فجأة، قررت كارمن بالسيلس، الوكيلة الأدبية لكبار كُتّاب أمريكا اللاتينية، أن تبيع أرشيفها لوزارة الثقافة الإسبانية، قالت إنه الأرشيف بأكمله، رغم أن المتشككين يعلمون جيداً أنها تحتفظ بأسرار أخري. الأرشيف الذي استطاعت جريدة الباييس الإسبانية أن تطلع عليه، يكشف جانباً غامضاً وسرياً لكُتّاب شغلوا العالم بإبداعهم، بجانب المفاوضات المادية وتعليقات علي الناشرين، وربما أمور شخصية أيضاً. مراسلات كتبوها بنية صافية دون أن يتوقعوا أن يطلع عليها أحد غير وكيلتهم. هنا نجد ماركيز ويوسا وإيزابيل الليندي، ماريو بينيديتي وكارلوس أونيتي وميجيل أنخل استورباس، ونيرودا. في سنة 1973 منعت الرقابة الإسبانية نشر كتاب "بفضل النيران(1965)، رغم نفاد الطبعة الأولي في أوروجواي. أبدي بينيديتي دهشته: فلم يكن الانقلاب العسكري قد حدث في بلده وكان لا يزال مدير قسم الأدب الإسباني اللاتيني في جامعة مونتيفيديو. فكتب الي كارمن:»في بيئتنا لا يمكن تصور أن تصادر الرقابة نصاً بهذا المضمون". وكانت دار ثيركولو دي ليكتورس قد دفعت للكاتب 65 ألف بيزيتا كعربون.
كان بينيديتي واحداً من كُتاب قلائل لم يستسلموا لعرض بالسيلس. ومن منفاه ببوينوس آيريس كتب في التاسع عشر من مارس 1974:"أشكرك كثيراً علي عرضك لتكوني وكيلتي عن كل أعمالي بكل اللغات، لكنني في هذه الأمور وسواس بما يكفي ولم أرغب ابداً أن يكون لي وكيل في كل شؤوني. ولا يفوتني أن أقول إنه قرار سييء علي المستوي الاقتصادي، لكن، في هذا المجال علي الأقل، أود أن أحتفظ بحريتي الرسائل المتبادلة بين دونوسو وبالسيلس تعتبر أدباً خالصاً، حتي تلك المتعلقة بالأمور المالية. كان كاتباً معلقاً بين الاحتياجات الاقتصادية والموهبة، هكذا يبوح باستمرار بسخطه. "أنا مفلس جداً أكثر من أي وقت مضي. أنا في انتظار أموال بونيويل. أود أن أطلب منك ألا تخصمي فجأة شيئاً من ديوني". كتب ذلك في بدايات 1972 من قرية كالاثيتي، القرية التي أقام فيها مع زوجته بيلار. وكتب دونوسو سنة 1972 "الحكاية الشخصية لكتاب الانفجار" الذي تحدث فيه عن زملائه الذين ارتبط معهم بعلاقات صداقة حميمة وبمنافسات أيضاً. وفي يونيو 1973 كان يشكو لوكيلته من دار سييكس بارال التي نشرت عمله "روائيون بورجوازيون" مع رواية لبارجس يوسا: "حماقة أن يطرح في السوق عملان لكاتبين أمريكيين لاتينيين في نفس الوقت، وإعطاء أهمية لكاتب وتجاهل الآخر". لكن خطاباً آخر يساعد علي فهم دونوسو المعقد هو ما كتبه في كالاثيتي يوم 30 يوليو 1974 لرفض دعوة من التليفزيون الفرنسي للحديث سياسياً عن شيلي، واسباب الرفض تعكس صورة ذاتية ونفسية. " كما تعلمين- وربما لهذا لا تحبيني كما تستطيعين أن تحبيني- عنفي يظهر عادة في شكل سخرية:وسخرية "بيت