تخلق رواية خالد البري الأحدث »العهد الجديد« عالما مفارقا، عجائبيا بالكامل، وغارقا في الفانتازيا التي لا تضع سقفا لشططها. إنها واحدة من الروايات التي تخاصم تمثيل العالم، من أجل إعادة تأويله عبر خلق وجود استعاري، لتؤسس واقعا فنيا لا يمتح من أي شرط خارجه إلا لكي يذيبه في شرطه: عالم من المسوخ والكائنات غير القابلة للتوصيف والأماكن المبتدعة، بأسماء هذيانية ومهن مختلقة، تحيا في أدغال العقل الباطن، في سرابات الأحلام.. بعلاقاته اللامعقولة وحبكته المربكة. وبالضبط مثلما تتسلل مفردات الواقع إلي الأحلام، محرفة ومشوهة وذائبة في نسيجه، يتسلل الواقع إلي عالم هذه الرواية، الأقرب لحلم شاسع، ليكتسب ضوءا جديدا يعري هزليته. لعل من العبث محاولة تلخيص الرواية، فهي لا تكف عن توليد الشخوص والمواقف التي يحيل بعضها إلي بعض. ثمة متاهة حقيقية تتجول الحكايات في سراديبها، لكن، وبتلخيص مخل، تتحرك الرواية في حبكتين بالتوازي. العالم هذه المرة، موزع علي قطبين، برج الأسد ببلدانه الموزعة علي خريطة جسده (من قبيل بلاد قوزي، بلاد وازعان، بلاد شوبان، بلاد است)، وبرج السرطان، أو »الشرنقة« وهو يسبح في عالم بلا دول، بل محافظات: محافظة مصر، محافظة فرنسا). ثمة مهمة غامضة لإنقاذ برج الأسد الذي ينتمي له مليونا شخص من خطر يتهدده في الفضاء.. وبالتوازي نتتبع تفاصيل بحث »الساهرون« في برج السرطان المدعو بالشرنقة، عن فتاة بمواصفات خاصة، بين إناث البرج الموضوعات تحت المراقبة، لاختيار الأشد خصوبة وقدرة علي الإغواء، وما تلبث أن تتكشف العلاقة بين الحبكتين، لنكتشف أن ثمة برجين مهددين بالفناء وحان وقت هبوطهما من الفردوس السماوي إلي الأرض لتبدأ الحياة الجديدة، أو »العهد الجديد« برجل من الأسد وفتاة من السرطان أو الشرنقة. بدا لي هذا التقاطع، وفق تأويلي الخاص، اشتباكا بين وجود قبل حداثي، تلخصه »القبلية الأسدية« وأنماط إنتاجها وشكل معجزاتها، ووجود »ما بعد حداثي« نري فيه أفرادا مشوشين بين معطيات متناقضة في ظل معجزات يقودها العالم الرقمي.. لكن »العهد الجديد« الذي يتخلق من رحم العهدين، من ذلك الصدام المنتظر و»الانفجار الكبير« الذي سيعيد خلق الوجود، لن يكون سوي مسخ يصعب التعرف علي ملامحه. تشويش السياق الزمني زمن وقوع الحكاية لعب آخر. في الكتب المقدسة ثم طموح لتجاوز زمن انتاج النص، لأن جزءا من رهاناتها يظل القدرة علي الإيهام بلا زمنيتها. هذا بالضبط ما تضخمه »العهد الجديد« بحيث تجعلك أمام العالم في قمة بدائيته وقمة تحضره في اللحظة ذاتها، وتحديدا، بتفجير ما في اللحظتين من خواء.
