"حسبك أن تكتب حين تحس بالضرورة، لا ينبغي أن تقترف خطأ، ففي عالم الكتابة لا يسعفك أحد" هكذا هي الكتابة يجب أن تكون ملحة وضرورية، أن تكون موجعة وحية، لأن حسبما قال بورخيس أن الخطأ في الكتابة لا يُردُّ، لن يُسعفك أحدٌ حينما تقترف ذلك الخطأ، وهكذا تري هدي توفيق سؤال الكتابة في روايتها "بيوت بيضاء". قدمت للرواية بمقتبس لبورخيس من "مرآة الحبر" لذا يعتبر هذا المقتبس عتبة هامة من عتبات قراءة النص، فهذه الرواية مغايرة تماما لمشروع هدي توفيق السردي، فقد أصدرت أربع مجموعات قصصية، وهذا هو العمل الروائي الأول لها. في قصصها السابقة كان الهم الأنثوي ومحاولة فضح المسكوت عنه من تهميش وإقصاء للمرأة هو رهانها الأول، في "بيوت بيضاء" نضجت التجربة السردية للكاتبة، ليس علي مستوي الجماليات فقط، بل نضجت رؤيتها الفكرية للعالم، فتعقد العالم الروائي وتشعب، وأدركت أن وضع تجربة المرأة في سياقها الاجتماعي أكثر وعيا من أن تحول الهم النسوي إلي هم منفصل عن سياقات المجتمع. ينهض في الرواية مستويان من الخطاب: المستوي الأول هو الهم العام، الهم العربي العام والهم المصري، فنجد مذابح غزة تتصدر الرواية، تقوم الكاتبة بالإفادة من الوثائقية، فتحشد مانشيتات الصحف وشهادات المفكرين في تعالمهم مع اجتياح غزة في عام 2008 ، كما أنها توثق للحراك السياسي في مصر، وتكشف ممارسات النظام المصري السابق في تعامله مع القضايا الداخلية والخارجية. كما ينهض خطاب آخر يتوازي مع هذا الخطاب السياسي، هو الخطاب المجتمعي، ليس هموم الذات منفصلة عن سياقها الاجتماعي، بل هموم الذات الساردة وعلاقاتها الاجتماعية، ومحاولة كشف المسكوت عنه في علاقة المرأة الشرقية بعامة والمصرية بخاصة بالمجتمع. تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم لتوهم بالسير ذاتية، فتتحدث عن الذات الساردة التي تُماهي صورة الكاتبة وعلاقتها بصديقتها السرية وزوجها السابق وصديقتيها فاطمة البلوشي وفاطمة عبد الناصر اللتين أهدت لهما الرواية. بطلة السرد مدرسة تضيق بالحياة في مصر نتيجة للفقر والتهميش، فتقرر أن تذهب للعمل في سلطنة عمان في مدرسة خاصة. وهناك تكشف لنا عن عالم زاخم وشديد الثراء ومعقد، فتكشف عما تعانيه النساء هناك بصفة عامة وما تعانيه النساء المصريات المغتربات بصفة خاصة. تستلهم الكاتبة روح مصر القديمة المتمثلة في أساطيرها مثل أساطير الخلق التي جمعت بين إيزيس وأوزيريس وحورس وجب ونوت وغيرها. كما تستلهم أيضا روح مصر المتمثلة في الفلكلور الشعبي الذي يصنع نهرا يسير تحت النهر ويمثل الحيز الأكبر في الوعي لدي الطبقة المتوسطة التي تنحدر منها الذات الساردة . الخطاب في الرواية لا يأتي مباشرا وفجا، لكن الكاتبة تسربه برهافة في ثنايا السرد من خلال تفاصيل وحكايات صغيرة تخص الشخصيات النسوية في الرواية، فالبطلة التي تذهب لعمان لتعمل تحت رعاية كفيل وتعيش في حياة مشتركة وسط مجموعة من المدرسات من جنسيات مختلفة تسرد لنا حكايا هؤلاء النسوة، فنجد الأم التي ابتعدت عن صغيرها، وتجد الكفيل المغرم بقطف بكارة الشابات الصغيرات، وكذلك نجد المرأة التي لا تستمتع إلا بالعلاقة المثلية، كل هذه الحكايات تكشف من خلالها الكاتبة اللامعقول في مجتمعاتنا، المسكوت عنه، الاستغلال المهين للنساء، التحيز ضدهن. مجموعات النساء اللاتي يسكن البيوت البيضاء يتعرضن لأقسي أنواع القهر والاستغلال، ما بين الشعور بالغربة والبعد عن الأهل والأوطان وما بين كذلك الاستغلال الجسدي لهن. هن يسكن بيوتا بيضاء في غربتهن، ولكنهن لا يتوحدن مع هذا البياض ولا يشعرن بصفائه، فقد جاءت كل منهن محملة بأوجاعها الخاصة، المصرية والعراقية والهندية والسورية، كلهن في نهاية المطاف نساء يحملن تاريخا طويلا من الظلم، ظلم الطبقة الاجتماعية المهمشة بالأساس، ثم ظلم الجنس، كونهن نساء، وهذا يستدعي ردا علي من يستنكر شعور المرأة في المجتمع بالقهر والشكوي من ذلك أن الرجل في الطبقات المهمشة يتعرض لظلم واحد هو ظلم الاستبداد والتهميش الاجتماعي، في حين أن المرأة تتعرض لظلمين، ظلم الاستبداد ذاته، وظلم الرجل. الخطاب الأوضح وراء هذا العمل السردي المتميز هو القوة، روح قوية تعارك الحياة وتعاركها، روح مقاتلة، تصر علي القتال حتي الموت.