انطلاقة نارية.. «المشروع X» يقترب من 9 ملايين جنيه في يومين    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الجمعة 23 مايو 2025 بأسواق دمياط    وزير البترول: تحويل الثروة المعدنية لهيئة اقتصادية أحد ثمار العمل التكاملي بين الجهات التنفيذية والتشريعية    البحر الأحمر.. قاطرة التنمية الشاملة ب189 مشروعًا واستثمارات ب5.7 مليار جنيه    وزير الزراعة: الانتهاء من حصاد 3.1 مليون فدان قمح حتى الآن بنسبة تتجاوز 98%    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لبحث تطورات القضية الفلسطينية    الأمم المتحدة: مدينة غزة تشهد تدفقا متزايدا للنازحين    سفيرة الاتحاد الأوروبي بالقاهرة: شراكتنا الاستراتيجية مع مصر شهادة ثقة وجدارة مستحقة لما تحقق من إنجازات بقيادة الرئيس السيسي    الصحة العالمية: النظام الصحي على وشك الانهيار في غزة مع تصاعد الأعمال العدائية    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي    نهائي دوري أبطال أفريقيا.. مدرب وقائد بيراميدز في مؤتمر صحفي قبل مواجهة صن داونز    كلوب يحضر مباراة ليفربول وكريستال بالاس في ختام البريميرليج من الملعب    ريال مدريد يُعلن رحيل أنشيلوتي    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    رئيس بعثة الحج: وصول 9360 حاجا من بعثة القرعة إلى مكة المكرمة    مقتل 4 عناصر إجرامية في مواجهة مع الشرطة وضبط باقي التشكيل بمخدرات وأسلحة    الأرصاد تحذر من حالة الطقس: موجة حارة تضرب البلاد.. وذروتها في هذا الموعد (فيديو)    تصحيح فورى ودقيق لامتحانات النقل.. و"التعليم" تشدد على الالتزام بالنماذج    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    محمد رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    «بليغ ووردة» على المسرح الكبير بقيادة رئيس دار الأوبرا ويحييها 4 مطربين الجمعة    البيان الختامى للاجتماع الوزاري الافريقي-الأوروبي يشير لاعتماد الاتحاد الافريقي ترشيح خالد العناني لليونسكو    "عبدالغفار" يشارك في مائدة مستديرة حول التمويل المستدام لتسريع التغطية الصحية الشاملة ب«جنيف»    الصحة تعقد اجتماعا تحضيريا لتنفيذ خطة التأمين الطبي لساحل المتوسط خلال الصيف    محافظ أسيوط يشهد تسليم 840 آلة جراحية معاد تأهيلها    محافظ سوهاج يفتتح ميدان سيتي بعد تطويره ويتفقد مشروعات التجميل بالمدينة    «الشيوخ» يناقش تعديلات قانونه ل«تقسيم الدوائر» غدا    انطلاق قافلة دعوية إلى مساجد الشيخ زويد ورفح بشمال سيناء    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    وزير الري: تحديات المياه في مصر وأفريقيا تتطلب مزيدًا من التعاون وبناء القدرات    «يد الأهلي» يواجه الزمالك اليوم في نهائي كأس الكؤوس الإفريقية.. اعرف موعد المباراة    الهلال يفاوض أوسيمين    بروتوكول تعاون بين "الإسكان" و"الثقافة" لتحويل المدن الجديدة إلى متاحف مفتوحة    بسمة وهبة ل مها الصغير: أفتكري أيامك الحلوة مع السقا عشان ولادك    نبيلة مكرم تكشف لأول مرة عن أسرار خاصة بشأن أزمة نجلها "رامي"    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    الإفتاء توضح سنن يوم الجمعة .. أبرزها الإغتسال    النحاس يدرس استبعاد إمام عاشور من ودية الأهلى اليوم بسبب الوعكة الصحية    وزير الاستثمار يلتقي رئيس "أبوظبي للطيران" لاستعراض مجالات التعاون    وزير التعليم العالى يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين جامعتى إيست لندن إيست كابيتال    الرعاية الصحية: التعاون مع منظمة الهجرة الدولية في تقديم الخدمات للاجئين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 23-5-2025 في محافظة قنا    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    مجدي البدوي: علاوة دورية وربط بالأجر التأميني| خاص    حقيقة انفصال مطرب المهرجانات مسلم ويارا تامر بعد 24 ساعة زواج    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    موعد نهائي كأس أفريقيا لليد بين الأهلي والزمالك    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    ما حكم ترك طواف الوداع للحائض؟ شوقي علام يجيب    الفنان محمد رمضان يسدد 26 مليون جنيه لصالح شبكة قنوات فضائية    رسميًا بعد قرار المركزي.. ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 23 مايو 2025    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    «بربع كيلو فقط».. حضري «سينابون اللحمة» بطريقة الفنادق (المكونات والخطوات)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زنزانة رقم واحد
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 09 - 2011

كان جارنا (أوستيا) هو من فعلها في المرة الأولي التي تعرضنا لها للسرقة. دخل من شباك غرفة الطعام وسرق التلفاز وجهاز الفيديو وشرائط الفيديو التي أحضرها أبي معه من أمريكا. أما في المرة الثانية فكان السارق هو أخي (نامابيا) الذي صور لنا أن البيت تعرض للاقتحام وسرق مجوهرات أمي. حدث ذلك في يوم أحد، كان والداي قد سافرا إلي مسقط رأسهما لزيارة جدي وجدتي، فذهبت أنا ونامابيا إلي الكنيسة وحدنا. قاد هو سيارة أمي البيجو 504 الخضراء، وفي الكنيسة جلس إلي جواري كالعادة، لكننا لم نتهامس بملاحظات ساخرة حول قبعة قبيحة أو قفطان رث لأحدهم لأنه غادر دون سابق إنذار بعد حوالي عشر دقائق. وعاد قبيل قول القسيس "انتهي القداس، صحبتكم السلامة". كنت منزعجة قليلًا؛ ظننت أنه خرج يدخن سيجارة أو يقابل إحدي الفتيات، لكن كان عليه علي الأقل أن يخبرني. في طريق العودة التزمنا الصمت، وعندما ركن السيارة في الممر الطويل أمام منزلنا وتقدم ليفتح الباب توقفت لأقطف بعض زهور الإكزورا، ثم دخلت لأجده واقفًا بلا حراك وسط الصالة.