ما الذي يحيي المزحة؟ إنه الحضور المشع »للنمط«. »الأكليشيه« الذي تبني »العهد الجديد« مغامرتها علي أعمدته الصلبة، يتحقق هنا في جل تمظهراته. »السلطة« هي الأكليشيه الأكثر صلابة، والأكثر قدرة رغم ذلك علي إعادة إنتاج نفسه. كيف يمكن أن تبقي السلطة؟ وكيف يمكن أن تخلق ألعابا واهية، وخدعا مضحكة، لا تتساوق مع جديتها الظاهرة، لكنها تكشف عن هزلها؟ ولماذا تظل الخدعة قادرة علي البقاء بنفس الآليات؟ تقدم السلطة علي الدوام معطيات تقويض جديتها، ففي أعماقها تحيا مزحة كبيرة تكفي قراءة نزقة لتفكيكها. وفي العهد الجديد ثمة دأب لإيقاظ هذه المزحة. تخلق السلطة نمطا آخر هو »الشخصية الهزلية« فهي تعد أدوارا ولا تعتد بالذوات، وهذا بالضبط ما نجده في »ملهاة« العهد الجديد. هناك مسوخ السلطة (من شخوص كحارس السر، وجماعة الفك والربط) المتحققة كصور كاريكاتورية، غرائبية، تبدو تشويها لأسبلاف مقدسين. حتي »الصراع المقدس« بكل جاهزيته وتعليبه، يعاد الاشتغال عليه، وتأكيده في أشد أشكاله ابتذالا. بالمقابل، فإن شخوص السرطان تقترب أكثر من خلق وجود مواز لعالم ما بعد الحداثة، لتخلق بدورها أنماطا كاريكاتورية، خاوية ومفتتة، قادرة علي الإحالة ، علي غرابتها، لجل المقولات التي يحيا علي خلفياتها العالم الحديث: التحولات المفاهيمية الفادحة والمجانية لدي البشر، (مثل ارتداء فتاة للحجاب فور إقامة علاقة جنسية محرمة)، الخطابات الأصولية في تشابكها مع أخري تقدمية، الشخصية الإنسانية المفتتة في أوهام »الكوكبية«. ولأن العالم، حسب »الشرنقة« »قرية صغيرة« بالمعني الحرفي، الذي يحمل تهكما عميقا علي المصطلح المصكوك، فإنه يمكن أن تمر جنازة الأميرة ديانا من ميدان التحرير، قادمة من »ترافالجر سكوير« مرورا ب»تايمز سكوير« ومتجهة لمدفنها في »الجمالية«.
اللغة سؤال عميق في »العهد الجديد« وهي لا تحضر فقط كمستويات تمنح الخطاب الروائي تنويعه، لكن اللغة في كل تجلياتها تسائل نفسها بقدر ما تطمح في الإيهام بتنوع الشخوص كخطابات. اللغة كوعاء للإيديولوجيا، اللغة كمظهر للمقدس، كلسان للسلطة، كأداة تواصل.. وصولا إلي اللغة في انشغالها بذاتها خارج إحالاتها الاتفاقية..كل هذه المستويات تختبر، كونها أنماطا أيضا، في أشد تجلياتها عقما. السارد، العليم، يتقافز بين طرائق لغوية مختلفة، من لغات الكتب المقدسة، من العهد القديم للقرآن، والسرد الشفاهي. اللغة، المقدسة في أشد تجلياتها خواء، تصير في النص خاوية في ذروة قداستها. مبدئيا، ثمة لسان واحد يتحدث به العالم. لم يوزع العالم بعد علي لغاته المتنائية. يتحدث الصيني سينغ سزنغ كالفرنسية لوان كالصعيدي، كحارس السر كميريهان... إلخ. هكذا يتواصل الجميع بلغة هي مزيج مضحك بين الفصحي والعامية، من قبيل سأرتدي ملابسي وآجي آشوفوس. أو: إيه دا..سنة لكي تفتح لي الباب؟. هذه الركاكة المقصودة في لغة الحوار، تكشف في الحقيقة المسافة الشاسعة بين لغة كتابة ولهجة نطق، يجتمعان مهجنين بدعوي اللغة الثالثة ذلك الابتكار الذي لم يعبأ بالاشتغال علي نفسه فصار مسخا يكفي تلاعب هين مع بنيته لكشف ما ينطوي عليه من كوميديا. هذه الوحدة الوهمية، لن تلبث أن تفصح عن خوائها حين تتحول إلي أداة تحاور، حين لا يغدو جدلا يحيل إلي تواصل أو حتي قطيعة، بل حفنة مونولوجات منفصلة »وجاهزة«. تتعامل الرواية مع كل ذلك، بجدية ظاهرية، لا تخفي خلفها سوي العبث الكامل.. وبتفكيك دؤوب، تتهادي الرواية حتي تنتهي في طبق فضائي، فيه صبي وفتاة، آدم وحواء جديدين.. قد يسقطان من الفضاء كما سقط أسلافهما من الجنة، لتبدأ رحلة جديدة/ قديمة، علي الأرض. طارق إمام