بالحقل" عنيفة. لكنني لست ابن "أحداث مايو"، ولا أطمح أن أكون شهيداً، ولا أن يذكروني كالرجل الأكثر مثالية والأكثر تورطاً في مشاكل العالم، ولا باعتباري الأكثر كمالاً علي المستوي الأخلاقي: أنا رجل ناقص، وعنفي له نفس الشكل الذي له.." الكاتب الأرجنتيني كان يشكو من سوء المعاملة التي يتلقاها في السوق الأنجلوساكسوني:"أنت تفهمين يا كارمن أنني لست في وضع يسمح لي أن أبرر ما يحدث لكل قاريء إنجليزي أو أمريكي، فمن المحزن جداً لرواية "عن أبطال ومقابر" التي تلقت كتابات نقدية عالمية أن تصدر في دار نشر صغيرة، لكن ماذا بوسعي أن افعل، إن شيئاً شيطانياً قد وقف حائلاً بين العمل وبين دور النشر الإنجليزية". مؤلف رواية :"أنا الأعلي" تلقي بتواضع ما يبدو توبيخاً من جانب كارمن بالسيلس لنشره مقالات في جريدة"انترفيو مكسيكو"."فكتب لها: »من الآن فصاعداً سأنتبه لتعليماتك فيما يخص إرسال مقالات لهذه المجلة.. لقد شاهدت الأعداد التي ارسلتها لي ورأيت مستوي المجلة الضحل وميلهم لإثارة الغرائز، وما خفف عني أنني لم أنشر سوي في عدد واحد. لا أعتقد أنهم يقدمون أي معروف لوضعي ولا لوكالتي. الأمر ليس رفضي للعري النسائي والإثارات الأخري، وإنما أنني لا أجد أنه من الملائم أن تظهر مقالاتي في هذا القسم السندويتش". وقع الكاتب التشيلي عقده مع كارمن بالسيلس يوم 24 مارس 1971، أي قبل عقد بابلو نيرودا بأشهر قليلة، وكان نيرودا حينها سفيراً لشيلي بفرنسا وبعد شهور قليلة فاز بجائزة نوبل. وفي رسالة بتاريخ 1982، وهو العام الذي فاز فيه أمريكي لاتيني آخر بجائزة نوبل( وهو جارثيا ماركيز) كتب لها إدواردس عن ماركيز:" أقدره ككاتب، غير أن شهر عسلنا السياسي لا يتوافق". تتمتع رسائل الكاتبة الشيلية بلمحة سحرية تميزت بها أعمالها الأولي. كانت علاقتهما وثيقة جداً، حتي أن إيزابيل كانت ترسل لها تهنئة في عيد الأم. في يونيو عام 1997 كتبت الليندي:"احتملي العقد، أرجوك! لا أحب أن يقدموا نصف ما دفعوه من قبل. ولا أريد أن يطبعوا الكتاب إن لم يقبلوا بمشروعنا. لا تكوني جشعة، وأرسلي لهم نسخة ملونة". في الرابع والعشرين من مارس عام 1970، عيّن الكاتب البيروفي كارمن بالسيلس كوكيلة أدبية عن أعماله. قبل ذلك كانت علاقتهما حميمة، لذلك بعث لها برسالة ودية جداً اعترف فيها بأنه محبط لأنه لا يستطيع التفرغ كلية للكتابة:"يحدث أنني أشعر كل يوم بملل من إعطاء محاضرات والعيش كغجري، وكل يوم أكافح حد القتل لأتحصل علي لقمة العيش وأتفرغ بعد ذلك للكتابة فقط". كُتبت هذه الرسالة في عام 1969 وبعد أن كان قد نشر رواية "المدينة والكلاب" عام 63، وترجمت إلي عشرين لغة سريعاً، و"البيت الأخضر" عام 66، تعرض لواحدة من أسوأ الكوارث التي قد يتعرض لها روائي