قال: "سُرِقنا!"
مرت لحظات تمكنت بعدها من استيعاب الموقف ودخلت الغرفة. بدت لي الصورة أقرب إلي مشهد مسرحي؛ الطريقة التي فُتحت بها الأدراج توحي بأن من فعلها كان يقصد أن يترك انطباعًا محددًا علي من سيكتشف الأمر، أو ربما فكرت في ذلك لأني أعرف أخي جيدًا. لاحقًا بعد أن وصل والداي وبدأ الجيران في التجمهر والإعراب عن أسفهم والعض علي أصابعهم، صعدت وحدي إلي حجرتي وأدركت وقتها سبب الغثيان الذي أصابني؛ نامابيا هو من فعلها، أعرف ذلك. أبي أيضًا كان يعرف. أشار إلي أن الشباك تم فتحه من الداخل وليس من الخارج (نامابيا أذكي من أن يخطئ خطأ كهذا لكنه ربما كان متعجلًا ليعود إلي الكنيسة قبل انتهاء القداس). قال أبي أيضًا أن السارق كان يعرف أين تحتفظ أمي بمجوهراتها بالتحديد، في الجانب الأيسر من الجزء الخلفي من الصندوق المعدني الكبير. ثبت نامابيا عينيه بنظرة متألمة إلي أبي وقال أنه ربما تسبب في مشاكل كبيرة في الماضي، لكنه أبدًا لم يسرق ولا دخل له بالأمر، ثم خرج من الباب الخلفي ولم يعد إلي البيت في هذه الليلة، ولا الليلة التالية، ولا التي بعدها. مر أسبوعان عاد بعدهما هزيلًا تفوح منه رائحة البيرة، وتأسف قائلًا وهو يبكي أنه رهن المجوهرات عند تجار من جماعة الهوسا(1) في إينوجو(2) وأضاع المال كله.
سألته أمي: "كم دفعوا لك مقابل مجوهراتي؟". وحين أخبرها وضعت يديها فوق رأسها وصرخت "يا للخسارة! أضعتنا وأضعت مالنا!" كما لو أن كل ما تمنته هو أن يحصل علي سعر مناسب مقابل المجوهرات. أردت في هذه اللحظة أن أصفعها. طلب أبي من نامابيا أن يكتب تقريرًا حول ما حدث؛ كيف باع المجوهرات وفيم أنفق المال ومن شاركه ذلك. لم أعتقد أن نامابيا سيقول الحق، وأظن أن أبي كان يفكر مثلي أيضًا، لكنه -الأستاذ الجامعي- كان يحب التقارير، يحب أن يري الأحداث مدونة وموثقة بعناية. فضلًا عن أن أخي نامابيا كان في السابعة عشرة من عمره بلحية مهذبة، شاب في الفترة ما بين المدرسة الثانوية والجامعة لا يصح ضربه بالعصا. ما الذي كان من الممكن أن يفعله أبي غير ذلك؟. انتهي نامابيا من كتابة التقرير ووضعه أبي في الدرج الفولاذي الذي يحتفظ بداخله بالأوراق الخاصة بدراستنا.
..وأن يجرح أمه هكذا" كانت هي الكلمات الأخيرة التي تمتم بها أبي.
لكن نامابيا لم يكن يقصد أن يجرحها. سرق المجوهرات لأنها الشيء الوحيد الذي له قيمة في المنزل؛ مجموعة من القطع ذهبية هي شقاء عمر كامل. كما دفعه ما رآه من أبناء المدرسين الآخرين الذين سرقوا أباءهم. كان موسم السرقة في حرم نسوكا الجامعي الهادئ. الأولاد الذين تربوا علي مشاهدة شارع سمسم وقراءة قصص (إنيد بيتلون)(3) وتناول الكورن فليكس علي الإفطار، الذين يذهبون بصنادلهم البنية اللامعة إلي المدرسة الابتدائية الخاصة بأبناء أساتذة الجامعة، هم نفسهم من يقطعون شبكات البعوض المثبتة علي شبابيك جيرانهم ويفتحون درفها ليقتحموا المنزل ويسرقوا أجهزة التلفاز والفيديو. كنا نعرف السارقين. ومع ذلك، كان إذا التقي آباؤهم من الأساتذة في نادي موظفي الجامعة أو في الكنيسة أو في اجتماع لهيئة التدريس يواصلون الشكوي من البلطجية الذين يأتون من المدينة إلي الحرم المقدس للسرقة.
