كتب لي أحدهم في أيام المحنة، قال: أعرف ولعك بالغريب من الأخبار، وهذا أحدها، أبعثه إليك رغم كل شيء. ذات يوم، وأنا أنتظر داعية السيد الجزائري، جاء جلوسي في الخارج بجوار شيخ مسن، رأيته يبتسم كلما اتفق أن ينبح كلب علي كلبة، ويقول: ايش هذا، عشنا وشفنا! فعرفت أنه من طائفة السليمانيين، وقلت هذا والله شيخ لا يجيد التخفي، لن يكون مقتل طائفته إلا علي يديه أو يدي أهوج مثله، فسألته: هل الشيخ من هذه الأنحاء؟ قال: لا أنا من الساحل الغربي، فقلت: وهل الشيخ سليماني؟ فارتج عليه، وقال: كيف عرفت؟ فقلت: ايش كيف عرفت وأنت تبتسم وتقول ايش هذا وعشنا وشفنا كلما هاج كلب علي كلبة، وعنفته قائلاً: اثبت يا رجل، ألم تسمع بما يحدث؟ الوضع هنا غيره في الساحل الغربي! فصمت الشيخ، وأحني رأسه خجلاً، وقال: لا تؤاخذني فأنا يا بني شيخ عجوز، خف عقلي، وأتعبني طول التخفي. ثم إنه أدام النظر إليَّ، وأكثر من التطلع في وجهي، ثم قال: من أين الفتي؟ إني أسمع لك لكنة، وأراك من غير هذه البلاد، فقلت، وأنا لا أريد الخوض في هذا الحديث، وأدفع عن نفسي نسمات أمسيات بوينيس أيرس التي استدعاها الحنين، قاتله الله: من بعيد. فقال: أعرف أن الغرباء يتجمعون، ويعرفون بعضهم البعض، قلت: نعم هذا يحدث أحياناً، فقال: هلا أوصلتني لأي مصري تعرفه، فعندي أمر جليل، وحديث خطير، ورسالة لابد أن تصل. فقلت لنفسي يبدو أنه لم يسمع بتعاليم السيد الجزائري، وسألته: عن أي أمر؟ فقال مؤكداً: خطب عظيم، واضطرابات في القاهرة وشيكة. قلت له وقد حدثتني نفسي أن أشتغله، وأنت تعرف أن اللعبية من تعاليم السيد: أيها الشيخ لقد عرفت سرك فلتعرف سري، اعلم أنك قد وجدت ضالتك وعثرت بمطلبك. قال: أحقاً ما تقول؟ قلت: وما الأمر غير ذلك! أنا ممن يقولون لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً، فأطرق لحظة ثم قال: هذا قول غريب، أوأنت أول من قال ذلك؟ قلت: لا والله، الكدب خيبة، هذا قول مأثور، مشهور في بلادنا، قال: ومن أول من قاله؟ فقلت: رجل منا قديم، فأطرق ثانية، ثم إنه أغمض عينيه وطال إغماضه فاستربت في أمره، وقلت: هل نام، أم مات؟ ما العمل يا رب؟ هل سأجلس هنا أنتظر إفاقته أم أنتظر حتي تأكل دابة الأرض منسأته؟ لكنه فتح عينيه فجأة، وقال كأنما يحدّث نفسه: هل هناك فرق بين الود والرغبة؟ قلت: ماذا تعني يا شيخ الخير؟ قال: أعني إنه إذا كان القائل قد قال، ما معناه: الرغبة هي الرغبة في رغبة الآخر، فهل ينطبق نفس الأمر علي الود؟ كأن نقول مثلاً: الود هو الود في ود الآخر؟ فلما قال ذلك عرفته شيخاً لاكانياً، ممن يناهضون المحللين النفسيين الأمريكيين ويؤمنون بفرويد الذي عاد إليه لاكان، لا أي فرويد آخر، ويتسمون بأسماء فرنسية، فسألته كي أتيقن: ما اسم الشيخ؟ فقال: اسمي جيمس، ويسميني المقربون مني فرانسوا، فكشف أمره بلسانه، وتيقنت أنه منهم. فلما تأكد ذلك لدي تبسمت وقلت في نفسي: بوه. بوه. شيخ سليماني ولاكاني أيضاً! أي عجيبة سنري بعد ذلك! وتمثلت بقول القائل، نثراً عامياً: يا مستغرب هتشوف أغرب! فلما رأي الشيخ تبسمي، وعرف أنني عرفت سره الثاني، اضطرب، وقال: لقد انتهي أمري، هذا والله يوم هلاكي وتيتم عيالي! ايش تعمل الآن يا فرانسوا! ايش تسوي الحين يا زفت يا فرانسوا! قلت: وهل لك عيال؟ قال: لي خمسة وثلاثون، فقلت لنفسي: وهذه أغرب، ثم إنني قلت له: أيها الشيخ، إن مثلك كمثل الأرنب كارب الذي أورد نفسه وعشيرته مورد الهلاك في أمرهم مع الأسد شارب، قال: وما حكاية الأرنب كارب مع الأسد شارب؟ قلت: ليس هذا بوقت حكايات، ألا تسمع دوي طلقات الرصاص يأتي من ضواحي المدينة؟ وألا تري أنهم يقتلون مائة أو يزيد في اليوم الواحد من طائفتكم ومن غيرها؟ فلما سمع مني ذلك ارتمي علي الأرض، وعفر لحيته بالتراب، وصاح، وناح، وقال: هذه نهايتك يا فرانسوا، فرق قلبي له، فقلت: لا تقلق أيها الشيخ، ثم زدت مستخدماً إحدي الباطنيات اللاكانية كي أهدئ من روعه: الرسالة التي تصل دائماً لن تصل هذه المرة. قال وقد أطمأن إليَّ: زدني جُعلت فداك، فهمست: لمهمة مثل هذه لن نجد وعداً في المشاعر الغيرية، نحن الذين نكشف اللثام عن العدوانية التي تنطوي عليها أنشطة محب الإنسانية، والمثالي، والمُعلم، وحتي المُصلح، قال: زدني، فتعجبت من لجاجته، ونظرت إلي زجاج واجهة المقهي وقلت، وقد نفد صبري عليه: لو كان هذا مرآة! قال: هلا زدتني؟ فزهقت منه، وقلت: لا زيادة ولا نقصان، إنك شيخ أهوج! فأطرق خجلاً، وسألني بصوت خافت: لكن هل أنت منا؟ فقلت لنفسي: وهل يقول من كان منهم إنه منهم وهم في هذه المحنة العظيمة! وزاد عجبي منه وسخطي عليه، لكنني التزمت الصمت، وتذكرت نبي الإسلام محمد حين سأله معاذ بن جبل، وهو أحد أتباعه: وهل نحن لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فأمسك بلسانه وقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس علي وجوههم، (أو قال مناخرهم) إلا حصائد ألسنتهم! ثم أنني تركته وعدت إلي الداخل، غير آسف علي عدم الإلمام بقصة الأمر الجليل الذي لديه، ذلك أن الجهل بالشيء، كما هو ثابت، ولا العلم به. المهم، أيها الصديق العزيز، أن هذا ما كان من أمر لقائي بالشيخ السليماني، وسره اللاكاني، ولتذكرني، يا أخي، في كتابك "موسوعة العجائب" الذي أرجو أن تنتهي منه قريباً، ولتأخذ حذرك، ولتحتفظ برأسك فوق كتفيك في هذه الأيام الصعبة، والسلام مني، ومن السيد الجزائري.