويتمتع بقطع مميز، لكن الكتاب في الحقيقة عبارة عن "ديوان مصور". "لاعبيني والاعبك"، كما يعلن الغلاف، " قصايد كوميكس مصري"، للشاعرة "أماني سعيد محفوظ، أصدرته دار العين، والتي يبدو أنها بدأت تولي اهتماماً خاصاً بالكوميكس.
القصائد، تتبني منطق النقد الاجتماعي والسياسي بروح تقترب أحياناً من الزجل وأحيانا أخري من الأغنية. الثورة وأجواؤها ممثلة في قصائد عديدة، مثل "غزوة بغال" التي تتناول بحس نقدي لاذع وساخر موقعة الجمل، وغيرها.
لست هنا بصدد تحليل عميق للقصائد نفسها وجمالياتها، أو درجة "شعريتها" المتراوحة بين قصيدة وأخري، لكن الأهم بالنسبة لي في هذا السياق هو طبيعة المغامرة نفسها، وإلي أي مدي نجحت في تقديم تجربة "عضوية" في اشتباك النص الشعري المكتوب بالنص البصري المرسوم. بالتأكيد ثمة جهد واضح في مواءمة العالم البصري للقصائد المكتوبة، واختيار "الكاركترات" التي تخرج القصائد من بالونات علي ألسنتها.. لكن بدا لي في المجمل أن هناك نوع من الانسجام المفتقد علي مستوي الشخصية الفنية الأشمل للعمل البصري. الحالة "التجميعية" لرسوم عالمية من قصص كوميكس شهيرة مثل "تان تان" و"أليس في بلاد العجائب" وغيرها قلصت كثيراً من خصوصية التجربة "المصرية" والمكتوبة "بالعامية" بالذات.. وكان من الأفضل من وجهة نظري إعداد الكتاب فنياً عبر رسام مصري ينقل روح القصائد عبر أسلوب واحد، ويسعي ليس فقط للعثور علي معادلات بصرية من خارج النصوص، لكن لخلقها من داخلها، ولتعميق البنية الدرامية للقصائد عبر سيناريوهات حقيقية.
81يوما.. وروايتان
روايتان مصورتان، تتناولان بشكل مباشر أحداث ثورة 25 يناير، وتشتركان، تقريباً، في العنوان نفسه. الرواية الأولي، "18 يوماً"، كتبها محمد هشام عبية ورسمتها حنان الكرارجي، وأصدرتها دار جديدة هي "كوميكس"، هي أول دار مصرية وعربية متخصصة في إنتاج الكوميكس، وهي خطوة جيدة في اتجاه إنتاج الكوميكس عبر ناشر متخصص. الرواية الثانية، " 18 يوم في التحرير"، كتبها "رامي حبيب" ورسمها "أحمد سليم"، وأصدرتها دار روافد. تتناول الرواية الأولي أربعة أشخاص نزلوا للميدان، كل منهم قادم من منطقة ثقافية مختلفة.. يوسف، أدهم المقيم بهولندا والذي يقرر العودة لمصر ويستشهد في التحرير، مريم الفتاة القبطية، ومسعد الشاب الإخواني. أراد عبية أن يحول فكرته الذهنية إلي شخصيات ناطقة وحدتها اللحظة الثورية. الرواية تحفل بحس تسجيلي واضح، وتوثق لأبرز الأحداث التي جرت خلال الأيام الثمانية عشر.. وحتي لحظة التنحي.. وأستطيع أن أتفهم ما فيها من مباشرة تسبب فيها الولع الواضح بالتسجيل، حيث يكاد الحس التسجيلي يطغي علي الحس الروائي الحقيقي. الأمر نفسه مع الرواية الأخري " 18 يوم في التحرير" المتشابهة في المعالجة "التسجيلية" للحدث، وإن اختلفت أسماء الأبطال.. ويعلن الغلاف الداخلي لها أن "تامر فتحي" تولي ترجمة الحوار فيها وصياغته، ما يعني أنها غير مكتوبة بالعربية في الأصل. المعالجة البصرية ربما صنعت الفارق الفني الأوضح بين العملين عبر اقتراحين للصورة. اتكأت رسوم حنان الكرارجي علي قدر واضح من التشخيص مع لمسات من التضخيم والتحريف لا تخلو من كاريكاتورية، خاصة مع التجسيد المباشر لشخصيات مثل حسني مبارك، زكريا عزمي، صفوت الشريف، علاء وجمال وسوزان، عمر سليمان، محمد البرادعي وغيرهم.. تاركة للشخصيات المتخيلة لمسة من أسلوب "المانجا" ياباني المنبع التي تميز الرسوم اليابانية. الرواية الثانية اتكأت بصرياً بشكل واضح علي الظل والنور، ورسم "أحمد سليم" الشخصيات والأماكن معتنياً بالبعد الثالث في الصورة، ما جعل شخصياته أقرب للشخصيات المصممة المجسدة، ومنح الأماكن قدراً من العمق.
في النهاية.. جاء مرور عام علي الثورة، ليدشن مرور عام حافل بالكوميكس.. فالحياة، أيضاً، قصة مصورة.. ناس تتكلم فتخرج من أفواهها "بالونات" معبأة بالكلمات.. تتحرك من كادر لآخر كأنها تخرج من سجن لآخر.. باحثة عن حريتها، رغم أنها في نهاية المطاف، لو خرجت من "البراويز".. ستخرج من المشهد.. ستغادر القصة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.