في مايو 1969 " حدثت لي تراجيديا مفزعة. نصف الرواية التي كان يجب أن تكون في يد كالوس ضاعت مني في مكان ما من العالم بسبب مضيفة غير مسؤولة. لديّ لحسن الحظ نسخة منها لكن تخيلي ما حدث. بعيداً عن هذا يبدو لي فألاً سيئاً أن يتصفحها شخص غريب". وأغلب الظن أن هذه الرواية كانت "حوار في الكاتدرائية" المنشورة في نفس العام، وهي الرواية التي كثيراً ما أشار إليها في مراسلاته مع وكيلته خلال عام 1970 من لندن. بعدها نشر مع دار سييكس بارال، وكتب: "لقد نشروا لي بفضل كارلوس وبمساندته وإيمانه بي حدث ما حدث لكتبي". في هذا العام الحيوي اتخذ يوسا قراره: "بداية من يوليو سأتفرغ فقط للكتابة لأعيش من كتبي". أغلب الظن أن العلاقة الحميمة جداً بين النوبل الكولومبي ووكيلته الكتالونية أكبر وأعمق بكثير مما يعكسه الأرشيف الذي يقع الآن في حوزة وزارة الثقافة الإسبانية. لقد احتفظت بالسيلس بمخطوطات كتبه ورسائله التي لابد أنها لن تستغني عنها أبداً. هذا يبرر ندرة الرسائل الشخصية بينهما الموجودة في صناديق كتاب أمريكا اللاتينية، رغم المراسلات المهنية الغزيرة الناجمة عن النجاح العالمي لروايات ماركيز. في مقر الوكالة هناك ما يسمي بالمكتبة الثانية لجارثيا ماركيز: 700 صندوقاً يحوي نسخاً من كل طبعات أعماله في العالم. أبلغته بالسيلس يوم 23 أغسطس عام 1973 بنقل مكتب وكالتها:" قررت أن أنقل مكتبي وأشعر برعشة لا يمكن احتواؤها لأنني اتخذت القرار دون مباركتك. كنت أتمني أن تري الشقة وأن أعرف أنها أعجبتك". وطلبت منه "كمعروف خاص" أن يقرأ رواية لويس جويتيسولو "حكاية مكررة". كتبت له :"إن أعجبتك أطلب منك عبارة صغيرة...". من الأرشيف أيضاً دعوات لا حصر لها، وصفقات كثيرة مرتبطة بحقوق المؤلف. يمكن أيضاً قراءة تفاصيل سرقة تعرض لها الكاتب في أكتوبر 85 في فندق برينثيسا سوفيا ببرشلونة، إذ قدمت زوجته مرثيدس محضراً في قسم شرطة قالت فيه إنهم سرقوا من غرفتها خواتم وعقود وحلقان وحقيبة السفر بالباسبورات (تم استعادتها أخيراً) وعشر سيديهات بها روايته الأخيرة التي لم تكن قد نشرت بعد ولا صححت. قيمة المسروقات وصلت ثمانية ملايين بيزيتا. هناك أيضاً ملاحظات كتبها جابو وزوجته، التي وقعت باسم "جابا". الشاعر الشيلي الشهير وكّل بالسيلس عام 1971، عندما كان سفيراً لشيلي بباريس، وجزء كبير من مراسلته قامت بها سكرتيرته. من خلالها، كتب في نوفمبر 1971:"السيدة بالسيلس الموقرة، يسرني أن أتوجه إليك بأمر كلفني به سعادة السفير لأقوله لك:1- يبدو له المقدم هزيلاً- أن النشر خارج الولاياتالمتحدة لا يتضمن التنازل عن الحقوق ولا الدفع لدار النشر". في ديسمبر من نفس العام، أخبرته الوكيلة أن تابيس ستنشر طبعة من "عشرون قصيدة حب". كان نيرودا مدركاً للتشابكات الحادثة مع وكيلته، هكذا كتب لها عام 1972: "أعرف أن تمثيلك لي يكلفك عملاً كثيراً. معذرة. لكن أعتقد أنه بمجرد فك الاشتباك كل شيء سيكون علي ما يرام. الآن سأفعل فقط ما يجعلك تتحدثين عني بشكل جيد". بعد شهر، اعترف السفير: "خطاباتك التي تحمل نية إرعابي بسبب وعودي السابقة التي لم أنفذها لم ترعبني وذلك ببساطة لأنني مرعوب.