عانت محطة مصر ككل شيء في مصر، المحطة الأقدم في الشرق الأوسط والتي تؤرخ للسكة الحديد في إفريقيا لم يهتم أحد بحاضرها فكيف تجد من يهتم بماضيها؟ سقطت من حسابات نظام فشل في استثمارها وفي إدارتها فتركها "كماً مهماً" يرهق ملايين من المصريين المتعاملين معها يوميا، تركها النظام بعد أن شوهها وأفقدها أندر ما فيها. الحقيقة أن معاناة المحطة بدأت قبل ذلك بكثير، وشهدت طوال تاريخها الطويل كثير من الإضافات والتغييرات، بدأت باحتراقها بالكامل في أواخر القرن التاسع عشر فتم إعادة تصميمها وإنشائها علي شكل موسع عام 1893 التصميم الجديد لم يسلم أيضا فشهد أكبر التغييرات وأكثرها خطورة بدأ بعد ثورة 52 حين تغيرت هوية المحطة الإسلامية وأضيف إليها الكثير من الطرز المعمارية التي تميز بها شمال إفريقيا والمغرب علي وجه الخصوص، تم تعديل الواجهات الخارجية وتشطيب البهو الرئيسي باستخدام الجرانيت والبلاطات الخزفية عوضا عن أعمال بياض الحجر الصناعي والذي يكسو واجهات البهو، رغم أنها ظلت عبر تاريخها الطويل محتفظة بطابعها الإسلامي وزخارفها المملوكية، فمنذ إنشائها تعد محطة السكك الحديدية الرئيسية في القاهرة، أو "محطة رمسيس" -نسبة إلي تمثال رمسيس الثاني الذي نقل قبل سنوات من ميدان المحطة- من أهم مميزات القاهرة الخديوية، بل كانت المحطة من أهم معالمها عندما أنشئت السكك الحديدية في مصر خلال عهد الخديوي سعيد عام 1854، وجري تحسينها وتطويرها لأول مرة في عهد الخديوي إسماعيل الذي أضاف إلي مبانيها، واختير مكان "باب الحديد" محطة رئيسية لها، وبذا أصبحت القاهرة ثاني مدن العالم التي تتأسس فيها محطة قطارات بعد لندن.تصميم مبني المحطة تولاه المهندس المعماري البريطاني الشهير إدوين باتسي عام 1893 وأنشأها علي الطراز الاسلامي بزخارف مملوكية، وفي الداخل شبكة حديدية معشقة بالزجاج يمسح بدخول الضوء وتهوية المحطة من الأبخرة خاصة وان البداية كانت مع قطارات تعمل بالفحم. وقد تم توقيع عقد عام 1851 مع البريطاني "روبرت ستيفنسن" - نجل جورج ستيفنسن مخترع القاطرة الحديدية - بقيمة 56 ألف جنيه إنجليزي لإنشاء خط حديدي يربط بين العاصمة المصرية والإسكندرية بطول 209 كيلومترات ونص العقد علي دفع المبلغ علي أقساط، قيمة كل قسط 8 آلاف جنيه، وأن يتم التنفيذ في غضون ثلاث سنوات بشرط أن توفر مصر العمال والأطباء والأدوية والخيام للمشروع. كان "محمد علي" مؤسس مصر الحديثة هو أول من فكّر فيإنشاء السكك الحديدية، وكان ذلك باقتراح من الإنجليز الذين حاولوا بناء علاقات جيدة مع مصر منذ لفتت الحملة الفرنسية عام 1798 أنظارهم إلي أهمية موقع مصر وتأثير هذا الموقع علي إمبراطوريتهم في الهند إذا ما وقع تحت تأثير فرنسا، وكان المصريون قد طردوا الحملة الفرنسية عام 1801، وحاولت إنجلترا احتلال مصر فيما عُرف بحملة "فريزر" عام 1807، فتقرب الإنجليز كثيرا من "محمد علي" حاكم مصر تحت ظل الخلافة العثمانية، فاقترحوا عليه عام 1834 فكرة إنشاء سكك حديدية بمصر.. ولم يتم لاعتبارات الصراع بين فرنساوإنجلترا. تفاصيل القصة تقول إن إنجلترا عرضت علي "محمد علي" إنشاء خط بين السويسوالقاهرة، ووصلت إلي مصر بالفعل كميات من القضبان إلا أن فرنسا التي كانت تسعي لتنفيذ مشروع قناة السويس، أقنعت والي مصر بأن بريطانيا تهدف من وراء عرضها أن تفصل الدولة المصرية عن العالم الإسلامي؛ فتراجع عن الفكرة، وتوقف الأمر حتي عام 1854 العام الذي شهد تسيير أول قاطرة علي الخط الحديدي في مصر بين الإسكندرية ومدينة كفر الزيات في منطقة الدلتا، وقتها كانت عربات القطار تعبر مياه النيل في المدن المختلفة بواسطة المعديات قبل إنشاء الجسور الحديدية علي المجري المائي، كان القطار يقف عندما يصل إلي فرع النيل، وينزل الركاب ليعبروا في معديات وينتظرون لمدة ساعة أو ساعتين بالمدينة، ثم يركبون القطار بعد عبوره أيضا علي المعديات، واكتمل الخط الحديدي بين القاهرةوالإسكندرية عام 1856، وبعد