كان الأولاد اللصوص معروفين في الحرم. يقودون سيارات آبائهم جالسين علي مقاعد بمساند مائلة للخلف وأذرعهم ممدودة لتصل إلي عجلة القيادة. كان أوستيا -جارنا الذي سرقنا قبل أن يفعلها نامابيا بأسابيع- شابًا رشيقًا ووسيمًا لدرجة تدعو إلي التأمل. كان يمشي كقطة وقمصانه دائمًا مكوية بعناية. وكنت أسرح وأنا أنظر باتجاه السياج وأتخيله يقترب مني ويطلب يدي. لكنه أبدًا لم يلحظني. بعد أن سرق أشياءنا لم يذهب أبي إلي الأستاذ (إبوب) ليطلب منه أن يعيد ما سرقه ابنه. لكنهم أعلنوها؛ فعلها بلطجي من المدينة، رغم علمهم بأنه اوستيا. كان يكبر نامبيا بعامين؛ كمعظم الأولاد اللصوص، وربما لهذا السبب تحديدًا لم يسرق نامابيا أحد جيراننا. ربما شعر أن عمره لا يؤهله لسرقة ما هو أبعد من مجوهرات أمي.
نامابيا يشبه أمي تمامًا، ببشرتها العسلية وعينيها الواسعتين وشفتيها الممتلئتين بانحناءاتهما الجذابة. وكانت حين تأخذنا معها إلي السوق، يصيح بها البائعون "لم أضعتي بشرتك الفاتحة الجميلة علي الولد وتركتي البنت بسوادها هذا؟ ماذا سيفعل ولد بكل هذا الجمال؟" وكانت أمي تكتم ضحكتها، كما لو أن جمال نامابيا مسؤوليتها المختلطة بالعبث والزهو. حين كسر نامابيا زجاج شباك فصله بحجارة وهو في الحادية عشرة أعطته أمي النقود لاستبداله ولم تخبر أبي. وبعدها بسنوات قليلة عندما أخذ مفتاح سيارة أبي وضغطه علي قطعة صابون عثر عليها أبي قبل أن يأخذها نامابيا إلي صانع الأقفال، أخذت تتكلم بنبرة غير واثقة عن أنه كان يجرب فقط وأن ما فعله لا يعني أي شيء. وفي المرة التي سرق فيها أسئلة الامتحان من غرفة المكتب وباعها لطلاب أبي، نهرته لكنها عادت لتقول أنه بلغ السادسة عشرة وينبغي أن يزيد مصروفه.
لا أعرف إن كان نامابيا قد شعر بشيء من الندم علي سرقة المجوهرات. ملامح وجهه الطيبة وابتسامته الدائمة تبدو كحاجز يخفي مشاعره. لم أتحدث عن ذلك معه ولا ناقشه أبي. وبالرغم من أن خالتي أرسلت لأمي قرطها الذهبي، واشترت هي سلسلة من السيدة موزي -الجميلة التي تستورد ذهبًا من إيطاليا- وبدأت تزورها كل شهر لتدفع
قسطهم، لم نتحدث عن فقد المجوهرات . كما لو أننا إذا تظاهرنا بأن نامابيا لم يفعل شيئًا سيسهل عليه ذلك أن يبدأ من جديد. وربما لم نكن لنذكر حادث السرقة أبدًا إن لم يتم القبض عليه بعدها بعامين في عامه الجامعي الثاني.
في التوقيت نفسه كان موسم الطائفية في حرم نسوكا قد بدأ حيث تجد نفسك محاطًا بلافتات مكتوب عليها بالخط العريض "لا للطائفية". كانت طائفتا القراصنة والفأس الأسود هما الأكثر شهرة. وكانا قد اتفقا علي ميثاق صلح شفهي في وقت ما، لكن العلاقة تطورت علي غير المتوقع؛ والآن قد يمر ولد في الثامنة عشرة من عمره مولعًا بالراب الأمريكي بمرحلة التلقين السري ونجده بعدها جثة هامدة عند تل (أوديم). وقد يغازل أحدهم الفتاة التي يتضح أنها عشيقة زعيم طائفة الفأس الأسود، وحين يخرج بعدها لشراء سيجارة من كشك يُطعن بين فخذيه. يتضح بعد ذلك أنه ينتمي لطائفة القراصنة، وعندها يتجه زملاؤه من أعضاء الطائفة إلي الحانة ليصوبوا مسدساتهم علي ساق أول من يجدوه أمامهم من طائفة الفأس الأسود. في اليوم التالي يُقتل آخر من القراصنة في المطعم وتُترك جثته فوق الأطباق الألومنيوم، وفي الليلة نفسها يُعذب أحد أعضاء طائفة الفأس الأسود من أبناء الأساتذة- في حجرته ويعثر عليه ميتًا بجانب جهاز السي دي الغارق في دمه. بدا ذلك كله تافهًا. كان في بدايته شاذًا لكنه مع الوقت أصبح عاديًا. وفي أحد هذه الأيام التزمت البنات الفصول بعد المحاضرات، وارتعد المحاضِرون، وطنين ذبابة بصوت مرتفع كان كافيًا ليفزع الجميع حيث تم استدعاء رجال الشرطة الذين وصلوا بسرعة إلي الحرم الجامعي في سيارتهم البيجو 505 الزرقاء الكسيحة، حدقوا في الطلاب بينما كانت مسدساتهم الصدئة تخرج من نوافذ السيارة. عاد يومها نامابيا إلي المنزل بعد انتهاء محاضراته، وكان يضحك قائلًا أنه كان يتوقع من رجال الشرطة أداء أفضل؛ فالكل يعلم أن الطائفيين لديهم أسلحة أحدث بكثير.
