بالأمس فقط وُلِدتُ وُلدِتُ جميلاً، أجمل بني الإنسان، ورقيقًا كزهرة تتفتح، وُلِدتُ صغير الحجم، وخفيفًا كعصافير بلادي، ومغردًا بالحرية مثلها. عند الشروق نقرتُ القشرة، وخرجتُ من رحم الأرض السوداء الخصيبة، صحتُ صيحة واهنة، ثم نطقتُ، ألقيتُ السلام علي الوادي والنيل، رفرفتُ بجناحي لحظات، ثم طرتُ نحو السماء. حلقتُ فوق الميدان، حلقتُ لأعلي ما يصل إليه جناحاي العظيمان، لففتُ، ودُورتُ في الهواء دوراتٍ ودوارات، تنقلتُ من فرع شجرة، لإشارة مرور، لسلك عالٍ، لمبانٍٍ وعمارات، وأعلي بناية مُجمّع التحرير الشاهقة، علي أعلي نقطة حططتُ، ثَبَتُ ونظرتُ، نظرتُ مليًا، وطويلاً، فرأيتُ.. رأيتُ ما لا عينٌ رأتْ. رأيتُ الحقيقة، الخير، الجمال، شيء واحد. موجود واحد، جسد واحد فريد، يُؤَلّفه مئات آلاف الأبدان، الرءوس، الأذرع، الأقدام، مئات آلاف الألوان والأحجام والأشكال، رأيتُ الواحد في الكثرة، والكثرة واحد، عاينتُ ما لم يخطر من قبل علي قلب إنسان، ما لم تخرجه من قبل للنور عينان.. هزني، كلي، طربٌ، فزقزقتُ بلا إرادة ولا رغبة، غردتُ، وغنيتُ، وأنا أطوف ثانية بأنحاء الميدان، سكران بلا كأس، مسطولاً دون دخان نبتة، أو حشيشة أرض. غبطة فرحي أخف من وزن جسمي، أرق من جناحي، زقزقتي منسجمة، متآلفة، وأصوات الميدان: موسيقي هتاف الناس، همس النبات والشجر، أصوات المعادن، الأسفلت، الحصي، والحجر. بعد زمنٍ، لا أدريه، لم يصمد قلبي الخفيف، لم أحتمل المزيد من الجمال، جُذِبتُ وانتهيتُ، حَلَ فيّ الكل، وحَللتُ في كل الناس، في الشجر، في الورق، في الكلمات، في الهتافات الجهيرة والمكتوبة الساكتة، حللتُ في المعدن، بنايات الميدان، والحجر. إذا امتلأتَ فِضتَ. امتلأتُ بالناس، وفضتُ فيهم، وعليهم. بالأمس رأيتُ.. رأيتُني الحجر في راحات وقبضات أيدي الناس، كنتُ حجر الميدان الذي يطلقه الشباب والعجائز، الرجال والنساء، في اتجاه المعتدين، القادمين من بعيد، مصطحبين الموت في أياديهم، سنج، وسيوف، وأسلحة بيضاء، ونار في زجاج، قنابل مولوتوف، ساترين الموت داخل جماجم رءوسهم، داخل قلوبهم وصدورهم، وراكبين علي البغال، والجياد، والجِمَال. ورأيتُني شابٌ، أقفُ بين الناس هناك، أُدافعُ عن الميدان، أقذفُ، بكل قوتي، الشر بحجر. ارتد إليّ الحجر أحجارا، واحد أصاب منتصف جبيني، وآخر خرق صدري وأدمي قلبي، وثالث فجّر بطني، ورابع أمات ما بين فخذي، وقعتُ علي ظهري للخلف، وسكنتُ، ينزفُ من كل مواضعي دم، دمٌ أحمر قان. حولي التف الشباب، أحاط بي خلق كُثُر، كبروا بالاسم الأعظم، مالوا عليّ، يعرفون فيّ ما يحل بالشهيد، ذاهلين، مأخوذين، من روع ما رأوا في جسدي، وفي الدم. بعد لحظات، أقبل أحدهم يجري، حاملاً خشبة طويلة، أسندها بجواري علي الأرض، تزاحم كثيرون، يتسابقون لرفعي عليها، حطوني فوقها برفق، مددوني عليها، مبسملين، مكبرين، وعلي النبي مصلين. وجوه كثيرة عليّ مالتْ، شفاه كثيرة مُدَتْ نحو وجهي، قبلات رقيقة علي جبيني طُبَعتْ، موضع صلاتي في الجبين ختمته آلاف الشفاه، وبلل وجهي نهر دموع عذبة. لا أعرف هؤلاء الناس، أبدًا عرفوني وعرفتهم. أعرف، الآن، ملمس أصابعهم، ألوان عيونهم، وجلد الشفاه. باسم الرحمن رفعوني والخشبة علي الأكتاف، عشرات الأكتاف امتدتْ، تبدلتْ وتغيرتْ، وآلاف الأجساد تزاحمت حولي، عشرات آلاف الأصابع تشبثتْ بالخشبة في عناد، وإصرار. أنا علي الخشبة العارية وجهي للسماء، عيناي مغلقتان لكني أري ما لا يُرَي، ما ليس له أسماء، ما لا يُنطَق بألفاظ، أري ما يعجز عنه الكلام، والخشبة تحتي علي الأكتاف تشق، بانسياب ولين، بحر البشر. في حديقة الصينية وسط الميدان أنزلوني عن الأكتاف، وعلي الأرض