الورطة هي أن تكتب عن كبيرٍ شهادةً في حدود ثمانمئة كلمةٍ فقط لاغير. والورطة الأكبر أن يكون هذا الكبير هو واحد بحجم وقيمة بهاء طاهر، مع الاحتفاظ بالألقاب التي هو أكبر منها جميعًا ، بل وأكبر من الجوائز التي حصل عليها ، وتنازل عن إحداها لغيره ذات مرة ، ورد واحدةً أخري لمانحها، اعتراضًا علي فعله الإجرامي مرة ثانية . العطاء بهاء طاهر .. ذلك الحيي المتعففُ القادرُ علي رسم صورة حقيقيةٍ ومبهجةٍ للكاتب المصري الذي يقدم دوره الثقافي والوطني علي غيره من الأدوار والمكاسب. بهاء طاهر الذي جاء بحد قوله في مقدمة رواية خالتي صفية والدير من أسرة رقيقة الحال، هو نفسُه الذي تنازل عن جائزة مبارك عام 2008 لصالح اسم رجاء النقاش ، ثم حصل عليها بعد ذلك، ولكنه ردها بعد ثورة 25 يناير، اعتراضًا منه علي قيام مبارك ونظامه بسفك دماء المصريين في ميادين تحرير مصر كلها. وبهاء طاهر هو الذي تبرع بقيمة جائزة ملتقي السرد العربي الثاني التي تسلمها في العاصمة الأردنية .. تبرع بها لإنشاء صندوق لترجمة الأدب الأردني، وهو الذي خصص جائزة سنوية لمدينة الأقصر (مدينته) وتبرع بإنشاء قصر ثقافة هناك علي قطعة أرضٍ وحيدة كان قد ورثها عن أبيه، الذي رحل قبل أن يحقق حلمه ويبني عليها بيتًا، يقضي فيه بقية أيامه، في مسقط رأسه. الحياء أما نحن أبناء الجيل الذي أعقب جيله فقد حاولنا أن نتعلم منه الكثير .. حاولنا أن نتعلم وضوح الهدف، والرهان علي الناس والجمال والخير. لقد كان أكثر ما يدهشني طول السنين في بهاء طاهر وأنا أراه ، في كتاباته وفي حركته المطمئنة في الحياة، رغم كل ما تعرض له من ملاحقة واستبعاد .. كان أكثر ما يدهشني ذلك الحياء الجم ، الحياء المصحوب بتواضع الكبار، الحياء في الحياة، والحياء في الكتابة أيضا. نعم هناك حياءٌ في الكتابة، وهو ذلك الذي يجعل الكاتب منتميًا إلي ناسه وإلي محيطه الثقافي العام ، ذلك الحياء الذي يجعل الإبداع حتي وهو يتحدث عن العري إبداعًا نظيفًا وحرًا في آن واحد ، لا تزيّد فيه ولا نقصان، يجعله ابداعًا حقيقيًا لا يخاطب الغرائز ولا يرفض تجلياتها المحسوبةَ والموظفة فنيًا بميزان الذهب. الوصية الذي لا شك فيه الآن هو أننا (وبرغبة حقيقية ومقدرة لبهاء طاهر) لو أردنا تكريمَه وغيره من المثقفين والمبدعين الحقيقيين الذي يصفُهم هو في أكثرمن موقع ، بأنهم ضمير الأمة. لو أردنا تكريم بهاء طاهر وهؤلاء يجب علينا أن نقف جميعا أمام العربات المذهبة القادمة التي ستقل كبار رجال البلد سواءً كانوا باشوات وبكوات، بثيابهم المطرزة ونياشينهم المذهبة ، أو كانوا ممن يرتدون الجلاليب القصيرة ويطلقون اللحي. لو أردنا تكريم بهاء طاهر،أطال الله في عمره، وتكريم أجيال ممتدة من كبار أدبائنا ومفكرينا علينا أن نقف جميعًا بجوار هذا الوطن وعلينا أن نردد مع "كاثرين" إحدي شخصيات بهاء طاهر: " هذه الصحراء ستحاربنا، وكذلك الواحة، وأعداء نعرفهم، وأخرون نجهلهم، وسنموت بالطبع في النهاية، سنموت مثل كل الناس، ولكن يجب ألا نموت مهزومين". البصيرة في حوار مع بهاء طاهر في منتصف شهر يوليو الفائت بجريدة المصري اليوم، يقول: "الإخوان والحزب الوطني يسيطران علي المشهد السياسي الآن ، والأحزاب الأخري القديمة كرتونية ، وشباب الثورة مازالوا في طور البداية"، ويؤكد علي أن الاستمرار في الوضع الذي ينتهجه القائمون علي الحكم معناه تسليمُ مفتاح البلد إلي الإخوان والحزب الوطني. وفي كتابه "أبناء رفاعه" يجيب بهاء طاهر عن سؤال يقول : ماذا قدم المثقفون لوطنهم ؟ وهو يري أن المثقفين من بداية عصر النهضة وحتي الآن قدموا تضحيات من حرياتهم وحياتهم وأحاسيسهم بالغربة ونفيهم من أوطانهم وقد آن الأوان أن تقدر المجتمعات العربية مثقفيها ليس فقط تقديرًا ماديًا، ولكن أن تقدر لهم أدوارهم وأعمالهم بأن تضع رسائلهم التي ظلوا يبثونها علي مدي عشرات السنيين موضع التطبيق ، هذا هو التكريم الحقيقي للأديب والمثقف والإعلامي. وهنا أجدني وجها لوجه أمام مقطع مهم لبهاء طاهرعلي لسان محمود، بطل رواية "واحة الغروب"، وهو يحدث نفسه في صحراء ممتدة ، وكأنه يحذرنا من قادم نخشاه جميعا، يقول: "رأيت بعيني (الولس) الذي كسر عرابي ، ثم رأيت (الولس) الأكبر بعد أن كسروه ، جنب بيتي بالضبط في الميدان الذي شهد المجد والفرح وعرابي فوق حصانه شاهرًا سيفه يعنف الخديوي الذي طالما أذلهم: " لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثا وعقارا ، والله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم ، والناس يتجمعون وافدين من الشوارع والحواري يتعانقون علي غير معرفة وفي عيونهم دموع الفرح. يوم عيد في المحروسة ". (نلاحظ هنا بجانب الطاقة الشعرية الكبيرة التي تتحصن بها اللغة، والتي لسنا بصدد الحديث عنها الآن، نلاحظ أن هذا هو ما كان يحدث في الأيام الأولي لثورة 25 يناير) ثم يكمل بهاء طاهر علي لسان محمود: "وفي المكان نفسِه بعد سنةٍ لا غير ، رأيت العربات المذهبة تجرها خيول تتهادي واحدة بعد أخري إلي الميدان الفسيح ، تقل كبارَ رجال البلد ، الباشوات والبكوات ، نواب البرلمان الذين كانوا يلقون الخطب الملتهبة ضد الإنجليز أيام (الهوجة) ، رأيتهم هم أنفسهم يترجلون بجلال من عرباتهم بثيابهم المطرزة ونياشينهم المذهبة لينضموا إلي الخديوي في منصته".