نظر والداي إلي نامابيا دون أن يقول أحدهما كلمة واحدة، وأعرف أنهم أيضًا كانا يتساءلا ما إذا كان منضمًا إلي إحدي الطوائف. كان أعضاء الطوائف مشهورين وكان نامابيا أيضًا كذلك. يطلقون عليه ألقابًا ويصافحونه أينما ذهب، أما البنات -خاصة المعروفات منهن- كُن يعانقنه طويلًا عند السلام. كان يحضر كل الحفلات- البريئة التي تتم داخل الحرم والأخري الطائشة في المدينة- وكان من النوع الذي يروق للبنات وللأولاد أيضًا، يدخن علبة سجائر "روثمانز" في اليوم، وقيل أنه شرب صندوق بيرة "ستار" كاملًا في ليلة واحدة. لكنه كان أميل إلي مصادقة الطائفيين من أن يكون واحدًا منهم.
في المرة الوحيدة التي سألته فيها ما إذا كان منتميًا إلي إحدي الطوائف، نظر إلي متفاجئًا كما لو أنه يقول لي أن الإجابة بديهية وما كان يصح أن أوجه له سؤالًا كهذا ثم رد "بالطبع لا". صدقته، وصدقه أبي أيضًا حين سأله. لكن هذا لم يكن مهمًا بعد أن قُبِض عليه بالفعل لانتماءه إلي إحدي الطوائف.
حدث ذلك في يوم اثنين؛ كان الجو رطبًا وأربعة من الطائفيين يقفون عند بوابة الحرم متربصين للأستاذة التي وصلت في سيارتها المرسيدس الحمراء. قاموا بتصويب مسدس نحو رأسها، وأخرجوها من سيارتها واتجهوا بالسيارة إلي كلية الهندسة وهناك أطلقوا الرصاص علي ثلاثة أولاد أثناء خروجهم من المبني. كان ذلك في منتصف النهار، وكنت أنا في قاعة محاضرات غير بعيدة عن مكان الحادث، وبمجرد سماع صوت طلقات الرصاص هرعنا إلي الخارج وكان المُحاضر في مقدمتنا. الصراخ يتعالي والسلالم اكتظت فجأة بالطلاب الذين لم يعرفوا إلي أين يتجهوا بالضبط. وبالخارج كانت الجثث الثلاث ترقد علي العشب أما السيارة المرسيدس فلم تكن في المشهد. جمع معظم الطلاب أشياءهم بسرعة وخرجوا حيث كان سائقو الأوكادا(4) بانتظارهم ليقلوهم إلي محطة الأوتوبيسات مقابل ضعف الأجرة المعتادة. وفي نفس اليوم أعلن وكيل الجامعة إلغاء محاضرات الفترة المسائية وأمر الجميع أن يلزم البيت بعد التاسعة مساءً. فكرت أنه قرار عبثي لأن الحادث تم في وضح النهار، وربما هكذا أيضًا فكر نامابيا لأنه لم يعد إلي المنزل في أول ليلة طُبق فيها حظر التجول. توقعت أنه فضل قضاء الليلة مع أحد الأصدقاء، وهذا ليس غريبًا عليه. لكن في صباح اليوم التالي جاءنا أحد رجال الأمن وأخبر والديَّ أنه تم القبض علي نامابيا في حانة مع بعض أولاد الطوائف وأنه محجوز في قسم الشرطة. صرخت أمي "لا! لا تقل هذا!"، بينما تقدم أبي في هدوء وشكر رجل الأمن. انتقلنا إلي قسم الشرطة بالمدينة، وهناك قابلنا الشرطي الذي كان يعض علي رأس قلمه القديم، قال "أتقصدون الأولاد الذين قبض عليهم بالأمس؟. تم نقلهم إلي إينوجو، قضيتهم خطيرة جدًا! يجب أن نوقف هذه المهزلة الطائفية عند حدها!"
عدنا إلي السيارة ومعنا دافع جديد للخوف. نسوكا محدودة المساحة، نعرفها من شرقها إلي غربها؛ مكان هادئ يميزه الحرم الجامعي الصغير، كما كان أبي علي معرفة بمفتش قسم الشرطة. لكن إينوجو مكانًا مجهولًا لنا. وهناك قد يفعل رجال الشرطة ما نعرفه حين يتم الضغط عليهم لتحقيق النتائج المطلوبة: يقتلون المتهمين.