وضعوا الخشبة بعد إلحاح عشرات شباب أقبلوا، كلهم يرتدون أثوابًا بيضاء، يلبسون الأكفان منذ وفدوا الميدان. تحلّق حولي الشباب، ملائكة البياض، مالوا عليّ، ومدوا إليّ الوجوه والعيون، وغسّلوني. غُسِلتُ بلا ماء، غُسِلتُ بماء العيون التي نظرتْ إليّ، وأبصرتْ فيّ الحبيب. غُسِلتُ بأسارير وجوه تهللتْ تتأمل ملامح وجهي، وأعضاء جسدي عضوًا بعد عضو، الظاهر منه والخفي، غُسلتُ بقلوب تحنو عليّ، تودُ لو تغسل عني الدم، وبأناملها تمحو جروحي. غُسلتُ بلا ماء، غسلت بدموع عيون تساقطت كالندي عليّ، بلا إرادة، من رجال ونساء، وأطفال، أحبتني بلا عشرة، وبلا غرض. أحدهم كان يناضل الزحمة من حولي، لمّا أصر أفسح له الناس بعد وقت، فتقدم إليّ باسمًا، شاب كأنه البدر. نظر إليّ مليًا بعينين جميلتيْن، عاتبتني عيناه. تأملني من شعر الرأس حتي أخمص القدمين، وفرتْ منه دموع سخية، دون صوت. نزل علي ركبتيه، وقعد عند رأسي، مسّد شعري ببطء، مال إلي أذني اليمني، وهمس بصوت لا يسمعه إنسان "خذلتني". ثم ببطء راح يخلع عن جسده كفنه الأبيض الكتان، ثلاث لفائف كان يرتدي، واحدة فوق الأخري. أقعدني برفق علي الخشبة، وبدأ يلبسني، وحده، الثوب بعد الثوب، وهو يهمس في روحي، قال برقة، وحرقة: " يا حبيبي لِم سبقتني؟ من أين اليوم آتي بثلاثة أكفان أخري، ها أنتَ قد وصلتَ الجنة قبلي، وتركتني.. خذلتني، فلي عليك حق أن تناديني من هناك، ولا تِكلَ من رجاء الله أن يلحقني بك، اسأل الله أن يهبني ما وهبك، أنت السابق وإنا بك إن شاء الله للاحقون". كساني وصار شبه عارٍ، ثم قام عني، وذهب. أصحاب البياض، لابسو الأكفان قالوا بحسم وإصرار" معذرة، جاء دورنا، نحن وحدنا نحمله دون جميع الناس". تقدموا مبسملين مكبرين، وحملوني علي أكتاف فتية، بيضاء ناصعة، وتحركوا للأمام شاقين صفوف الناس، صار الموكب كله أبيض، غارقًا في البهاء وفي الضوء. أنا فوق الخشبة هم، وهم علي أرض الميدان يسيرون برجلي، وقدمي. طافوا بي، وطفتُ بهم، كل شبر في الميدان، وردنا كل المداخل، كل المخارج، طفنا بالميدان سبع أشواط، ورآنا كل الناس مثل سحابة بيضاء تطوف فوق الرءوس. خشع الناس، وهم ينظرون إلينا، ورقت قلوبهم، والوجوه. كلهم مؤمنون، يعرفون أني حيّ أرزق، كلهم رأوا نصاعة لون الدم، وشموا مني ريح المسك، ورأوا في وجهي النور، ففرحوا لي، فرحوا بي، وارتجوا أن يكونوا مكاني، وأن ينزلوا مقامي. في نقظة مركز الميدان، نحو القبلة، وضعني إخواني، والخشبة. عند رأسي وقف الإمام الشاب، صبوح الوجه، نظر إلي وجهي، وأشرق وجهه بابتسامة تقي ورع، ثم قال بصوت سمعه كل الناس: "بارك الله لك..بارك الله عليك". أشار الإمام بالصلاة للناس وكبر، فاصطفتْ خلفه صفوف بلا حصر، فاض الميدان كله بالمصلين، وفاضتْ كل الشوارع المؤدية إليه، ياالله كم إنسان صلي عليّ.. يا الله كم صليتُ. "الله أكبر" صعدت من ملايين الأفواه، هزت الأرض، وصعدت للسماء، صلوا عليّ وقوفًا، صلاة بلا ركوع ولا سجود، أربع تكبيرات، بينها الفاتحة والدعاء للنفس ولي والتحية. سلّم الإمام عن اليمين وعن الشمال، فسلّم خلفه الناس. عندما تقدم، الشباب، أصحاب الأكفان، واقتربوا مني والخشبة، قمتُ، فردتُ جناحاي، نظرتُ إليهم، وابتسمتُ لهم، وببطء، وهدوء، طرتُ.. طرتُ، ورحتُ أحلق فوق رءوس الناس الذاهلين. بهتوا وأُلجمتْ ألسنتهم زمنًا، ثم رفعوا عيونهم والأيادي نحوي هاتفين مهللين، بالتدريج صرتُ أصعد، أصعد طبقة هواء بعد أخري، طفتُ كل شبر في سماء الميدان، وقبّلتُ كل نسمة هواء، وأقمتُ.. علقتُ روحي ها هنا، في هذا الميدان، ولن أبارح، أنا هنا مقيم ليوم الدين، أنا الطائر الذي وُلِدَ بالأمس.. أنا الشهيد الحيّ.