عامين تم افتتاح خط بين العاصمة المصرية والسويس، ثم بدأ إنشاء خط القاهرة بورسعيد بعد عامين آخرين، ولم يشرع في إنشاء خط حديدي في صعيد مصر إلا في عام 1887. ومنذ ذلك الحين تحتل "محطة رمسيس" أو "باب الحديد" مكانة أثيرة في الوجدان الشعبي العام، ليس فقط لأنها تربط المصريين بجذورهم في الصعيد أو في الدلتا، ولكن أيضا لكون هذا المكان العريق أحد الشهود علي تاريخ مصر وحضارتها. اسم هذا المكان تغير بتتابع العصور والأزمنة علي القاهرة، فموقع المحطة كان يمر فيه قديما نهر النيل وينتشر من حوله السقاؤون حاملين القرب المملوءة بالماء، وكان النيل آنذاك محاطا أيضا بالمصانع والترسانات والأساطيل التي بناها السلطان صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الصليبيين، إلي أن أصبح مكانا متخصصا بعصر الزيوت، وتنتشر فيه العصارات، وعرف باسم "باب البحر"، وبعد ذلك عرف ب"باب الحديد" لأنه كان محاطا ببوابة حديدية كبيرة، وعلي الرغم من زوال تلك البوابة فإن الاسم التصق بالمحطة، حتي بعد أن تغير رسميا في خمسينات القرن الماضي، حين نقل تمثال ضخم لرمسيس الثاني لينتصب أمام المحطة، وبالتالي سمي الميدان والمحطة معا باسمه، ومع أن تمثال رمسيس، الذي نقل بعد ثورة 1952 ليقف حارسا مهيبا علي محطة مصر، ابتعد عنها في عام 2006 ليقف حارسا علي المتحف المصري الكبير، فقد ظل اسمه لصيقا بالمكان. الآن تشهد المحطة التغيير الأكبر في تاريخها، في مشروع بدأ قبل ثورة يناير واستكمل بعدها، المشروع بدأ بتعد كبير علي أحد مباني المحطة فيما عرف وقتها بقضية "جراج رمسيس" حيث هدم أحد المباني الملحقة بالمحطة من اجل إنشاء جراج شوه المنطقة بالكامل، وكشف تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات ظهر مؤخرا عن إهدار حوالي 32 مليون جنيه علي بناء هذا الجراج الذي تم هدمه قبل استكماله، وكشف عن إهدار مصاريف أخري تحملتها الهيئة القومية للسكك الحديدية لتنفيذ أعمال الجراج، بالإضافة إلي تكاليف الهدم، وكانت العمليات الإنشائية للجراج قد بدأت في 14 سبتمبر 2003 علي مساحة 4 آلاف متر مربع وتم هدمه بعد أن دفعت تكاليفه هيئة السكك الحديدية التابعة لوزارة النقل. وفوجئ المسئولون بالوزارة بقرار الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء وقتها بوقف الأعمال في الجراج، وبعد أسابيع قليلة أصدر قرارًا بهدم طابقين من الجراج حتي يكون موازيا لسور كوبري 6 أكتوبر، واستجاب مسئول السكك الحديدية، وبدأت الجهات المختصة في إزالة الطابقين، وفجأة صدرت أوامر بهدم جميع الطوابق المقامة فوق سطح الأرض وعددها 6 طوابق مما أثار جدلاً حادًا في مجلس الشعب حول المسئولية عن إهدار المال العام المتمثل في تكاليف البناء والهدم رغم الدراسة المتأنية وموافقة عدد كبير من الجهات الحكومية. بررت الحكومة قرار هدم الجراج بالحفاظ علي الطابع الجمالي، وتعهدت بالبدء بعملية تطوير ميدان رمسيس وطرحه علي أحد المكاتب الاستشارية لإعداد الدراسات الخاصة بالتطوير. بعدها بدأت بالفعل الدراسات لمشروع تطوير الميدان بالكامل وبدأ العمل العام الماضي في مبني المحطة نفسه، وبمجرد أن بدأ العمل بدأت الاعتراضات تتوالي من جهاز التنسيق الحضاري وأيضا من المتابعين والمهتمين بالعمارة في مصر، وأكدوا جميعا أن هناك عملية "تخريب" تجري لواجهة المحطة التاريخية التي تحمل زخارف إسلامية نادرة، ووقتها أقرت وزارة النقل بمسئوليتها عن "تخريب واجهة محطة مصر" وقدمت مخططات مشروع التطوير بالكامل لجهاز التنسيق الحضاري للبت فيه، الغريب أنه بعد عدة توقفات عاد المشروع واستكمل مرة أخري دون اعتراضات هذه المرة- إلي ن قامت ثورة يناير فتوقف مرة أخري، ثم عاد واستكمل بعدها وافتتح مؤخرا ليفاجأ الجميع بشكل مختلف تماما للمحطة التاريخية من الداخل حتي أن بعض المتابعين وصفوها ب"الملهي الليلي" نظرا لكمية التغييرات الكبيرة غير الملائمة علي الإطلاق لمبني المحطة التاريخي.