كان قسم شرطة إينوجو في مبني كبير رملي اللون. وهناك قامت أمي برشوة الشرطي بالمال وقدمت له طبقًا من الأرز واللحم فسمح لأخي أن يخرج من زنزانته ويجلس معنا علي مقعد خشبي تحت شجرة مانجو. لم يسأل أحد عن سبب غيابه عن المنزل في الليلة السابقة، ولا علق أحد قائلًا أن رجال الشرطة أخطأوا حين ألقوا القبض علي كل من في الحانة وحتي النادل. لم نبدأ بالحديث وفضلنا سماع نامابيا الذي بدأ كلامه قائلًا "لو تم إدارة نيجيريا كهذه الزنزانة، لن نواجه أي مشاكل. كل شيء هنا منظم. زنزانتنا لها زعيم والزعيم له مساعد، وعند دخولك إلي الزنزانة عليك أن تدفع له وإن لم تفعل فأنت في ورطة."
سألته أمي: "وهل لديك ما تدفعه؟"
أضفت ابتسامة نامابيا جمالًا زائدًا علي وجهه رغم لدغة الحشرةالتي تظهر علي جبهته كبثرة، وقال أنه أدخل بعض النقود في فتحة شرجه فور القبض عليه. كان متأكدًا من أن رجال الشرطة سيأخذوا نقوده إن لم يخفها، وفكر أنه قد يحتاجها للدفع مقابل أمانَه داخل الزنزانة. لم يعلق والداي لفترة، بينما كنت أتخيل نامابيا يلف مائة نايرا(5) لتصبح كسيجارة رفيعة ثم يدخل يده في بنطلونه من الخلف ليخفيها. أثناء عودتنا إلي نسوكا قال أبي "هذا ما كان علي فعله ردًا علي سرقته لمجوهراتك. كان يجب أن أحبسه في زنزانة."
حدقت أمي خارج نافذة السيارة، وسألت أنا: "لماذا؟"
فرد أبي مبتسمًا: "لأن ذلك هزّه. ألا ترين؟". لم أكن أري ما يراه أبي، وبدا لي نامابيا بخير، يخفي أمواله بفتحة شرجه وكل شيء علي ما يرام.
كانت صدمة نامابيا الأولي حين رأي أحد أعضاء طائفة القراصنة يبكي بحرقة. كان شابًا يافعًا قوي البنية أشيع عنه أنه أحد القتلة ومرشح لأن يصبح زعيم القراصنة في المرحلة المقبلة، وبالرغم من ذلك كان يجلس في ركن الزنزانة مرتعدًا يبكي بصوت مسموع بعد أن صفعه زعيم الزنزانة علي مؤخرة رأسه. كان صوت نامابيا مشمئزًا ومحبَطًا وهو يخبرني بذلك كما لو أن الرجل الأخضر أصبح حقيقة متمثلة أمامه. أما صدمته الثانية كانت متعلقة بزنزانة أخري بعيدة، الزنزانة رقم واحد. لم يكن قد دخلها، لكن كل يوم كان يمر من أمامه شرطيان يحملا جثة لأحد سجناء الزنزانة رقم واحد، يتوقفا أمام زنزانة نامابيا ليتأكدا من أن الجميع قد رأي الجثة ثم يواصلا طريقهما.
كان من يقدر من السجناء علي شراء المياه التي تأتيهم في صفائح الطلاء البلاستيكي الملونة يستحم كل يومين. وعندما كان يسمح لهم بالخروج إلي الفناء، كان رجال الشرطة يراقبوهم وغالبًا ما كانوا يصيحون بأحدهم "توقف عما تفعله وإلا تنقل إلي الزنزانة واحد الآن!"، لم يكن نامابيا يتخيل أن هناك مكان أسوأ من زنزانته المزدحمة لدرجة كانت تجعله أحيانًا يضطر إلي الوقوف ملاصقًا للحائط. الحائط الملئ بالشقوق التي اتخذتها الحشرات بيوتًا، لدغتها قوية وحادة، وحين صرخ منها سخر منه السجناء. كانت اللدغة أسوأ في الليل وهم نائمون علي أحد جانبيهم حيث تكون رأس أحدهم مجاورة لقدم الآخر لاستغلال المساحة كلها، ما عدا الزعيم الذي كان بكامل جسده مستريحًا ممددًا ظهره علي الأرض. كان الزعيم أيضًا هو من يقسِّم طبقي الأرز اللذين يصلا إلي الزنزانة كل يوم؛ ملعقتان فقط لكل واحد.
حكي لنا نامابيا ذلك خلال الأسبوع الأول. وبينما هو يتحدث كنت أتساءل ما إذا كانت البثور التي انتشرت علي جبهته هي لدغات الحشرات أم أن عدوي ما قد أصابته. كان يعلو بعضها صديد مائل للاصفرار، ونادرًا ما كان يحكها. كنت أريده أن يتوقف عن الكلام، لكن من الواضح أنه كان مستمتعًا بدوره الجديد كشخص مذلول لديه ما يعاني منه، ولم يكن يُدرك كم هو محظوظ لأن الشرطي سمح له بالخروج وتناول الطعام الذي أحضرناه له، أو كم كان أحمقًا حين غاب عن المنزل في هذه الليلة وظل بالخارج وهو سكران، ولم يكن منشغلًا بصعوبة الإفراج عنه.
