الكتابة عن عمل لكاتب بحجم إبراهيم عبد المجيد، يأتي عن ثورة 25 يناير، وفي هذا الظرف الملتبس يُعدّ نوعا من السير علي ألغام عدة في وقت واحد. يبدو الكتاب عنوانا لأيام التحرير، وليس العكس؛ إذ يُشرف الميدان علي الكتاب ويُشرق عليه، فيأتي الكلام عن الميدان بولهٍ عجيب، ربما بفضل ذكريات قديمة منذ السبعينات، وربما لارتباطه، وما حوله، بسيرة عبد المجيد الإبداعية وفترات الكتابة الطويلة. إن "وسط البلد" هي الأتيليه و"ريش" و"زهرة البستان"، ومؤخرا "دار الياسمين". والميدان هو معقل ذكريات ترتبط بالثورة، الآن، وأمل دنقل ومظاهرات الطلبة في 1972 تلك التي استقرت أيضا - في ميدان التحرير ليكتب عنها أمل دنقل "الكعكة الحجرية" ولعل ذلك هو الدافع لبروز تيمة الوطن في حديث كاتبنا عن الميدان؛ فيترادف عنده الميدان والوطن ويحيي الناس دائما ب "تصبحون علي وطن"، والشباب- عنده - "يدخل التحرير كأسراب طير تعود إلي أوطانها"، وفضاء الميدان بدا "فضاء مصر كلها". الميدان صار البيت؛ ليذكرك بمقال وطن يعني home و homeless يعني بائس. تسمية الكتاب باليوميات أو المذكرات لن يجعل الكاتب يشتري ماضيه الروائي من عموم متلقين طالما عرفوه روائيا قديرا ذا مواقف معينة وبخلفية ما. إن خلفيات التلقي تلك لن يهدمها عنوان جانبي مغاير لكون العمل المكتوب "رواية"؛ ولذا تحضر عنده فكرة الموت والشهداء وإلحاحه علي كونه يري ويتفرج .لقد تم توظيف استعارة الموت والربط بين السرد والموت حاضر في أقد العهود السردية حتي كانت واحدة من مكونات نص "ألف ليلة وليلة" واتخاذ الحكي وسيلة للنجاة من الموت.غاية الأمر أنه يطرح اقتراحا للقراءة. لا أعتقد أن النص متعجل.إنه مكتوب بالقوة قبل الثورة ذاتها. ستجد هذه الحرارة والقدرة في نصوص من يتصدي للحديث عن الثورة وقد سبقه إليها حلمه بها وإيمان بمطالبها، أما الذين تمرغوا في حضنه ثم يكتبون "لسه النظام ما سقطش" فدعهم. ولذا يبدو الفصل الأول "إلي 25 يناير" واحدا من أروع الفصول وأنبلها فكرا، فيه يتحدث عن مظاهرات كثيرة حدثت بدءا من انتفاضة يناير 1972ثم الاحتجاج علي اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب مرورا بوقفات احتجاجية كثيرة متعلقة بفلسطين ولبنان والعراق، وصولا ل"كفاية" التي بتعبيره-حركت الماء الراكد وكذا حركة 6إبريل. كلهم أضاءوا الإنسان الخرب المهدم، وكأنه أراد أن يقول إن خطوات الشباب للميدان كانت ثمرة لآلاف المقالات والقصص القصيرة، ومئات الروايات وبرامج التوك شو المثيرة وعشرات المظاهرات والوقفات الاحتجاجية السابقة علي يناير الرائع. إنها لم تكن ثورة أيام ولكنها أيام الحصاد.أيام النفحات.أيام عريضة لا يضيرها أنها قصيرة. لا يبتعد عن هذه الفكرة احتفاء الكتاب بالناس.الإنسان هو بطل الكتاب كما هو بطل الثورة ذاتها مئات الشخصيات مذكورة بالاسم، ويعتذر لآخرين وجاء إهداء الكتاب لزوجته تيسير ربما إكراما لأخيها نزار سمك الذي مات في محرقة بني سويف الشهيرةلا تناقض بين تحليله المنطقي لبعض الأحداث واعتماده الصدق مقياسا لقبول بعضه الآخر؛ فيصدق وائل غنيم ودموعه، وجابر عصفور في استقالته برغم صدمته في قبوله الوزارة، ولكنه التسامح وربما مراعاة وداد لحظة. ولا يصدق خطاب مبارك الأوسط الذ ي انطلي علي كثيرين، ونكسوا علي رءوسهم وبكوا علي الهواء، وقد يعتمد علي ذكاء القارئ ليستنتج رأيه؛ جرب ذلك لو ربطت بين حديثه عن قيام يحيي الجمل بالدعوة إلي الانصراف من التحرير وبين قيامه بالدفاع عن مصطفي علوي في محرقة بني سويف.هذا الصدق الذي جعله لا يدعي بطولة لم يفعلها فيلح علي أنه يذهب ليري ويتفرج ويذكر قفزه من عربة الترحيلات في شبابه ويلوم ابنه لأنه حديث عهد بالمظاهرات. يطغي المنطق علي كلامه وتحليله للأحداث واستبطان المواقف مثل استنتاج ضرب المتظاهرين ليلة 25 والحدس بموقعة الجمل. إنها خبرة السنين التي تجعله ينسب الفضل لأهله مساويا بينهم فلا يزيد كلامه عن محمد البرادعي الذي حرك الماء الراكد عن بائع الكبدة في شارع هدي شعراو ي الذي سهل دخول الإمدادات. إن توحد الأرخبيل هو المعجزة التي جعلت أيام التحرير "حالة" حقيقية طالما أن رجلا كعبد المجيد يذكر "عاطف" عامل مقهي البستان وسايس الجراج بنفس الدرجة، وتراه يأتي بالكلام عن متن الثورة من الكتاب والفنانين بنفس الدرجة عن الهامش. وهذه النظرة الموضوعية أو الاشتراكية (سمها ما شئت) هي التي جعلته يقيم توازيا شفيفا بين العلاقات الاجتماعية الحقيقية في الحياة.علاقات من لحم ودم، وبين وقوعها في العالم الافتراضي الذي قرب بين المتباعدين ربما بشكل أكبر ممن يجر ي في عروقهم دم اللحمة والقرابة، ولذا كان حضور مقتطفات من حواراته علي الفيس بوك أمرا طبيعيا.إنه الميدان الآخر. يتداخل الخاص والعام في هذه المذكرات فيقل ذكر ولديه زياد وإياد وتراه يتعجب من نفسه لأنه نسيهما في هذه الفترة التاريخية، وربما لا يعلم أخبارهما إلا من شبكة الإنترنت ذاتها. ولا يفوت عبد المجيد الحديث عن الإعلام الرسمي ووقاحته حين دلس علي الناس بموضوعات كنتاكي وإيران. خيط أخير يطغي علي الكتاب وهو ما احترز عن تسميته تنبؤا بالثورة، فيسميه علي حقيقته "لا أزعم أنني كنت أتوقع الثورة علي هذا النحو العظيم" برغم إلحاحه علي حاسة التنبؤ الأدبية من مثل حديثه عن قصة "الجدار" وروايته " في كل أسبوع يوم جمعة " ومقالات لفت النظر فيها إلي الجروبات الاجتماعية علي الانترنت ومقال يربط فيه بين فترة مبارك وقلة الأمطار ويتوقع هطولها قريبا.