الليل له سحره الذي يستولي علينا ويأخذ بمجامعنا. لماذا الليل ساحر؟ كثيرًا ما تستولي علينا حالة السحر عندما نشهد ليل القاهرة، فيقول لسان حالنا: إن القاهرة مدينة ليلية. لماذا؟ هل هناك علاقة بين الليل ومدن معينة؟ فلماذا القاهرة إذًا؟ ألأنها تسهر الليل كله فلا تنام، بل تصل الليل بالنهار؟ أم لأنها تهدأ في عمق الليل بعد صخب وضجيج النهار، فتبدو كما لو كانت ترتاح من عناء يوم شاق بأن تغتسل وتتحمم بعطر ليلي يستقبل في حفاوة مريديه ومحبيه! الليل هنا ساحر. ألأن النيل ساهر.. سائر دائمًا إلي مستقره الأبدي، لا ينام أبدًا حتي حينما يُرخِي الليل سدوله! في ليالي الصيف يفترش الناس جسور النيل وشواطئه يتنسمون همساته، وفي الشتاء يتلمسون الدفء حالمين بأن يخصب الربيع حلمهم، ليثمر في الصيف القادم. لفحة الصقيع في الشتاء تُشعِرُك بالرغبة في الدفء والاحتماء، ومع الدفء ينشأ الحُلم وينمو ويتوالد، وهكذا تنشأ الأشياء الكبيرة من الأحلام الصغيرة. تسكن الكائنات في الليل بعد نهار مليء بالتدافع والسعي في طلب الرزق والبحث عن القوت. غالبًا ما تنام أو تهدأ الكائنات الصغيرة المزعجة بما في ذلك البشر، فلا يبقي إلا الكائنات الكبيرة: في البحر تختفي الأسماك الصغيرة مع غروب الشمس، وتسرح الأسماك الكبيرة والوحوش البحرية في الليل، بينما تسرح في النهار في الأعماق، ربما لأن الأعماق يخيم عليها الظلام الذي يشبه ظلام الليل، فلا يبلغها ضوء الشمس إلا قليلاً؛ ولذلك فإنها لا تصعد إلي السطح إلا لمامًا- من حين لآخر- لتلتهم صغار الأسماك التي تسرح في ضوء النهار، لتعود بعد ذلك إلي عتمة الأعماق، ولكنها لا تلاحق تلك الأسماك الصغيرة التي تلوذ بالمياه الضحلة في النهار؛ لأنها مياه بلا عمق؛ لا تعرف الظلام إلا حينما يأتي الليل. وفي الليل تترصع قبة السماء بملايين النجوم، فتشعرك بالمهابة والجلال الذي يكلله الصمت. يقطع هذا الصمت أحيانًا جلبة هائلة لوحش بحري سرعان ما تختفي، ولكنها ليست جلبة الضجيج والإزعاج، وإنما جلبة المهابة التي تشق صمت الليل، والتي تتناغم في الوقت ذاته مع صمته وجلاله. تسرح الكائنات الكبيرة في الليل، وكذلك تسرح العقول الكبيرة التي تجعل مجمل هذا الكون بسائر كائناته موضوعًا لتأملها: إنها عقول ليست منشغلة بإمعان الفكر في مصالحها الشخصية، وإنما منشغلة بمتعة الفهم والمعرفة والكشف... فهم الطبيعة والبشر، فمجموعهما هو الكون، بل الوجود ذاته؛ لأن الطبيعة لا معني لها بدون البشر الذين يتأملونها، أما البشر الذين لا يتأملون الطبيعة.. تلك الكثرة التي تسرح بالنهار وربما بالليل أيضًا من أجل القوت فحسب، فإنها تصبح جزءًا من الطبيعة، أعني تصبح موضوعًا للتأمل الذي تضطلع به العقول الكبيرة: عقول الفلاسفة والشعراء والفنانين بوجه عام؛ فكما أن الليل يبث خواطره التي يوحي بها إلي العقول الكبيرة، فإنه يبث أيضًا شجونه المقترنة بتلك الخواطر أو الخاطرات. الليل عندي حاض علي تأمل الكائنات، بل تأمل الكون ذاته! طالما عايشت تجربة التأمل تلك في أثناء رحلات الصيد التي