زرناه يوميًا طوال الأسبوع الأول. كنا ننتقل إلي إينوجو بسيارة أبي الفولفو لأن البيجو لم تكن ستسعفنا في الطرق الطويلة. بنهاية الأسبوع لاحظت أن والديّ يتصرفان بأسلوب غريب ولطيف في الوقت نفسه. فلم يعد أبي يعلق علي جهل جهاز الشرطة وفساده عند مرورنا بنقاط التفتيش. لم يعد يذكرنا باليوم الذي أخرنا فيه الشرطي لأن أبي رفض أن يرشيه، أو بالواقعة التي قاموا فيها بإيقاف حافلة كانت ابنة عمي الجميلة أوجيتشي بين ركابها فأخرجوها وحدها ونادوها بالعاهرة لأنها كانت تحمل هاتفين خلويين، ثم طلبوا منها مالًا كثيرًا بينما كانت هي تجثو علي ركبتيها تحت المطر وتتوسل إليهم أن يطلقوا سراحها. ولم تتمتم أمي بكلمات حول أن الشرطي عَرَض لعلة كبري. لكنهما التزما الصمت، كما لو أن توقفهما عن انتقاد الشرطة سيزيد من فرص الإفراج عن نامابيا. "المسألة حساسة"؛ كان هو التعبير الذي استخدمه مفتش قسم نسوكا. وإخراج نامابيا في وقت قريب هو أحد إجراءات هذه المسألة الحساسة، خاصة وأن حديث مأمور قسم إينوجو حول اعتقال الطائفيين كان يغلب عليه التعالي والشماتة. كانت الأزمة الطائفية قد وصلت إلي مرحلة خطيرة بالفعل. وكان كبار المسؤولين في أبوجا(6) يتابعون الموقف، كان الجميع يحاول أن يبدو وكأنه يفعل شيئًا لإنهاء الأزمة.
في بداية الأسبوع الثاني قلت لوالديَّ أنه ليس علينا أن نذهب لزيارة نامابيا. لم نكن نعرف إلي متي سيستمر الأمر، وكان الطريق يستغرق ثلاث ساعات ذهابًا وعودة ولم نكن لنتحمل ثمن الوقود. كما أن نامابيا لن ينزعج إذا غبنا عنه يومًا واحدًا.
ردت أمي بأن أحدًا لم يطلب مني المجئ، ويمكنني أن أظل بالبيت أقضي وقتي كما أحب وأخي البرئ يعاني في زنزانته. لاحقتها متجهة نحو السيارة. وعندما خرجتُ لم أعرف كيف أتصرف، فأمسكت بحجارة كانت وسط زهور الإكزورا وقذفت بها الزجاج الأمامي للسيارة الفولفو. سمعت صوت تكسر الزجاج ورأيت الخطوط الصغيرة تنتشر كالأشعة عليه قبل أن أستدير وأنطلق إلي حجرتي وأغلق بابها. سمعت أمي تصيح، وسمعت صوت أبي أيضًا، ثم كان الصمت. لم يقم أحد بزيارة نامابيا في هذا اليوم. وكان انتصار بسيط كهذا مفاجئًا لي.
زرناه في اليوم التالي. في الطريق لم نتحدث عن زجاج السيارة رغم أن الشقوق كانت واضحة كشقوق علي نهر متجمد. وهناك سألنا الشرطي الأسمر اللطيف الجالس أمام مكتبه عن سبب غيابنا بالأمس، وقال أنه افتقد الأرز الذي تحضره أمي. وتوقعت أن يسألنا نامابيا أيضًا لكنه لم يفعل ولم يكن غاضبًا، بدا متماسكًا بشكل مبالغ فيه، ولم يكمل طعامه.
سألته أمي: "ماذا بك؟"، فرد عليها وكأنه كان ينتظر السؤال. بالأمس انضم إلي الزنزانة رجل عجوز، تقريبًا في السبعين من عمره، بشعر أبيض وبشرة تظهر عليها التجاعيد وطلة تنبئ بالكرامة التي يتمسك بها الرجل. كان ابنه متهمًا بسطو مسلح ومطلوب القبض عليه، وحين عجز رجال الشرطة عن العثور علي المتهم قرروا حبس الوالد.
قال نامابيا: "لم يرتكب جرمًا"
فقالت أمي: "ولا أنت أيضًا"
هز نامابيا رأسه مشيرًا إلي أن أمي لم تستوعب ما حدث جيدًا. في الأيام التالية بدا أكثر حزنًا. قل كلامه وإذا تحدث يدور حديثه حول الرجل العجوز؛ عدم تحمله ثمن مياه الاستحمام، وسخرية الآخرين منه واتهامهم له بإخفاء ابنه وتجاهل زعيم الزنزانة له، وكيف أنه بدا مع الوقت منكمشًا وخائفًا.
سألته أمي: "هل يعرف مكان ابنه؟"
رد: "لم يره منذ أربعة أشهر."
فقالت: "مستحيل أن يكون ذلك صحيحًا. لكن علي أي حال هذا أسلوبهم إن لم يجدوا من يبحثوا عنه يقبضوا علي أحد أقاربه."
رد عليها نامابيا: "الرجل مريض، يداه ترتعشان حتي أثناء نومه."
ثم أغلق علبة الطعام والتفت إلي أبي قائلًا: "أريد أن أقدم له بعضًا من طعامي، لكن إذا دخلت به إلي الزنزانة سيأخذه الزعيم."