فيما يتعلق بالناشر السويدي أخبرك أنه بارد من النوع الجيد. يفهم من ذلك أنه دفع للمترجمة مرة واحدة والباقي كان نصباً ببساطة. إنه ليس الناشر الوحيد الذي يستحق أن يكبر. أنصحك أن تتعاملي مع بيلليني بقفاز من الحرير. وأنا أتفق مع نسبتك وسيطرتك، لكن يجب أن تتذكري أنه الوحيد الذي أراد أن يحصل مني نسبة، رغم إلحاحي. هذا يستحق إتفاقاً خاصاً". وظلت بالسيلس وكيلته حتي وفاته. فاز صاحب "السيد الرئيس" بجائزة نوبل عام 1967 وكان الأول في القائمة الطويلة من اللاتينيين الذين تعاقدوا مع بالسيلس والفائزين بهذه الجائزة الكبري. وبالإضافة لتقتيره، لم يكن استورياس يتمتع بحس فكاهي. كتب لها :"اكتب لك سريعاً قبل أن تتعاقدي مع دار لومن، إذ أنهم لم ينتبهوا أن من كُتاب الكِتاب فائزان بجائزة نوبل. أولاً، متحدثاً باسم نيردوا الذي لا يبدو أنه سيتحدث(كان ذلك بعد وفاة نيرودا) ثانياً باسمي، لا أحب أن يقع اسمي في مجموعة مختارة تحت اسم "كلمة صغيرة" فكلمتنا دائماً كبيرة السن". بعد أن التقي بها كاتب اوروجواي الكبير، صاحب "عندما لا يهم" كتب لها:"أولاً ما حدث اكذوبة. أنت لم تلتقي بأونيتتي، بل التقيت بعجوز عاجز، شبه مدمَر جراء المضاد الحيوي ومكفناً في سرير يصفه الروائيون الطيبون بأنه مشكوك في نظافته وأنا أفضل تسميته قذر. ربما نلتقي مرة أخري". وبعدها بعام، بعد أن تلقي أمواله من دار سالفات، كتب لها بسخرية رقيقة: "تلقيت في الحال خطابك بتاريخ 5 أغسطس، إنه أجمل خطاب كتبته امرأة". وفي بدايات 1974، وبعد أن تجذرت الديكتاتورية في أوروجواي، شجعته الوكيلة علي الإقامة هو وزوجته في إسبانيا، وهو ما حدث أخيراً، حتي مات في مدريد عام 1994 لكن هناك رسالة للوكيلة قالت له فيها:"أسحب عرضي بمساعدتكما في الإنفاق علي إقامتكما في إسبانيا، لكن تأكوا أنه في اللحظة التي تقرران فيها المجيء، ستجدان صيغة سحرية يمكن من خلالها سحب أموال من مكان ما، حيث لا يبدو لي مناسباً الاقتراض من ناشر أو أن نبيع له كتاباً لم ينته بعد". تأخر أونيتتي عدة أشهر حيث سُجن في أوروجواي بعد أن فاز بجائزة عن قصة وصفت بأنها بورنوجرافية ومحرضة علي الديكتاتورية. كتبت زوجته لباسيلس في 1974:"لا يزال خوان في المصحة، معتقلاً.. ويرسل لك حضناً كبيراً رغم أنه في حالة سيئة..والله يعلم أية رواية سيكتبها بعد أن يخرج".