كنت أقوم بها مع صديق أو بضعة أصدقاء، خاصةً في البحر الأحمر أو في بحر الخليج العربي أو في خليج عُمان المتصل بالمحيط الهندي. فسواء كنت أبيت الليل علي الشاطئ أو علي السطح العلوي لقارب كبير، كنت استلقي علي ظهري موليًا وجهي شطر قبة السماء. مهما كانت متعة الصيد في الليل متألقة، كنت أختلس سويعات منها لأخلد فيها إلي الراحة والنوم. تبدأ طقوس الراحة بتأمل قبة السماء التي لا يعرفها أغلب البشر الذين يعيشون في المدن... حالة من المهابة أو الجلال المقترن بالجمال علي أنحاء شتي، تتسلل منها تدريجيًا حالة من الخدر التي تسري في أوصالي. الليل في ضوء القمر له جماله وسحره الخاص في عالم البحار: تترقرق موجات ضوء القمر علي صفحة الماء الهادئ، فتؤثر فيها؛ فبالارتفاع التدريجي للقمر متجهًا نحو مركز قبة السماء تضطرب حركة الماء لتهدأ بعد ذلك حينما يعتلي القمر قبة السماء، وتهدأ في الوقت ذاته حركة الصيد، لتنتعش بعد ذلك عندما يبدأ القمر في النزول، في التواري التدريجي. أجمل لحظات تأمل قبة السماء في الليل، كانت تتمثل لي حينما يكون القمر غائبًا أو خافتًا؛ لأن هذا يتيح لي تأمل مشهد السماء المرصعة بالنجوم.. تأمل الضوء الخافت المنبعث من مليارات النجوم علي نحو يبدد عتمة السماء. تري أين نحن من هذا الكون الممتد إلي ما لا نهاية؟ وكم من البشر غافلون عن معني هذا المشهد الليلي ومغزاه؟ وإذا كان النهار كاشف، فإن الليل ساتر. يستر الليل من يريدون الاحتماء به ويستودعونه أسرارهم. يبسط النهار يديه لكل وارد، لكل من هب ودب، ولكن الليل يُؤوي مريديه ويحتضنهم.. يحفظ أسرارهم، ويجود عليهم بأسراره وخباياه. ولليل روائحه: روائح النهار عندي معدودة أو معدومة، بينما روائح الليل فواحة معلومة. هذي الشجيرات تُسمي مسك الليل، لا تبث عبيرها إلا حينما يُرخِي الليل سدوله، ولا تبثها قبل ذلك إلا علي استحياء. وفي غسق الليل ينزل الندي علي التربة وسائر الأشجار فتفوح في المكان رائحة لا يعرفها النهار؛ إذ ينقشع معه الندي، فتتلاشي تدريجيًّا تلك الرائحة.. إنها عندي رائحة "مَنِيِّ الطبيعة": المني الذي يُلقِّح الطبيعة، ويكسبها بكارتها المتجددة علي الدوام. يعرف تلك الرائحة من عاش بقرب حقول الريف أو تجول فيها خلال الهزيع الأخير من الليل. وكما أن لليل روائحه وعبيره، فإن له أصواته وهمساته، يكمن جمالها في أنها تشق سكونه العميق، إنها أصوات السكون... أصوات مقترنة بالسكون ولا معني لها بدونه: من تلك الأصوات الأثيرة عندي نقيق الضفادع وذلك الصوت المميز الصادر عن صراصير المزارع الذي لا أعرف له اسمًا، هناك حالة من التلازم الحميم عندي بين سكون الليل وتلك الأصوات التي تتناغم مع سكونه في كل بقعة من ريف مصر! ما الصلة بين الليل ونقيق الضفادع والأصوات الصادرة عن صراصير المزارع. لا أعرف لذلك كله اسمًا أو وصفًا. تأمل الضوء الخافت المنبعث من مليارات النجوم علي نحو يبدد عتمة السماء. تري أين نحن من هذا الكون الممتد إلي ما لا نهاية؟ وكم من البشر غافلون عن معني هذا المشهد الليلي ومغزاه؟