فتقدم أبي إلي الشرطي وسأله ما إذا كان من الممكن أن نقابل الرجل العجوز لدقائق معدودة. كان الشرطي الموجود وقتها هو الأبيض ذو النبرة اللاذعة الذي لم يشكر أمي أبدًا علي الأرز أو المال الذي تقدمه له كرشوة، استهزأ بكلام أبي وقال له "قد أفقد وظيفتي لسماحي بخروج ابنك، والآن تطلب خروج شخص آخر؟ هل تظنها رحلة مدرسية؟" عاد أبي وجلس متنهدًا بينما كان نامابيا صامتًا يحك وجهه الملئ بالبثور.
في اليوم التالي لم يمس نامابيا طعامه تقريبًا. قال أن رجال الشرطة دخلوا إلي الزنزانة وألقوا بالمياه والصابون علي الأرض وعلي الجدران كالعادة، وعندها قام العجوز الذي لم يستحم منذ أسبوع بخلع قميصه وفرك ظهره الضعيف بالأرض المبتلة. ضحك رجال الشرطة، وأمروه أن يخلع ملابسه بالكامل ويتمشي في الممر خارج الزنزانة؛ وعندما فعل تعالت ضحكاتهم وسألوه إن كان ابنه اللص يعرف أن مؤخرة أبيه ضامرة هكذا. كان نامابيا يحدق في الأرز أمامه أثناء حديثه، وعندما رفع رأسه كانت الدموع تملأ عينيه، وقتها شعرت بتعاطف معه لم أتمكن من وصفه.
حدث هجوم آخر علي الحرم بعد يومين، قطع أحدهم رأس آخر بفأس.
قالت أمي: "جيد، لن يمكن لأحد أن يدعي الآن أنهم قبضوا علي كل الطائفيين." لم نذهب إلي إينوجو في ذلك اليوم، لكن والداي ذهبا للقاء مفتش قسم شرطة نسوكا وعادا بأخبار طيبة. سيتم الإفراج عن نامابيا والنادل علي الفور حيث أكد أحد الطائفيين أثناء التحقيق معه أن نامابيا لم يكن عضوًا في أي طائفة. في اليوم التالي غادرنا المنزل مبكرًا علي غير العادة ودون أن نأخذ معنا طعامًا. وأمي التي كان يبدو عليها القلق دائمًا أثناء القيادة فتبالغ في إشارات تحذيرها لأبي طوال الطريق حتي ينتبه كأنه لا يري السيارات الأخري التي تنعطف بشكل مفاجئ لم تكن كذلك هذه المرة، حتي أن أبي توقف علي جانب الطريق قبل أن نصل وفاجئنا بقوله "كأنك لا تبدين اهتمامًا بهذا الذي يقود السيارة!"
عند وصولنا إلي قسم الشرطة كان شرطيان يجلدان رجلًا ممددًا علي الأرض. في البداية ظننته أخي ثم تصورت أنه العجوز. لكنه لم يكن أيًا منهما. كان يتلوي ويصرخ مع كل جلدة وتعرفت عليه حين اقتربنا. اسمه إيبوي، ملامحه تذكرني بكلاب الصيد، كان اعتاد أن يدور بسيارته اللكزس حول الحرم وقيل أنه ينتمي إلي القراصنة. حاولت ألا أطيل النظر إليه أثناء مرورنا، ولاحظت الشرطي -ذو الملامح القبلية الذي اعتاد أن يقول لأمي بعد أن يأخذ الرشوة "بارك الله فيك"- يلمحنا ويدير بصره، فعرفت أن هناك أمر ما. أعطاه أبي الورقة التي أخذها من مفتش الشرطة فلم يهتم. قال أنه يعرف بأمر الإفراج وأنه تم بالفعل إطلاق سراح النادل، لكن هناك مشكلة تتعلق بأخي. صاحت أمي "ماذا تعني؟ أين ابني؟"
نهض الشرطي من مكانه وقال "سأستدعي قائدي ليشرح لكم الأمر."
اندفعت أمي نحوه وجذبته من قميصه وهي تصيح "أين ابني؟ أين ابني؟". أبعدها أبي بصعوبة بينما توقف الشرطي للحظة ليمسح علي صدره كأنها وسخته ثم استدار ليكمل طريقه.
سأل أبي بصوت هادئ متزن "أين الولد؟" فتوقف الشرطي ليجيبه "أخذوه".
صرخت أمي "أخذوه؟ ماذا تقول؟ هل قتلتم ابني؟ قتلتوه؟"
فسأل أبي ثانية "أين ابني الآن؟"
"أمرني قائدي أن أخبره عند حضوركم." قالها الشرطي وانصرف مسرعًا.
عندها شعرت بخوف يقيدني ويمنعني من أن أتبعه وأجذبه من قميصه كما فعلت أمي حتي يأتي بنامابيا. جاء القائد وحاولت أن أستدل علي أي شئ من ملامحه.
قال لأبي "صباح الخير يا سيدي"
فسأله بينما كان لنفس أمي صوت مسموع "أين ابني؟"
"لا تقلق، تم نقله ليس إلا. سأصطحبك إليه الآن." كان الشرطي يتحدث بشيء من العصبية ولم تنبئ ملامحه بأي شيء لكنه كان يتحاشي النظر في عيني أبي.
"تم نقله؟"
"جاءنا الأمر هذا الصباح بنقله. كنت سأرسل شخصًا إليه لكن الوقود نفد وكنت أنتظر حضوركم لنذهب سويًا."
"ولم تم نقله؟"
"لم أكن هنا وقتها. قالوا أنه ارتكب أعمال شغب بالأمس فنقلوه إلي زنزانة رقم واحد، وفي المساء جاء الأمر بتحويل كل سجناء هذه الزنزانة إلي موقع آخر."
"ماذا تقصد بأعمال شغب؟"
"لا أعرف، لم أكن هنا يا سيدي."
سمعت صوت أمي المنكسر تقول "خذوني إلي ابني! خذوني إليه الآن!"
جلست في المقعد الخلفي مع الشرطي الذي كانت له رائحة الكافور القديم كالتي كانت تفوح من صندوق مجوهرات أمي. لم يتحدث إلا الشرطي، ولم يكن يتحدث إلا ليرشد أبي إلي الطريق. كان أبي يقود بسرعة غير عادية ووصلنا بعد حوالي خمسة عشر دقيقة. بدا المبني الصغير مُهمَلًا وكانت الساحة الأمامية مغطاة بالحشائش الذابلة والزجاجات القديمة والأكياس البلاستيكية. لم ينتظر الشرطي حتي يتوقف أبي وفتح باب السيارة وخرج مسرعًا. قيدني الخوف ثانية، كنا في منطقة مجهولة من المدينة ولم تكن هناك أي يافطات تشير إلي أننا في قسم شرطة، لم يكن يحيطنا سوي الهواء المثقل بالهجران. لكن الشرطي ظهر بعد قليل ومعه نامابيا. ها هو أخي الجميل يتجه نحونا، بدا كما كان تمامًا حتي اقترب من أمي وتقدمت لتعانقه فجفل وتراجع؛ كان ذراعه ملئ بالكدمات، ودم جاف حول أنفه.
سألته أمي "لم ضربوك هكذا؟". ثم استدارت نحو الشرطي "لم فعلتم هكذا بابني؟"
بدا الشرطي مستهجنًا وبدأ يتصرف بوقاحة كما لو أنه لم يكن متأكدًا من أن نامابيا علي قيد الحياة، والآن بعد أن اطمأن يمكنه أن يتحدث بثقة. "أنتم لا تربوا أبناءكم، لا يهمكم سوي مناصبكم بالجامعة، وعندما يجرم أحدهم تتوقعون ألا تتم معاقبته. أنتم محظوظون أنهم أفرجوا عنه."
قال أبي: "لنذهب"
فتح باب السيارة ودخل نامابيا واتجهنا إلي المنزل. لم يتوقف أبي عند أي نقطة تفتيش علي الطريق حتي أنه انطلق مسرعًا أمام الشرطي الذي وقف مشيرًا بسلاحه. لم تتحدث أمي إلا لتسأل نامابيا إن كان يحب أن نمر لنشتري الرقائق الملفوفة التي يفضلها، ولم يقل هو سوي لا. وصلنا إلي نسوكا وهناك أخيرًا تحدث.
"بالأمس جاء الشرطي وسأل العجوز إن كان يرغب في نصف صفيحة مجانية من المياه، وعندما قال نعم طلبوا منه أن يخلع ملابسه ويتمشي في الممر. كان معظم السجناء يضحكون، بينما أبدي بعضهم امتعاضه لمعاملة رجل عجوز بهذه الطريقة." توقف نامابيا قليلًا ثم واصل حديثه "صرخت في وجه الشرطي. قلت له أنه رجل مريض وأنه برئ، ولن يفيدهم حبسه في العثور علي ابنه لأنه لا يعرف مكانه. أمرني أن أسكت وإلا سيأخذني إلي زنزانة رقم واحد. لم أهتم ولم أسكت، فسحبني علي الأرض وصفعني وألقي بي في زنزانة واحد."
توقف نامابيا عند هذا الحد، ولم نسأله أن يُكمل. لكني تخيلته يسب الشرطي بالغبي الجبان، السادي، الوقح، والشرطي يقف مذهولًا وزعيم الزنزانة يحملق فيهما فاغرًا فاه بينما يقف الباقون مندهشين من جرأة الشاب الجامعي. وتخيلت نظرة العجوز أيضًا التي اكتسبت فخرًا مفاجئًا جعله يرفض أن يتعري. لم يحكِ نامابيا ما حدث له في زنزانة رقم واحد أو في المكان الآخر الذي تم نقله إليه. كان يمكن لأخي الساحر بسهولة أن يخلق حالة درامية مريرة وناعمة من قصته، لكنه لم يفعل.
هوامش
(1) الهوسا: أكبر مجموعة عرقية في غرب أفريقيا تتركز بشكل أساسي في شمال نيجيريا وجنوب شرق النيجر.
(2) إينوجو: إحدي ولايات نيجيريا.
(3) إنيد بليتون: كاتبة قصص مغامرات للأطفال.
(4) الأوكادا: ماركة دراجة بخارية تستخدم كوسيلة نقل في نيجيريا.
(5) نايرا: عملة نيجيريا.
(6) أبوجا: عاصمة نيجيريا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.